في المشهد الصحوي بعض الناس يشكلون ظاهرة تبدو غريبة وتستحق الرصد والتحليل ومن ثم البحث عن المآلات. حفنة من الناشطين شغلهم في إثارة الغبار تحت أقدام مَن ينجح مِن أقرانهم. من هؤلاء؟، ولم يثيرون الغبار على أقرانهم؟!
نبدأ ببعض المشاهد لتوضيح الظاهرة:
بعد ثورة يناير2011 شارك الإسلاميون في العملية السياسية بأدوات الديمقراطية، لم يكد يتخلف منهم أحد (الجهاد، والجماعة الإسلامية، والقطبيون، والسلفيون، فضلًا عن الإخوان، والجزء السائل الذي لا ينتمي لجماعة بعينها..) إلا هؤلاء: أخذوا جانبًا وراحوا يثيرون الغبار على الجميع، وعلا صوتهم بشعارات مثل: “مشركون في سبيل الله”، “نصرهم الله فانتكسوا”، “الهوية قضية كلية لا يمكن التنازل عنها”.
وحين صعد الإسلاميون للسلطة، وتولى شخص متدين، بل يتهم بأنهم متشدد (قطبي) عادوا ثانية يثيرون الغبار عن طريق المطالبة بالتطبيق الكامل للشريعة الإسلامية، وكأنهم في عهد الراشدين لا في دولة قومية وإقليم معارض بل محارب، ونظام عالمي متمكن ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا؛ ويتهمون من يحكم (حزب أو فرد) في دينه بأحداثٍ فردية دافعها الأساسي سياسي وتخضع لقاعدة: دفع شر الشرين واختيار خير الخيرين، مثل التعامل مع إيران في سياق منع دول الخليج المساعدة!!
وفي المشهد الإقليمي يتجمع مثيري الشغب، هؤلاء الذين لا يعجبهم شيء حول حماس المحاصرة.. التي اجتمع من بأقطارها على حربها، ويتهمونها في دينها وأنها مفرطة في تطبيق الشريعة!!
هل نحن أمام ظاهرة حقيقية؟
نعم نحن أمام ظاهرة حقيقية، تتواجد في أغلب مسارح الأحداث، ولكننا لسنا أمام فئة محددة من الناس تشكل ظاهرة بعينها، فالذين أنكروا على مَن استخدموا أدوات الديمقراطية بعد يناير2011 ليسوا هم الذين أنكروا على الدكتور مرسي واصطفوا مع العلمانيين (جبهة الإنقاذ)، وليسوا هم الذين يتحلقون حول حماس مستنكرين. فكل حدث يفرز نوعية معينة تشكل هذه الظاهرة. بمعنى أن الظاهرة ثابتة والأفراد مختلفون.
يصعب تحليل كثير من الظواهر السياسية والاجتماعية باستخدام نموذج تفسيري محدد، ففكرة النموذج تعاني من قصور تفسيري لسبب رئيسي أن النموذج ابن بيئته، وغالبًا لا يعمل إلا في البيئة التي تكون منها، وعامة النماذج المنتشرة في ساحتنا من البيئة الغربية. لذا فإن الأفضل في التحليل هو البحث عن المتغيرات التي تشكل الظاهرة، وهي ثلاثة أنواع من المتغيرات: أولها: المتغيرات المستقلة (المدخلات)؛ وثانيها: المتغيرات الوسيطة، وهي التي يمر من خلالها التفاعل الاجتماعي دون أن تؤثر فيه أو تتأثر به. تمامًا كالحافز في التفاعلات الكميائية)، وثالثها: المتغيرات التابعة (المتأثرة). ويمكننا تحديد المتغيرات من الأنماط السائدة في الظاهرة محل الدراسة.
ما السبب في هذه الظاهرة؟
السبب في نظري يكمن في ثلاثة مجتمعة أو متفرقة: أولها: الغرق في التفاصيل، وثانيها: الجهل بالسياق العام، وثالثها: الاعتقاد بأن المعركة مع المخالف صفرية. تجتمع الثلاثة أو بعضها فيثار الغبار في المشهد ممن أُبتلى بواحدة من هذه الثلاث أو بهن جميعًا.
فأحيانًا يتم تضخيم قضية جزئية ويتم تجاهل السياق العام بدافع المصلحة الشخصية أو المصلحة الحزبية (مثل: الشجب على التعامل مع إيران، ومثل: رفع قضية الهوية بعد “الثورة” مباشرة)، أو لأن هذه القضية الجزئية متضخمة في حس الأفراد بالفعل (مثل: قضية الحاكمية حسب ما يفهمون). ومع أن الأول (الذي يضخم القضية الجزئية ويتجاهل السياق العام عمدًا) والثاني (المتشنج الغلق الذي يقف عند قضية بعينها ويراها كل شيء ولا يلتفت للسياق العام للأحداث) قادمان من طرق مختلفة إلا أن كلاهما يقف بجوار الآخر ويثير الغبار في المشهد السياسي فيعرقل الجادين.
وعدد ممن يتواجدون في هذه الحالة الإسلامية يتكئون على مبدأ مغلوط، هو: أن المعركة مع المخالف صفرية، ويغيب عنهم أن الشريعة جمعت بين الحدية والنسبية في الأحكام والمواقف العملية، يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (آل عمران:7)، وفي الحديث: (الحلال بين والحرام بين وبينهم أمور مشتبهات). والخطاب والمواقف حال الاستضعاف في مكة غير الخطاب والمواقف بعد فتح مكة وتكوين كيان في المدينة؛ ومشهور عند الجميع أن التشريع مرَّ بمراحل، أو استخدم التدرج في الإيجاب أو التحريم، وقد نقل ابن القيم حال النبي-صلى الله عليه وسلم- مع مخالفيه في مقدمة باب الجهاد في زاد الميعاد ونقلها عنه سيد قطب في المعالم؛ وفي تعليقات العلماء على الناسخ والمنسوخ أن الأحكام لا ينسخ بعضها بعضًا وإنما يناسب كل منها مناط بعينه تتنزل عليه؛ فالأحكام التكليفية الخمسة تأتي الشيء الواحد في حالات مختلفة. وجملةً نستطيع أن نقول: توجد دائمًا منطقة رخوة.. رمادية، تتحرك متاخمة للمناطق الصلبة الواضحة. حتى في ذروة التمكين تتواجد هذه المنطقة الوسط: في الداخل (مع المنافقين والذين في قلوبهم مرض من أهل الشهوات والشبهات) وفي الخارج (المعاهدين من الكافرين والمبتدعة في الدين بدرجاتهم المختلفة)، ولكن المعاصرين هؤلاء يريدون إنهاء الصراع واستقرار المشهد واضحًا جليًا هادئًا. ولا يكون أبدًا. فالحياة مدافعة بين مختلفين، ولا تستقر إلا بالمدافعة، أو: لا تستقر.. بل دائمًا المشهد متحرك بعنف.. يدفع بعضنا بعضًا.. وبهذا صلاح حالنا في الدنيا. يقول الله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: 251). ثم نلق الله الغفور الرحيم ويحاسب كل منا على ما قدم وأخر فجنة أو نار.
كيف تحول هؤلاء إلى ظاهرة؟
الطبيعي أن يتواجد معترضون، ولكن تحول الاعتراض لظاهرة له سببان فيما يبدو لي:
أولهما: الأدوات الإعلامية، ويشارك من هذا الباب المخالف الذي يمتلك أغلب الأدوات الإعلامية. والأدوات ذات أهدافٍ خاصة ولها عينان تنتقي بعناية من وما تقدمه للجماهير.. لا توجد أدوات مستقلة أو محايدة، فالأدوات عمومًا تفريع على منظومة عقدية أفرزتها.. بمعنى كل أداة بنت منظومةٍ عقدية ما وتعمل لصالحها بشكل مباشر أو غير مباشر، ومحمية من أهل العقيدة التي تتبعها.
ثانيهما: الجمهور. دائمًا ما يجد المعترض تأييدًا من عامة الناس، وخاصة حين يتبنى مواقف إقصائية، وهنا مفارقة عجيبة، وهي أن مزاج عوام الناس معتدل في الغالب؛ ومع ذلك يتجمعون حول الأطروحات المتطرفة.. شديدة التطرف، كأطروحات المسلحين (داعش وأخواتها).. والثوريين: إسلاميين واشتراكيين، وما بينهما. وكذلك أطروحات التكفيريين أولئك الذين يُكفِّرون كل الناس إلا أنفسهم. أو التكفيريين الذين يُكفِّرون الساسة والحكام وينافقون الجمهور (المعارضة السياسية المتحمسة). فلماذا؟!
لماذا نرى حالة من المساندة بين مختلفين: معتدل المزاج (الجماهير) ومتطرف إقصائي صدامي (التكفيريين.. الثوريين.. الاشتراكيين.. إلخ)؟
علينا أن نلاحظ أن هذا اللقاء مؤقت. بمعنى أنه يحدث لفترة محدودة ولا يستمر، فقط يتواجد في أوقات التحولات. وأن أهم ما يمكن رصده في هذا التعاضد بين المختلفين هو أن المستفيد من تجمعهما يكون طرفًا ثالثًا، لا هو الجماهير ولا هو المتطرفون. وغالبًا ما يكون هذا الطرف الثالث المستفيد هم الصاعدون للسلطة أو المقيمين فيها!!
كل واحد من المتناقضان (الجماهير والمتطرفون دينيًا أو سياسيًا) يأتي من طريق مختلف: النخبة المتطرفة تريد تغيير الواقع وتمكين ذواتها أو مناهجها؛ وعوام الناس ساخطون على أوضاعهم المعيشية ويريدون التغيير أيضًا بحثًا عن أسباب معيشة أفضل. كما أن هذا المعارض، دائمًا عذب المنطق.. يبشر الناس بالانتقال إلى ما يحلمون به بخطوةٍ واحدة، وهي تغير السلطة، أو وصوله هو إلى السلطة!!
مآلات الظاهرة:
المعترضون موجودون في كل زمان ومكان، ولكنهم تحولوا لظاهرة بسبب الأدوات التي تمكن الجميع من التحدث للجماهير، وبسبب إفادة صاحب الأدوات من اعتراض هؤلاء، سواءً كان الاعتراض في مستوى القول فقط أم تطور لاعتراضٍ بالأفعال (شغب أو عمل مسلح)، ولولا الأدوات ما تحول هؤلاء لظاهرة ولا سمع بهم أحد، فالظاهرة في حقيقتها مفعلة من قبل أصحاب النفوذ، فهل يعقل هؤلاء؟!
يكون الاعتراض بنَّاءً حين يمارس النقد العلمي القائم على الدراسة التفصيلية وتقديم رؤية تفكيكية للمخالف ومن ثم رؤية تفصيلية بنّاءه لما يجب فعله، ولكن الغالبية تتحدث بعموميات وتعبر عن موقف ولا تقدم نقدًا علميًا، فقليل من يصبر على مكابدة التفاصيل.
وحين نترك هذه الظاهرة الجزئية ونصعد لأعلى نجد أن الاعتراض فخ نُصِب للحالة الإسلامية ككل، ذلك أنها حصرت نفسها في دائرة المعارضة دون أن تبذل جهدًا في فهم طبيعة المخالف وماذا يجب فعله لإزاحته أو لخلافته حال إزاحته. ولذا حين خرجوا من دائرة المعارضة وجاءتهم الفرصة واستلموا القيادة وتبعتهم الجماهير لم يستطيعوا فعل شيء!! وعادوا ثانية لفخ الاعتراض.. للمظلومية والشكوى، وكأنهم ألفوا الشكوى والشجب.. وكأنهم ألفوا سُكنى (فخ الاعتراض).