من أعظم ما أشعر به من نعمة الإسلام وفضله عليّ وعلى الناس هو هذا التحرر العظيم الذي منحه الإسلام للبشر!
دعني أضرب لك مثالا..
نحن في مصر، هذه البلد محكومة الآن بدستور صُنِع بعد انقلاب عسكري دموي قام به مجموعة من المجرمين السفاحين. ثم جاء هؤلاء السفاحون بخمسين شخصية من الشرق والغرب ليكتبوا دستورًا..
كان مهمة هؤلاء معروفة، إنهم نظريا سيكتبون الدستور الذي هو أبو القوانين ليحكموا الشعب الذي يفوق مائة مليون! ولكنهم عمليا -سيبصمون- على الدستور الذي يرضاه العسكر السفاحون، ذلك الدستور الذي يحول رغباتهم إلى نص قانوني أعلى يسمى الدستور!
إنهم خمسون شخصية جاؤوا ليقوموا بدورهم في زخرفة الإجرام وتقنينه، فقاموا حينئذ بالجزء الأول من عملية الزخرفة.. ثم س
والذي يجعل من رغباتهم دستورا، ليجعلوا من حُكْمِهم نظاما قانونيا مشرعنا عبر دستور! ثم يبقى الجزء الثاني من الزخرفة ليقوم به العسكر أنفسهم عبر استفتاء مضمون النتائج!
وبهذا الشكل تجري السيطرة «القانونية، المدسترة، المشرعنة» على الشعب الكبير.. ويجري تصنيف هذا بأنه خارج القانون، وهذا بأنه قانوني.. وتعمل أجهزة «الدولة» التي تتغذى بأموال الناس على تنفيذ رغبات السفاحين التي صارت دستورًا!
ويصير هذا الدستور هو السقف والمبدأ والقاعدة التي تجري عليها «نضالات المعارضة الأليفة».. وذلك أن السفاحين القتلة لا يحترمون الدستور والقانون الذي كتبوه بأنفسهم، لكنهم على الأقل يرسمون به حدود عمل المعارضة!
فإذا تركنا المثال البائس الموجود في مصر، وذهبنا إلى مثال أحسن موجود في دولة ديمقراطية عتيدة.. فسنرى الفارق كبيرا على مستوى الإجراءات والتفاصيل، ولكن الأمر هو هو على مستوى المبدأ!
فالدستور كتبه المنتصرون بعد حرب ما أو ثورة ما، ولكنهم حين كتبوه كانوا وطنيين مخلصين لأوطانهم حقا (ليسوا كحالة السفاحين القتلة في مصر)، حاولوا وضع دستور يحفظ بلادهم من انقلاب الأوضاع إلى الفساد السابق الذي ثاروا عليه، أو الاحتلال السابق الذي تحرروا منه.. وأحسن الأحوال أن يجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد في استخراج دستور يوفر مصيرا أفضل لبلادهم وشعوبهم.
سنترك الآن كافة أشكال التحايل التي تملكها السلطة التنفيذية، وكافة الثغرات التي يمكن من خلالها تعديل الدستور ليصب في مصلحة فئات منتفعة تولت السلطة.. سنتوقف فقط عند السؤال الجوهري: على أي شيء بُنِي هذا الدستور الذي ستتفرع منه القوانين الحاكمة التي ستهيمن على حياة الشعوب والأجيال القادمة؟!
لن يكون الجواب إلا: الرأي!
هذا ما رآه هؤلاء «الحكماء» و«الخبراء» في تلك اللحظة من الزمن.
بغض النظر الآن عن مدى إخلاصهم ووطنيتهم، وبغض النظر عن مدى سوائهم النفسي وحكمتهم وبصيرتهم وقدرتهم على فهم النفس والمجتمعات، وبغض النظر عن قدرتهم على استشراف المستقبل وتحدياته.. ففي نهاية المطاف، تظل الأجيال محكومة برؤية بعض الأفراد الذين تمكنوا في لحظة ما من الانتصار وكتابة الدستور وتحديد المرجعية!
إذا كنتَ قد وصلتَ معي إلى هنا، فقد وصلنا إلى مربط الفرس..
إن الشريعة الإسلامية ليس فيها أولئك الذين يصدرون عن رأيهم، إن سائر العلماء والفقهاء الذين كتبوا الفقه وأنتجوا الشريعة لم يروا أنفسهم، ولم يرهم أحدٌ إلا “مجتهدين” في فهم “النص المقدس” لينتجوا منه الأحكام المطلوبة في هذا العصر أو ذاك.
ولهذا، لم يكن أحدٌ منهم يقول برأيه، بل كان يُكَوِّن رأيه استنادًا إلى فهمه للنصوص المقدسة (في القرآن والسنة)، ويكتب لك تفصيلا كيف استنبط هذا الرأي أو هذه القاعدة أو هذا المبدأ من جملة نصوص القرآن والسنة.
لم ير أحدهم نفسه -ولا رآه أحدٌ- مُشَرِّعًا، له حق التشريع واستنباط الأحكام من عند نفسه!
ومجتمع العلماء، ومن ورائهم مجتمع المسلمين، كان واقفا بالمرصاد لكل من دخل في هذا المجال وتكلم في الدين! فلا يمكن أن يُعترف لأحد بصلاحيته لهذا الدور إلا إن كان حقًّا على معرفة غزيرة بالدين، وجاريا على طريقة منهجية علمية واضحة في الاستنباط، وبعد هذا كله فإن مساحة الاختلاف مع ما توصل إليه قائمة ووافرة.. ولكل مسلم أن يعمل في نفسه وأهله برأي أي عالِمٍ مجتهد، ولا يبقى إلا الأحكام الكبرى التي تحتاج إلى تدخل سياسي لأن الاختلاف فيها مثير للارتباك.. فساعتها يقولون: حُكْم الحاكم يرفع الخلاف!
هذا بالإضافة إلى أن من شروط الحاكم في الفقه الإسلامي أن يبلغ مرتبة الاجتهاد العلمي، فإن تعذر هذا، فواجب عليه الأخذ برأي أهل العلم في سياساته.
ما أريد أن أتوقف عنده هنا أن الإسلام، بوجود النص المقدس في القرآن والسنة، حفظ البشر من أن يحكمهم ويتحكم فيهم بشر مثلهم، ومنع البشر الذين يرون أنهم أقوياء أو حكماء أو خبراء من أن ينفردوا بوضع التشريعات للبشر بما استحسنوه من آرائهم وأهوائهم، وبما سيطر عليهم في لحظة وضعهم التشريعات من مخاوف وهواجس وتحديات!
في الإسلام، كل من تكلم في الشريعة كان مُلْزَِمًا أن يقول: كيف توصل لهذا الحكم عبر طريقة علمية منهجية من النص المقدس.. فضاقت عليه كثيرا كثيرا إمكانية التحايل والمراوغة وخدمة أغراضه وأغراض سلطانه!
سيبدو بشعا وقبيحا وعارًا في جبين جيلنا والأجيال التالية أن يُقال: حَكَمهم دستور كان من كُتَّابه الفاسق والعاهرة (الذين كانوا يُسَمُّون: الفنانين) والحشاش والجاهل والمنافق والفاسد الذي أكل أموال الناس! وغيرهم ممن لا يأتمنهم المرء على أهل بيته! فكيف على شعب عظيم جاوز المائة مليون؟!
ومن القبح والعار أيضا أن يحكم الناسَ أناسٌ ماتوا منذ عقود أو قرون، فهم يحكمون في الناس بما كان في رؤوسهم ونفوسهم يوم انتصروا وتغلبوا على خصمهم، فصار لنصهم من القداسة ما لا يمكن تغييره بعد اختلاف الزمان والتحديات والأحوال والأعراف! حتى لو أنهم حين كتبوه كانوا أخلص الناس وأخبرهم وأنضجهم.
تلك هي المنّة العظيمة، أن يظل المسلمون خاضعين لنص لم يكتبه بشر في لحظة انتصاره، بل خاضعين لنص معصوم أنزله الله، فهو معصوم من عيوب البشر وأمزجتهم وأهواؤهم، وقد جاء به ونطق به خير إنسان خُلِق من هؤلاء البشر، وصاحب أعظم إنجاز ديني وحضاري في التاريخ، وهو محمد ﷺ!
فبهذا النص المقدس، وبهذه المرجعية العليا، صار لزاما على كل من يتكلم أن يوضح طريقته ومنهجه في الاستنباط، وصار اجتهاده معرضا للاختلاف والنقد والنقض، وبذلك صار باب الاجتهاد مفتوحا لكل زمان ومكان، بحسب ما يرى أهل العلم والتقوى من نوازل مستحدثة، وبحسب ما يتمكنون من استنباط الفتاوى والأقضية ضمن المنهج العلمي المستقر.
فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، ولم يجعلنا عبيدا لأحد من الناس.