محمد إلهامي يكتب: «من أخلاق العلماء»
«من أخلاق العلماء» ذلك كتابٌ من الكتب التي تفلت من يد الهلاك، فتشير إلى صاحبها وإلى غيرها، وتسطر تاريخا ليس منثورا في سواها..
وهو كتاب حافلٌ زاهر، وعباب هادر، وبستان ناضر.. طوَّف فيه صاحبُه في أخبار العلماء منذ صدر الإسلام وإلى زمانه، ويصلح مادة أولية يقصدها من أراد فهم طبيعة العلم ومجتمع العلماء في عالم المسلمين.
بدأ بمقدمة نظرية سريعة وقصيرة، ثم أخذ يتلو أخبارهم وأخلاقهم: من الكرم والصدق والأمانة والصبر والتفاني والتواضع والصدع بالحق والزهد والقناعة.. إلى آخره!
وقد أخفقت في معرفة معلومات عن صاحبه، إلا ما هو مكتوب على الغلاف من أنه تولى «رئاسة المحكمة الشرعية العليا»، وبعض ما هو مبثوث في الكتاب نفسه عنه وعن والده..
فهو محمد سليمان عنارة، ووالده هو الشيخ سليمان إبراهيم النوري، نسبةً إلى قرية كوم النور التابعة للدقهلية، وكان والده هذا من علماء التشريفة أيام الملك فؤاد.
وهو من طبقة رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وأحمد أمين وهذه الثلة، ودرس في مدرسة القضاء الشرعي في أول عهدها حين كانت برئاسة عاطف بركات. وقد أفصح أنه كان يكتب مقالات في الأهرام باسم: أبو التلاميذ وعبد العليم، وقد كتب هذا الكتاب حين كان بدمياط.
وذكر في ثنايا الكتاب أن له كتابين آخرين، أحدهما بعنوان “دورة الزمن” وفيه جمع الأمور التي سبق إليها المسلمون مما يرى المعاصرون أنه أمرٌ حديثٌ جاءنا به الغرب أو لم يكن إلا في هذا العصر، مثل: العيادات المتنقلة، وعزل المرضى لمنع انتشار العدوى، وإعداد الماء جاهزا لإطفاء الحرائق.. ولكن هذا الكتاب لم أجد له أثرا.
تكمن قيمة الكتاب الأساسية في هذا الجمع الكبير لأخبار العلماء، وهو ما يُعطي تصورًا جميلا عن المجتمع العلمي في الحضارة الإسلامية، وهاهنا وقفة لا بد منها:
لقد سِيق هذا على الطريقة الإسلامية لا الاستشراقية، فصاحبه أزهري درس بالأزهر ثم تولى القضاء الشرعي، وأقصد بالطريقة الإسلامية هنا أن الكتاب يبث في نفس قارئه حرارة الإيمان ويحفِّزه للاقتداء والعمل وتكرار الأمثلة الناضرة واجتناب الأمثلة الرديئة. بينما تسير الكتب الاستشراقية على نهج الدراسة الباردة (يسمونها: الموضوعية) عن المجتمع العلمي في التاريخ (انظر مثلا: كتب جورج مقدسي نشأة الكليات ونشأة الإنسانيات). فأنت ترى فيها صورة ثابتة جامدة أشبه باللوحة الجامدة أو بالأفلام الصامتة.
وليس غرضي هنا عقد مقارنة بين النهجين أو الإزراء بجهد المستشرقين في بابهم، فإن لهم فيه فضلا ونبوغا كذلك.. ولكن غرضي بوضوح أن هذا الكتاب من نوعية الكتب التي تريد أن تأخذ قارئها كأنها تمضي به في بستان، يشم رائحته ويتنسم عبقه ويتذوق ثمرته ويسكنه الانتماء إليه.. وليس من نوعية الكتب التي تريد أن تضع لك تشريحا دراسيا مصفوفا ووصفيا لهذا المجتمع.
ولذا فهو كتابٌ في الرقائق لمن شاء، وكتابٌ في التاريخ والاجتماع لمن شاء. ويخرج القارئ منه متأثرًا ومقتديا وقد عَلَت همّته ورقَّت حاشيته وتلطّف طبعه.
ثم يتميز الكتاب عن غيره من الكتب بأمر آخر، وهو: أنه يسرد من أخبار العلماء حتى عصره (والمفهوم من ثنايا السطور أن الكتاب مكتوب في حقبة الثلاثينات من القرن العشرين، أي قبل تسعين سنة تقريبا).. ومن هذه الأخبار ما يرويه بالسند العالي عن أبيه أو عن صديقه.. فثمة مواقف مذكورة لمشايخ الأزهر وعلمائه في عصر الأسرة العلوية هو مصدرها، ومنه انتشرت إلى مصادر أخرى، صارت أعلى منه شهرة.
وتظهر في ثنايا هذا السرد كيف بلغ الأزهر من البؤس والأزمة في عصر الطاغية الجبار محمد علي وأبنائه، فمن الصور التي نقلها عن أبيه أن سُرج الأزهر (مصابيحه) كانت “لا تضيء إلا أن يرى الشخصُ الشخصَ، فكان المجاورون يشترك الجمع منهم في فتيلة يطالعون عليها، فتراهم وضعوها على الأرض وتراصوا حولها، وقد تمددوا على جنوبهم، فلا يحيط بها إلا رؤوسهم”.
وذكر طرفا من “أهوال ومشاق كان يلقاها طلبة العلم في تلك الأزمان”.
ويجد المؤرخ لمصر المعاصرة، وللأزهر، في هذا الكتاب معلومات دقيقة مثل رواتب المشايخ في الأزهر، وطريقة التشريفات الملكية وحضور العلماء فيها، وشكل الترقية للمشايخ والاختبارات العلمية للطلاب، وبعض هذه الدقائق التي من المعتاد أن تظهر في المصادر الثانوية وتخلو منها المصادر المباشرة.
كما يتضح للمؤرخ أيضا الأثر الاجتماعي لانفصال الأزهريين وطلبة العلم الشرعي عن المجتمع، وكيف أنشأ ازدواج التعليم الذي بدأه محمد علي نوعيْن من البشر في مصر، أحدهما صار ينعزل في الأزهر يعاني من البؤس، والآخرون سرحوا في الحياة وعبّوا من مسارحها وملاهيها ومن أفكار الغرب حتى هيمنوا على ساحة التعليم وترقوا في مراتب السلم الاجتماعي وصاروا هم النخبة.
وقد أردف الشيخُ كتابَه بحديث طويل عن حال التعليم في مصر المعاصرة، وكيف أنه يسلب من الطلاب قدرتهم العلمية، ويُحوِّلهم إلى آلات لإدارة جهاز الدولة، فالعلم المبذول في المدارس يُنتج طالبا لا يُحسن التصرف إلا كموظف، فهو “نافع للوظيفة أو نافع بالوظيفة” فإذا لم تكن ثمة وظيفة فقدْ فقدَ فائدته في المجتمع.
وقد أسهب في ذلك، واقترح وسائل لإصلاحه، ولا يزال كلامه نافعا حتى الآن، وإن كان الخرق قد اتسع على الراتق، وازداد انحطاط الأزهر والمدارس كليهما.
ومما نتبيّنه أيضا في ثنايا سطور الكتاب، هيمنة النزعة القومية المصرية في ذلك الوقت، حتى لقد تأثر بها أهل العلم الشرعي أنفسهم. وقد ندَّت عباراتٌ للشيخ المؤلف تشي بتأثره أيضا. ومن ذلك أنه وصف -على جهة الإقرار- من يُفَضِّل الأتراك على الإنجليز مطلقا بأنه “متعصب ديني”.. وقد كان الإنجليز وقتها يتسامحون مع من يسبهم ويسب الأتراك معهم، ويرون أن هذا دليل على الوطنية. وأما من يسبهم دون الأتراك فهو دليل على التعصب الديني.
ومن هذا أيضا: موقفه من الدولة العبيدية (الفاطمية) ومن صلاح الدين الأيوبي. ففيه وجدت دليلا جديدا لما كنتُ كتبته في بحث لي عن الدولة العبيدية (الفاطمية) [لم ينشر بعد] عن أن هذه الدولة العبيدية لم يشعر أهل مصر نحوها بالتعاطف منذ زالت إلى زماننا المعاصر (باستثناء المقريزي) حتى مطلع القرن العشرين، حين بدأت تتأسس مدرسة التاريخ المصرية على هذا النهج القومي.. فإذا بروّاد هذه المدرسة يتعاطفون مع هذه الدولة، ويميلون إلى نصرتها وتصحيح نسب العبيديين والإكثار في محاسنها.
بلغ الأمر بالشيخ محمد سليمان أن سخط على صلاح الدين إزالته هذه الدولة التي هي من مفاخر الحضارة، ورأى أن هذه الإزالة جريمة تكافئ حسنات صلاح الدين في جهاده وتحريره بيت المقدس!!! وكاد أن يؤلف في هذا كتابا يزري فيه بصلاح الدين لولا أنه قدَّر ألا حاجة إلى نبش القبور.
فاعجب -أخي القارئ- كيف أن عملا هو من مفاخر صلاح الدين (إزالة الدولة العبيدية الإسماعيلية، وإعادة وحدة الأمة تحت خلافة واحدة) صار في آخر الزمان سيئة عظيمة!
على أن هذه الملاحظات لا تخدش ما في الكتاب من فوائد كثيرة وجليلة، ولا ريب أن المؤلف بذل جهدا نادرا في جمع أخباره من بطون الكتب، وإذا تذكرنا أنه كتب كتابه قبل مائة سنة حين كانت أغلب المصادر مفقودة ومخطوطة فسيزيد هذا في تقديرنا لجهده.
قد يُنقد الكتاب بأنه لم يستعمل المنهج النقدي في رواية أخباره، ولكن يُعتذر له بأن مقصود الكتاب لم يكن تحرير المواقف التاريخية بل بث الأمثلة التي تصلح للقدوة والعظة.
وبالجملة، فهذا الكتاب من الكتب الممتازة التي تصلح أن يصطحبها طالب العلم، فيهذب به نفسه، ويستعيد منها أنفاس أسلافه السابقين.