الأحد أكتوبر 6, 2024
أقلام حرة

محمد صالح يكتب: صناعة الأمن أم صناعة الخوف

مشاركة:

ينشأ عن اجتماع الإنسان ببني جنسه تحقيق الكثير من المصالح الخاصة والعامة، كما ينشأ أيضاً نوع من التنازع والتخاصم، نظراً لما جُبل عليه الإنسان من الأثرة وحب الذات، وكون البشر متفاوتون فمنهم من يسيره تقواه ومنهم من لا يقيم وزنا لذلك؛ لذا كان من الضروري أن يكون هناك وازع يردع من يريد إلحاق الضرر بالآخرين، ويتمثل هذا الوازع بالحاكم (السلطان) الذي من أوجب واجباته رعايته مصالح الجماعة التي يحكمها.

ولا شك أنه من المستحيل أن يتعقب الحاكم بنفسه كل مخالف أو مجرم في الجماعة الكبيرة التي يسوسها، وأن يحاكمه ويعاقبه بنفسه؛ لذا من البديهي أن يساعده في عمله هذا عدد من الأعوان لنشر الأمن والطمأنينة بين الناس ومن هؤلاء الأعوان أجهزة الأمن والشرطة.

ولما كانت شريعة الإسلام شريعة للناس كافة تلبي كل ما يحتاجونه في أمور حياتهم، فإنها لم تهمل جانب حفظ أمن الناس، ولم تتركه يسير على غير هدى حسب أمزجة البشر وأهوائهم؛ بل بينت ضمن نصوصها وأحكامها الطريق القويم الذي يجب أن تسلكه حتى يحظى المجتمع بسعادة الدنيا والأخرة.

فهذه الأجهزة إن كانت أجهزةً أمنية أو شرطية تكون إسلاميةً إذا طبقت أحكام الإسلام وتعاليمه، وغير إسلامية إذا لم تطبقها، وبقدر الكمال أو النقص الذي تسير عليه في عملها بنصوص الشريعة وقواعدها تقترب أو تبتعد من دائرة الإسلام.

فالرسول ﷺ أمرنا بالتمسك بسنته، وسنة الخلفاء الرشدين المهديين من بعده، والعض عليها بالنواجذ، فهي حجةٌ شرعية علينا أن نفقهها ونعمل بها، والمتتبع المنصف لسيرة النبي ﷺ يجد فيها بغيته في أي ناحيةٍ يريد أن يقتبس منها أو يؤصل لها، أخلاقيةً كانت، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو تعليمية، أو سياسية، إلخ،

وكلهم من رسول الله ملتمسٌ *** غرفاً من البحر أو رشفاً من الدّيم

هذا وقد عرف المسلمون منذ عصر النبوة الشرطة أو العسس بمعنى الحراسة؛ لحفظ أموال الناس وممتلكاتهم وترقب العدو، ولما كانت المعارك بين المسلمين والمشركين في الجزيرة العربية لا تهدأ، لا سيما بعد الاستقرار والهجرة إلى المدينة المنورة، فقد أصبحت الشرطة وظيفة لازمة لحماية مقدرات المسلمين وأرواحهم، وقائدهم النبي ﷺ.

وإذا كان النبي ﷺ لم يكن يختلف عن أصحابه في مظهر ولا شكل، حتى إن الأعرابي كان يأتي والنبي بين أصحابه فلا يعرفه فيقولُ: “أيُّكم محمد”؟! من تواضعه وبساطة عيشه وعيش أصحابه، ولهذا لم يكن للشرطة في ذلك العصر شكل محدد ولا لباس معين ولا مهمة معروفة كالتي نعرفها اليوم؛ بل إن المتأمل في وثيقة المدينة التي كتبها النبي ﷺ وهي الدستور الأول لدولة الإسلام التي كانت تجمع الأوس والخزرج، والأنصار والمهاجرين، والمسلمين واليهود، يجد من بنودها: “إن المؤمنين المتقين أيديهم على كل مَن بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظُلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم”. ويُفهم من هذه الفقرة أن مهمة الإشراف على الأمن والنظام كان يقوم بها المسلمون عامة، فالمسؤولية جماعية، لكن تطوَّر هذا الأمر بمرور الأيام في عصر النبوة ثم في عصر الخلفاء الراشدين من بعد.

ومع الوقت عيّن النبي ﷺ حرساً خاصّاً يقوم بمهمة حماية الأمن في الدولة الناشئة، وعَيَّن الصحابي محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري على رأس خمسين رجلا من الصحابة لهذه المهمة حتى وفاته ﷺ.

وقد تطور مفهوم الشرطة وأصبح أقرب إلى النظام والتخصص نظراً للتحديات الكبيرة والخطيرة التي استجدّت بعد وفاة النبي ﷺ عام 11 من الهجرة، وعلى رأسها حوادث الردّة في أرجاء الجزيرة العربية، حتى لم يبقَ في الإسلام إلا أهل المدينة ومكة والطائف، ونظرا لهذا التحدي أدرك أبو بكر -رضي الله عنه- أهمية الأمن الداخلي للمدينة وهي عاصمة الدولة، وفيها وجوه الصحابة من المهاجرين والأنصار، ومن ثم قرّر أبو بكر -رضي الله عنه- أن يستعمل عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن مسعود في حراسة ضواحي المدينة وأطرافها، وقام بتعبئة المتبقين من أهل المدينة مُحذِّرا إياهم أن وفود المرتدين التي جاءت للمساومة والتفاوض قد رأت قلة المسلمين، وأن عليهم أن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم لحفظ الأمن في بلدهم.

وشيئا فشيئا أدرك أبو بكر -رضي الله عنه- أهمية العَسس، وهو من الفعل “عسّ” وهو طلب الشيء بالليل، وأصبحت تُقال على مَن يطوفون بالليل لحراسة البيوت والأمن، وقد كلّف أبو بكر -رضي الله عنه- عبدَ الله بن مسعود بهذه المهمة الثقيلة، فأمره بالعسس في الليل، والحراسة في النهار، وترقب العدو إذا جاء فجأة.

إذاً من تتبع عمل الشرطة وجهاز الأمن في زمن رسول الله وصحابته نجد أن مهامها وواجباتها حماية المجتمع، وتأمين الناس، وإقامة الحدود، وحماية الناس من القتلة والمجرمين والبحث عنهم وتقديمهم للقضاة للفصل في أمرهم، ليأمن الناس على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وتتبع أهل الريب بعد إذن قضائي يقضي بأن هذا الشخص من أهل الريب؛ إذ التجسس محرم على رعايا الدولة مالم يضعوا أنفسهم في صف العدو بأفعال أو أقوال تشير إلى تعاملهم معه.

وعند الانتقال إلى واقع أجهزة الأمن والشرطة اليوم في الشمال السوري المحرر أو في أي نظام آخر نجد العكس تماماً، ونرى العجب العجاب في ممارسات هذه الأجهزة وعملها، نجدها تمارس أبشع أنواع القتل والفتك بالناس، واعتقالهم وتعذيبهم وترويعهم، والتجسس عليهم، وتجعل البقية من الشعب يعيشون في حالة من الرعب والفزع، ولا تبالي بأرواح الناس ولا دمائهم وأمنهم، رجالا ونساء وأطفالا، كبارا وصغارا، فأصبحت هذه الأجهزة وسيلة لارتكاب أكبر الكبائر وأعظم الجرائم.

 وقد أصبحنا في هذا العالم الإلكتروني المفتوح أمام جرائم موثقة صوتا وصورة لا يملك طرف من الأطراف إنكارها لما تقوم به هذه الأجهزة المسلطة على رقاب الناس.

بناء على تشخيص هذا الواقع الذي نعيشه، وإدراك ما تقوم به أفرع الأمن التي تواجه الناس بالقتل والقمع والتعذيب والاعتقال والإرعاب والترويع، ومقارنة هذا بما قصدته الشريعة من إقامة أجهزة الأمن، فإن كل الذين يمارسون القتل وإزهاق الأرواح وسفك الدماء واعتقال الأبرياء من ضباط وعناصر يحرم عليهم هذا العمل حرمة لا ريب فيها ولا شك معها، فيجب عليهم ألا ينصاعوا لأي أمر بقتل بريء أو سفك دماء معصومة أو اعتقال مظلوم، ومن يقوم بهذا سيبوء بسخط الله وغضبه في الدنيا، وستحيق به لعنته وينزل عليه عذابه في الدنيا والآخرة، وإن كل مال يأتيهم من هذه الممارسات هو مال حرام وسحت، وكل جسم نبت من حرام فالنار أولى به!.

يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93]، ويقول ﷺ «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».

ولا يسع مسلم هنا أو إنسان أن يقول: “أنا عبد مأمور، وهذا عملي”، فكلنا عباد لله، وليس لأحد غيره؛ لأن القتل من أكبر الكبائر، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ سورة الشعراء [152-151]، وقال ﷺ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل».

محمد صالح/ ناشط سياسي.

منتدى قضايا الثورة

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *