الأحد مايو 19, 2024
بحوث ودراسات

أحمد الشريف يكتب: هل لا يزال طلب الحقّ فضيلة؟!.

من موروثاتنا الثقافية التي نرددها في مناسبات كثيرة عبارة: “الرُّجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل” والتي تُقال للتدليل على أن مراجعة الرأي طلبًا للحق والاعتراف بالخطأ لا تخدش قدر الرجال، بل ترفع من شأنهم، وعن مثل ذلك يقول الإمامُ “الشافعيُّ”: “ما كابَرني أحدٌ علَى الحقِّ ودفع الحُجّة الصحيحة، إِلاَّ سقط مِن عَيْنِي ورفضته، ولا قَبِلَ الحق والحجة أحدٌ إِلاَّ هِبْتُهُ، واعتَقَدتُ مَوَدَّتَهُ”!.[١].

ولكن للأسف غالبًا ما تسقط هذه المَبَادِئ عند الاختبار، وتتحول إلى مجرد شعارات براقة للمتاجرة والتدليس ودغدغة المشاعر، لا تغني ولا تسمن من جوع!..

وأقول “غالبًا” وهى كلمة مخففة لأن الأمر أصبح ظاهرة بالفعل تتكرر في كل وقت مع معظم الناس والمستويات كافة، وقد صادفتني منذ بدأت الكتابة على صفحات التواصل مرات عديدة، آخرها الجمعة الماضية عندما كشفت عن ما يقوم به الكاتب والباحث الإسلامي الدكتور “محمد جلال القصاص” من بتر واجتزاء مخلّ بغرض التدليس على القارئ في حملة يقودها على صفحته ضد كتابات الأستاذ “عباس محمود العقاد” الإسلامية!.[٢].

حيث قام الأستاذ “القصاص” بالتعليق على ما أثبتُّ من قطعٍ للسياق، بأن له رؤية موسعة وضعها في كتابٍ كاملٍ دعانا لقرائته عن فساد أفكار “العقّاد” وسوء آرائه من الناحية الشرعية. وذلك دون أدنى توقف منه أو اعتذار عن واقعة التدليس والبتر التي جاءت بالمقال، حيث أنها تكفي لسقوط الكاتب وإعراض الناس عنه!.

وعلى الرغم من أن كلامي كان مقصورًا على ما يُنشر في صفحته، إلا أن الإنصاف والموضوعية يقتضيان التجرد في قراءة كتابه من أجل اكتمال الصورة والتأكد من صحة تهمة التدليس أو العدول عنها والاعتذار للكاتب دون أي تردد أو تأويل!.

وبالفعل قرأت الكتاب وتكبدت مشقة إكماله التي لم تأتِ من ضخامة حجمه فهو مكون من ١٥٠ صفحة فقط، ولكن من كمية الافتراءات والبتر والاجتزاء التي يمتلئ بها!.

وهو ما ذكرني بمقال للأستاذ “فهمي هويدي” قرأته قبل نحو ١٥ سنة يتحدث فيه عن الكُتّاب الذين يتبعون هذا الأسلوب في الكتابة أو ما عرف وقتها باسم “التنوير بالتزوير” يقول فيه:

«لا يتوقع منى أحد أن أستعيد ما تحتويه سلة القمامة من بذاءات ومطاعن مما قد يعد ترويجا لها. لكني سأروى واقعة اكتشفها الدكتور “محمد عمارة”، حين قرأ لواحد من إياهم (حسين أحمد أمين) مقالا سفَّه فيه السلف الصالح، ونقل عن أحد كتب التراث رواية تحدثت عن أن واحدًا من أبرزهم لم يكن يحسن الصلاة، وقصد بذلك الصحابي الجليل “سعد بن أبى وقاص”. وحين حقق الدكتور “عمارة” المسألة، وجد فى صحيح “البخاري” أن أعرابيًّا ذهب إلى الخليفة “عمر بن الخطاب” وشكا إليه الصحابي الذى كان واليًا على الكوفة قائلا: إنه كان يطيل فى الركعتين الأوليين لصلاتى الظهر والعصر، ويخفف فى الركعتين الأخيريين. وهو ما ظنه الأعرابي عيبًا في الصلاة!.

وحين رجع “عُمر” إلى “ابن أبي وقّاص” ذكر أنه يصلي بالناس صلاة رسول الله ﷺ، التى كان يؤديها بهذه الطريقة. عندئذ علّق “الفاروق” قائلا: صدقت، هذا ظنى بك.

لكن صاحبنا تجاهل كل ملابسات القصة ولم يتخير منها إلا تلك العبارة التى أراد بها أن يهدم صورة السلف فى ذهن القارئ!.[٣]..

ولذلك لم يكن في نيتي الكتابة عن الكاتب أو الكِتاب مرة أخرى حرصًا على وقت القارئ من إضاعته في ما لا يفيد. ولكن راسلني بالأمس أحد الأصدقاء النابهين يستفسر عن صحة الواقعة التي نشرها الأستاذ “جلال القصاص” على صفحته مؤخرًا ويقول فيها ما نصه: «وذكر عباس العقاد في أكثر من موضع أن عائشة ذهبت لعثمان في أمرٍ ما، ووقفت على الباب وأسمعته ما يكره ورفعت عليه النعل تسبه وتهدده!.

ولا أدري من أين جاء “عباس” بهذا المشهد البذيء شديد الرداءة… والخليفة عثمان ليس مَن يُرفع عليه النعل ويُسبّ في بيته.»[٤].

ولم يذكر الكاتب كعادته أين نجد هذه المواضع الكثيرة للواقعة من كتب “العقاد”، ولكنه أشار إلى أن الإثبات في كتابه عن “إسلاميات العقاد” وعلى القارئ الرجوع إليه، حتى أنه لم يذكر رقم الصفحة المقصودة في كتابه!.

ولأني قرأت الكتاب في الأيام الماضية فكان من اليسير الوصول إليها، وفيه يقول الأستاذ “القصاص”: «وما رفعت “أم المؤمنين” النعل على “عثمان” كما يفتري “العقَّاد”، وما كان لها أن تفعل، وإنما “عباس العقَّاد” وخليلاته مَن يَفعل ويُفعل به مثل هذا.».!.[٥]..

وهنا يجب الإنتباه إلى أن الكاتب لا يتصف بالأمانة حتى فيما ينقل عن نفسه وليس فقط فيما يبتر من كتب “العقاد”!.

ففي الكتاب ليس هناك أي ذكر لذهاب “عائشة” إلى بيت “عثمان” -رضي الله عنهما- فالمشهد الذي يحكي عنه ويُدين به “العقاد” لم يحدث إلا في خياله فقط، ولم يستطع ذكره في كتابه -على ما فيه من افتراءات- ولم يقل به “العقاد” بطبيعة الحال حيث من المعروف أن السيدة “عائشة” كانت تقضي جلّ أوقاتها في غرفتها الملاصقة لمسجد رسول اللهﷺ ولا تذهب إلى أحد إلا في النادر، وإنما يدخل عليها إخوتها أبناء الصديق أو أبناء الزبير بن العوام من أختها أسماء بنت أبي بكر، ولا تتحدث مع العامة إلا من وراء حجاب، مثل سائر أمهات المؤمنين!.

والعجيب أن يدّعي الكاتب أن “عباس العقاد” أورد تلك الواقعة في مواضع كثيرة، ومع ذلك لا يذكر موضعًا واحدًا منها في كتابه رغم أهميتها في الطعن بالرجل، ورغم ذكره الدائم للمصادر التي يقتطع منها أقوال “العقاد” أو ما يشينه من شهادات معاصريه!..

وعلى العموم الأستاذ “العقاد” لم يكتب عن واقعة النعل تلك إلا مرة واحدة في كتابه “الصديقة بنت الصديق” ولكن ليس بالصورة المبتذلة التي أراد الكاتب الترويج لها بين الناس..

فالمسألة كما أوردها “العقاد” تخص وفود قوم من أهل الكوفة على دار الخلافة في المدينة يريدون عزل أميرهم “الوليد بن عقبة الأموي” –أخو الخليفة “عثمان” لأمه– الذي صلّى بالناس الصبح وهو سكران، فلما قَدموا على الخليفة تبرمت بهم حاشيته (مروان بن الحكم الأموي) وبرّأوا “الوليد” عنده مما اتهمه به أهل مصره!.

فقال لهم “عثمان” أكلما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم. فاستجاروا ببيت النبي ﷺ وعائشة فيه، فلجأوا إليها فيمن لجأوا إليه من كبار الصحابة.

ثم أصبح “عثمان” فسمع مِن البيت صوتًا وكلامًا فيه بعض الغلظة، فقال مُغضبًا أما يجد مُرّاق أهل العراق وفسَّاقهم ملجأ إلا بيت “عائشة”، فسمعته. فقيل أنها رفعت نعل رسول اللّه ﷺ وقالت تركت سُنّة رسول الله صاحب هذه النعل؟.. وتسامع الناس فجاءوا حتى ملأوا المسجد. فمَن قائل: أحسنتِ، ومَن قائل ما للنساء وهذا؟.. حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال، ودخل رهط من أصحاب رسول اللّه على “عثمان” وناشدوه اللّه ان يعزل أخاه!.[٦]..

وبالطبع الواقعة فيها تفاصيل كثيرة صحيحة وضعيفة ليس هنا موضعها، ولكن ما يهمني هو السياق الذي جاء فيه رفع النعل (نعل رسول اللهﷺ وليس نعل عائشة كما ادّعى “القصاص”) وأن الواقعة لم تكن في مواجهة عثمان في داره، حيث كان هو في مسجد رسول اللهﷺ وعائشة داخل دارها ..

فضلًا عن كون رفع “النعل” هنا ليس تهديدا بالضرب أو الإساءة كما يصور الكاتب، وإنما هو أثر من آثار رسول اللهﷺ، وإن من يقرأ الكتاب كاملًا –وليس على طريقة “لا تقربوا الصلاة”– يفهم ذلك بالضرورة.

حيث أورد “العقاد” واقعة أخرى في نفس السياق استبدل فيها قميص النبي ﷺ بنعله: «.. بدأت الحاشية الحمقاء بالغض من مكانة السيدة “عائشة” لغير ضرورة محتومة ولا حكمة مفهومة.. وانتهت -بعد ذلك- بالتآمر على قتل أخيها لغير ذنب جناه، وسلكت في خلال ذلك مسلكًا تأباه السيدة “عائشة”، وهو مسلك الإسراف والتهالك على الحطام.

فغير عجيب أن يكون للسيدة “عائشة” موقف عداء من تلك الحاشية، وأن تنادي بتبديل حكمها، وأن تضيق ذرعًا بعثمان لأنه يمضي حيث مضت تلك الحاشية في جنفها وغلوائها.

قيل إنها تربّصت به حتى أقبل يخطب الناس فدلت قميص النبي ونادت: “يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول اللهﷺ لم يبلَ وقد أبلى عثمان سنته”!.[٧]..

وكل هذا مع عدم التيقن من صحة الروايات، وقد نقلها “العقاد” كما وردت في كتب التاريخ، ولذلك أوردها بصيغة التمريض (قيل)، ثم قال صراحة دون مواربة بعد الانتهاء من ذكرها:

«وليس أكثر ولا أغرب من الأحاديث التي نُسبت إلى “عائشة” في خلال هذه الفتنة قبل خروجها من المدينة وبعد خروجها منها وأشد هذه الأحاديث وأقساها أن بعضهم سمعها تقول “اقتلوا نعثلا فقد كفر” وأنها كانت تسأل من تلقاه أن يُخذل الناس عن “عثمان”.

فأما الصحيح من هذا كله فهو أنها كانت تنقم من حكومة “عثمان” وتتمنى لها الزوال. ويجوز الشك بعد ذلك في كثير من نصوص الأحاديث التي نُسبت اليها بصدد هذه الفتنة..»

وختم “العقاد” كلامه في هذا الباب قائلا: «خليق بنا أن نزداد حذرًا من هذه المبالغات على قدر أصحاب المصلحة في قبولها. وقد اتفق على تكبير نصيب “عائشة” من التحريض على “عثمان” مصدران متناقضان، وهما مصدر، أصحاب “معاوية”، ومصدر الشيعة أصحاب “علي”…»!.[٨]..

وجدير بالذكر بعد الانتهاء من تبيان جوانب التدليس والكذب في هذه المسألة، أن نقول بأن الخلاف الذي جزم “العقاد” بصحته ونقمة “عائشة” على حكومة عثمان في أواخر عهده، ليس من اختراعات “العقاد” كما يدعي الكاتب في معظم كتابه، وإنما نجده في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، عن النعمان بن بشير عن عائشة قالت: أن رسول اللهﷺ قال لعثمان: «يا عثمان إن اللّه عسى أن يلبسك قميصا فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني».. وكررها ثلاثًا..

فقال النعمان لعائشة: يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك؟.

قالت: نسيته. واللّه ما ذكرته!.[٩]..

الطريف هنا أني عندما قرأت كتابي “عائشة الصديقة بنت الصديق” و”عثمان بن عفان ذي النورين” لم يصلني أن “العقاد” يريد بهما السوء بل تأكد لي أن العكس هو الصحيح تمامًا وذلك رغم طريقة القراءة النقدية التي أحاول تحريها دائما. وقد كان مأخذي عليه هو إيراد الآثار الضعيفة، وهو مأخذ عام على غالب كتب التراث والتي يجب تحقيقها ومعرفة الصحيح فيها من السقيم، ولقد صدر في ذلك الوقت كتابٌ لعلامة الشام الأستاذ اللغوي “سعيد الأفغاني” تحت عنوان: عائشة والسياسة فيه كل المرويات التي استدل بها العقاد وزيادة.

وعلى الرغم من ذلك لم يكن هناك سوء نية في نقل تلك الروايات الضعيفة، حيث ذكر “العقاد” على سبيل المثال تلك الواقعة التي عاتبت فيها السيدة “عائشة” سيدنا “عبد الرحمن بن عوف” على كثرة ماله عندما دخلت قافلته التجارية الضخمة فارتجت لها المدينة في ظل ضائقة الناس، فقام “ابن عوف” بالتبرع بها كلها في سبيل الله، وهى رواية تمدح خصال عائشة وعبد الرحمن رضي اللّه عنهما، وهى رغم ضعفها، مشهورة في خطب الجمعة وكتب السلف والخلف وقد ذكرتها معظم كتب التراث وأوردها علماء الأمة الكبار مثل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية!.[١٠]..

ولكن الطريقة النقدية في القراءة شيء وما يفعله الأخ “القصاص” شيئٌ آخر لا يمت لها بصلة، ولا أجد ما أنصحه به غير ما ذكره بنفسه في كتابه عن إسلاميات “العقاد” قائلا: «ومما يذكر هنا أنه قيل لعلي بن أبي طالب من أين يأتي الهوى؟!. فأجاب: من الخصومات. وصدق –رضي الله عنه– فأغلبها إحن في الصدور تخرج للناس في شكل إصلاح أو تطوير!…

فالفرق بين صاحب الحق وصاحب الهوى، أن صاحب الحق يذهب إلى النصوص فينظر ماذا تقول، أما صاحب الهوى فيذهب إلى النصوص ليأتي بها على هواه، أو بكلمات أخرى إن أصحاب البدع يعتقدون ثم يستدلون!.[١١]..

ورغم هذا النص المحترم فقد أباح لنفسه بتبجح عجيب أن يفتري على “العقاد” بأنه ينكر أي أثر للعقيدة في حياة الصحابة ويدلل على ذلك من كتاب “عثمان بن عفان”!..[١٢]

وهو ما يجعلنا نشعر بالحيرة والدهشة ويدفعنا إلى التشكيك في قدرة الأستاذ “القصاص” على الاستيعاب والفهم الصحيح لِمَا يقرأ، أو نتيقن من إثبات تهمة التدليس عليه وقلب الحقائق الناصعة لموافقة الهوى، فأيهما يختار بعد أن يصدمه قول “العقاد” في فصل الكتاب الأول قائلا بوضوح تام:

«إن سيرة الخليفة الثالث نمط من أنماط متعددة زخرت بها الدعوة الإسلامية من سير الخلفاء وغير الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة، وخالد، وسعد، وعمرو، وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ما منهم إلا من كان عظيمًا بمَزْية، وعلَمًا من أعلام التاريخ، فأين كان موضع هؤلاء من العظمة ومن تاريخ بني الإنسان لولا العقيدة الدينية ولولا الرسالة المحمدية؟..

وإن هذه السيرة تُبرز لنا من جانب الأريحية صفحة لا تطوى، ولا يستطيع العقل الرشيد أن يرجع بها إلى باعث غير العقيدة والإيمان.»..[١٣]..

ومثلما بينت إنصاف “العقاد” للخليفة الراشد “عثمان” في المقال السابق، آتي هنا بكلامه عن أم المؤمنين “عائشة” لقطع الشك باليقين وردّ الأباطيل: « إن “عائشة” لم تحرف كلمة واحدة إلى غير موقعها لإغراء النوازع النفسية التي تطيش بالألسنة أو تضلل العقول، وهو امتحان ليس أعسر منه امتحان في هذا الباب، ولهذا كانوا يروون عنها الأحاديث فيقولون حدثتنا الصديقة بنت الصديق !.

فمن الصفات التي شابهت فيها أباها الذكاء المتوقد والبديهة الواعية ولم تقصر فيها عن شأوه. بل لا نحسبها قصّرت عن شأو واحد من معاصريها بين الرجال والنساء على السواء في سرعة الفهم وقدرة التحصيل والإحاطة بكل ما يقع في متناول ذهنها..

ويروي الثقات انها كانت تحفظ وتفقه وتفسر ولا يقتصر علمها على وعي الكلمات والعبارات فقال “أبو موسى الأشعري”: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه “عائشة” إلا وجدنا عندها علمًا فيه. وقال “عطاء بن أبي رباح”: كانت أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًّا في العامة..» [١٤]..

في ختام المقال –الذي اعتذر عن الإطالة فيه– يجب من دواعي الإنصاف والتجرد ذكر التهمة الوحيدة التي لا أستطيع دفعها أو تبريرها للأستاذ “عباس العقاد” وهى الخصومة الفاجرة بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين في أواخر الأربعينات، ولكن ما أستطيع قوله إن تصوير الكاتب “محمد جلال القصاص” لها على أنها خصومة ضد الإسلام وعدوان على الدين الحنيف [١٥]، فهو من أعجب العجائب أيضا، حيث لو اعتبرنا ذلك صحيحا فإن الأستاذ “القصاص” نفسه أول المتهمين بالعدوان على الدين، حيث كان كل همه بعد ثورة يناير الطعن في أهداف الجماعة ونواياها تجاه الأمة قائلا بأنها لا تُحسن إلا التسلق على كتف غيرها وأنها تقيم العلاقات مع أمريكا، وأنها لا تفعل شيئا سوى مساعدة المدّ الشيعي الإيراني الرافضي وجلبه إلى داخل الأمة الإسلامية!.[١٦]..

ولكن إحقاقًا للحق فقد كان الخلاف سياسيًّا بالأساس، حيث انحاز “العقاد” إلى الحزب السعدي الذي كان يقوده “النقراشي” باشا رئيس الوزراء وقتها، والذي بلغت شدة الخصومة مع جماعة الإخوان حدّ قتله، وفي المقابل تم اعتقال كافة أعضاء الجماعة وإعلان حلّها، ثم التآمر على قتل مرشدها الإمام “حسن البنا” رحمه الله..

وقد جانب “العقاد” الحق في خصومته واشتط بصورة فاجرة في مقالاته، ومع ذلك فإن أمر معاداة الدين لم يكن واردًا على الإطلاق، بل إنه كتب في جريدة الأساس مقالاً بتاريخ ٤ فبراير ١٩٤٩م، تحت عنوان “صوت حكيم من شباب كريم” يثمن فيه دور شباب الأزهر وشيوخه في مواجهة الإخوان المسلمين، وإن شباب الأزهر هم الذين سوف يوكل إليهم أمر قيادة الدعوة الإسلامية في المستقبل القريب!.[١٧]..

وبعد .. لا ضير من الخلاف مع “العقاد” أو من هو فوقه أو دونه من الشخصيات عبر تاريخ الأمة الممتد بقرونه الـ١٥ ولكن الواجب والمهم الذي يجب أن يحكمنا هو الالتزام بشرف الخصومة والتماس سُبل التجرد والموضوعية قدر الإمكان.. وإلا فلن نخرج من تيه الغفلة وننحدر أكثر في هاوية السقوط في بئر الموضوعات والأكاذيب والأوهام ونفقد معها علامات طريق الخيرية وتحقيق وعد رب العالمين لأمة فتبيّنوا!.

كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف

 ٦ أكتوبر ٢٠٢٣م / ٢١ ربيع الأول ١٤٤٥هـ.

#معركة_الوعي_أم_المعارك !.

هوامش المقال:

[١] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، جـ٩صـ١١٧، دار الفكر، بيروت سنة ١٤١٦هـ/١٩٩٦م.

[٢] للتفاصيل انظر مقالي «العقاد وثقافة التدليس المبتورة!»

[٣] مقال قمامة التاريخ، فهمي هويدي، جريدة الشروق اليومية، بتاريخ ٨ أغسطس ٢٠٠٩م..

[٤] على صفحة محمد جلال القصاص، بتاريخ ٣ أكتوبر ٢٠٢٣م، صورة ضوئية للصفحة في التعليق الثاني..

[٥] مناقشة هادئة لإسلاميات العقاد، محمد جلال القصاص، صـ٩٢، الطبعة الثانية سنة ٢٠١٨م..

[٦] الصديقة بنت الصديق، عباس محمود العقاد، صـ٩١، نهضة مصر، الطبعة الرابعة، يوليو ٢٠٠٥م.

[٧] الصديقة بنت الصديق، العقاد، صـ٩٣، مصدر سابق

[٨] الصديقة بنت الصديق، العقاد، صـ٩٦،٩٥، مصدر سابق..

[٩] البداية والنهاية، الحافظ ابن كثير، جـ٧ صـ٣٧٠، مراجعة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط والدكتور بشار عواد معروف، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر..

[١٠] البداية والنهاية، مصدر سابق، جـ٧صـ٣٠٦

[١١] مناقشة هادئة، القصاص، صـ٢٨،٢٣، مصدر سابق

[١٢] مناقشة هادئة، القصاص، صـ٩٢، مصدر سابق

[١٣] ذو النورين عثمان بن عفان، عباس محمود العقاد، صـ٦، الطبعة الخامسة، نهضة مصر، سنة ٢٠٠٥م..

[١٤] الصديقة بنت الصديق، العقاد، صـ٣٩،٣٨، مصدر سابق

[١٥] مناقشة هادئة، القصاص، صـ١٤، مصدر سابق ..

[١٦] مداخلة على تلفزيون سعودي في برنامج يقدمه الإعلامي عبد العزيز قاسم، بوجود الكاتب الصحفي جمال سلطان، سنة ٢٠١١م، الرابط بالتعليق الثالث..

[١٧] “عباس العقاد” بين اليمين واليسار، رجاء النقاش، صـ٣١٢، دار المريخ للنشر الرياض، طبعة سنة ١٤٠٨هـ/ ١٩٨٨م..

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب