الأثنين مايو 20, 2024
بحوث ودراسات

أحمد سعد يكتب: العسكر والإخوان.. وأخطاء يناير (11)

مشاركة:

البعض منا يرتكب خطأ جسيما في حق الوطن، وفي حق نفسه أيضا، عندما يتعامل مع ثورة 25 يناير، على أنها تجربة ثورية لم يكتب لها النجاح، ثم يضع نقطة ويبدأ من أول السطر، معتبرا أن الثورة صفحة تم طيها، وأنه يجب علينا تجاوزها وتناسي مآسييها، وعدم النبش في دفاتر أحداثها، حتى لا ننكأ جراحا كانت قد اندملت!!

والحقيقة أن ترديد مثل هذا الكلام أكبر من أن نصفه بالخطأ، بل يمكن اعتباره جريمة، إن لم يكن خيانة عظمى، ذلك لأن الجراح التي تركتها الثورة لم تندمل بعد، بل مازالت مفتوحة، ونزيف الدم منها لم يتوقف، هذا فضلا عن أننا سنهدر بذلك درسا عظيما، وتجربة ثورية غاية في الثراء، دفع ثمنها غاليا عشرات الألاف من المصريين، بعد أن راح ضحيتها ألاف الشهداء، وخلفت وراءها المئات من أصحاب العاهات المستديمة، وغٌيّب بسببها الألاف داخل السجون، هذا غير المختفين قصريا، والمنفيين خارج البلاد، والمطاردين داخلها، إضافة إلى الذين لم يتحملوا صدمتها وأصيبوا بأمراض عقلية، وفوق كل هذا ما آلت إليه البلاد الآن، بالتفريط في أراضيها وبيعها للأجانب بالقطعة، إضافة إلى ذلك الأوضاع المتردية التي يعيشها الملايين من أبناء الشعب اليوم تحت حكم من أفشلوا الثورة وانقلبوا عليها، ومن ثم فإن الردم على تجربة كهذه، أو محاولة طمسها، أو حتى تناسيها، سيكون بمثابة الخيانة في حق التاريخ، والاستهتار بالحاضر، والتفريط في المستقبل، وإهدارا لفرصة ذهبية لتصحيح كل هذه الأخطاء في ثورة قادمة بإذن الله، عندما يثور الشعب مرة ثانية..

وقبل أن نجد أنفسنا أمام ثورة جديدة، ندفع فيها نفس الثمن، ونكرر فيها نفس الأخطاء، وننتظر منها نتائج مغايرة، أرى أن واجب الوقت، بل وكل الوقت، على المصريين عامة، وعلى القوى السياسية خاصة، ألا يغفلوا لحظة عن اجترار أحداث الثورة، وقراءة أوراقها مرة واثنين وعشرة، متأملين تفاصيلها، ومستحضرين أحداثها، ومتعلمين من دروسها، وعازمين على إحيائها من جديد، معاهدين النفس على الإخلاص لها بتفادي أخطائها، والعمل على إنجاح أهدافها، والتي على رأسها اسقاط النظام، كل النظام، وليس الرأس فقط كما فعلنا في التجربة السابقة!!

وإذا كانت الأخطاء التي وقعت فيها القوى السياسية وأدت إلى تعثر الثورة، كانت متفاوتة من تيار لأخر، ومن قوة للثانية، إلا أن هناك أخطاء جمعية، اشتركت في ارتكابها كل القوى تقريبا، وعلى رأسها قوى الإسلام السياسي، ألا وهي أخطاء التعامل مع الإعلام عامة، ومع إعلام الثورة المضادة خاصة.. فالإعلام المضاد عموما والمصري خصوصا لعب دورا حيويا في إفشال الثورة، يمكن أن نصفه بدور البطولة، بعدما نجح في تغيير مسار الثورة والانحراف بها نحو الانقلاب، عن طريق استقطاب أعداد ضخمة من أبناء الشعب المصري، وتجييشها ضد الثورة، وضد قوى الإسلام السياسي وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين، بل وتحريضها على الحكم الديمقراطي الذي أفرزته الثورة وجاء به الشعب في انتخابات حرة شهد العالم كله على نزاهتها..

ولكي يتمكن الإعلام من تحقيق هذه الأهداف، طبقا للخطة الموضوعة له من رعاة الثورة المضادة، فقد لعب على أكثر من محور، أول وأهم تلك المحاور، تمثل في استقطاب الخلايا النائمة من أبناء الشعب المصري، ليشكل منها قوة شعبية مضادة للثورة، حيث راح يستميل المواطنين «السلبيين» أصحاب المواقف السلبية من الثورة، والذين رأوا فيها تهديدا لاستقرارهم وأمنهم الاجتماعي، كما عمل أيضا على استدراج «المحايدين» ممن مارسوا الفرجة على الثورة من بيوتهم، وهم من أطلق عليهم الناس وقتها «حزب الكنبة» فقد راح الإعلام وقتها يستغل سذاجة هذين النوعين من المواطنين، وقلة وعيهم السياسي، وتخوفهم على المستقبل من الثورة، ليعظم لديهم هذا الشعور، ويزيد من إرجافهم تجاه الثورة والثوار، بل والتحريض عليهم، ثم توجيههم إلى دعم الثوة المضادة، المتمثلة في العسكر..

المسيحيون والإسلاموفوبيا

من المحاور المهمة أيضا التي نفذها الإعلام في تلك الفترة، لتنفيذ مخطط الانقلاب على الثورة، هو تعزيز الشعور لدى الملايين من المصريين ممن أصابهم الرعب والهلع من قدوم الإسلاميين ووصولهم إلى سدة الحكم، مع الترديد المستمر بأن حكمهم للبلاد، لا يهدد فقط حرياتهم الشخصية، إنما فيه تهديد لحياتهم كلها، حيث استغل الإعلام الثقافة الدينية المحدودة لدى الكثيرين من أبناء الشعب، والتوجهات الإيدلوجية لدى البعض الأخر، ليدس لهم الكثير من المعلومات المغلوطة عن الإسلام والمسلمين، كما لعب على العنصر الطائفي لدى المسيحيين المتشددين، الذين أحزنهم سطوة قوى الإسلام السياسي واكتساحها لجميع الاستحقاقات الانتخابية التي جرت، حيث نجح الإعلام وقتها في استخدام حالة الذهان التي كان عليها الكثيرون من المصريين، بالخوف من الإسلام والإسلاميين وهي الحالة التي يطلق عليها اصطلاحا «إسلامو فوبيا» حيث عمل على ترديد مئات الشائعات، وتأليف الألاف من الأخبار الكاذبة التي تدعم هذا الشعور، والتي تشير جميعها إلى أن وجود الإسلاميين في الحكم، يمثل خطرا جسميا على الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسحيين، ويهدد مدنية الدولة، ويهدم التنوع المجتمعي الذي تعيشه مصر منذ قديم الزمن، وبدا العزف موحدا في كل الوسائل الإعلامية على وتر أسلمة الدولة وأخونتها، وأن حكم الإسلاميين يعني القضاء على أصحاب الديانات والطوائف الأخرى خصوصا المسيحية، ولعل ما زاد المخاوف أكثر عند الكثيرين من أبناء الشعب المصري مسلمين ومسيحيين، هو إكثار الإعلام من الترويج لفكرة أن وجود الإسلاميين في الحكم يعني تطبيقهم للشريعة الإسلامية عاجلا أو آجلا، والإعلام يعلم أن الفهم القاصر لدى عموم الناس من تطبيق الشريعة، يعني عندهم قطع يد السارق وجلد المخمور ورجم الزاني، والإعدام عن طريق قطع الرقاب بالسيوف، كما عمل الإعلام على تخويف العديد من الشرائح المصرية والتي ربما تكون مسلمة، لكن الدين ليس في اعتباراتهم، بأن راح يخوفهم من أن وجود الإسلاميين يعني إغلاق  الملاهي الليلية، وتحريم المعازف والغناء، وغلق الملاعب الرياضية، ومنع الناس من لعب الكرة، إضافة إلى منع ارتداء النساء للمايوهات بالشواطئ، وفرض الحجاب على كل النساء، ومنع المرأة من العمل، وهدم الُاثار الفرعونية، وغير ذلك من سيل الشائعات الذي انهمر في تلك الفترة ولم يتوقف إلا بوقوع الانقلاب العسكري..

وترويع الإعلام للناس بهاجس «الإسلامو فوبيا» لم يتوقف عند حدود تخويف المصريين فقط، إنما تخطاه إلى الإقليمية والعالمية أيضا، وذلك بهدف كسب دعم الدول الكارهة والمعادية للإسلام والإسلاميين، والحصول على مساندتها وتأييدها للإطاحة بهم والتخلص منهم، حيث راح الإعلام يروج لفكرة أن وصول الإسلاميين للحكم في مصر، لن يكون هو أخر الأهداف التي يتطلعون إليها، إنما هناك ما هو أهم بالنسبة لهم، ألا وهو استعادة دولة الخلافة الإسلامية، التي سقطت في عشرينات القرن الماضي، وأن هناك دولا كبرى تشاركهم نفس الهدف ومن ثم تدعمهم وتقويهم، وعلى رأس هذه الدول تركيا، باعتبارها دولة الخلافة العثمانية، وهو ما أفزع الكثير من دول العالم، وخصوصا دول القارة الأوروبية، التي كان ظهور الإسلام سببا في سقوط إمبراطوريتها «الإمبراطورية الرومانية» التي كانت تحكم العالم لمئات السنين، وهي الإمبراطورية التي خاضت من أجل استعادتها عشرات الحروب الصليبية، وراح ضحيتها ملايين البشر.

تحريض الشباب

المحور الثالث الذي لعب عليه الإعلام، والذي لا يقل أهمية عن سابقيه، هو استدراج السياسيين من غير القوى الإسلامية وخصوصا قوى الشباب، وهي القوى التي نجح الإعلام في تأليبها وتحريضها ضد قوى الإسلام السياسي وخصوصا الإخوان المسلمين، فقد استغل الإعلام وقتها حالة الانشقاق التي وقعت بين القوى الثورية مبكرا، والتي بدأت بعد أقل من شهرين من اندلاع الثورة، وبالتحديد في استفتاء 19 مارس، حيث راح الإعلام وقتها يزكي من نار هذه الخلافات، من أجل زيادة الفجوة بينها، أو على الأقل عزل قوى الإسلام وخصوصا الإخوان، عن بقية القوى الأخرى، وهو ما نجح فيه بالفعل، بعدما بدا حادا وشرسا في خطابه مع جماعة الإخوان، فيما كان متصالحا ومتسامحا لأبعد حد مع القوى الأخرى، ووقتها بدا وضع الإخوان في وسائل الإعلام وكأنهم فئة منبوذة من الجميع وغير مرحب بوجودهم من كل القوى السياسية تقريبا، وقد تجلى ذلك لاحقا، باتحاد وتحالف كل القوى السياسية ضدهم، وانصهارهم في جبهة واحدة، سميت جبهة الإنقاذ.. أما الشباب فقد انتهز الإعلام فرحته بالظهور الإعلامي المتكرر، وبالمقابل المادي الكبير الذي يحصلون عليه من الظهور التليفزيوني، وراح يوظف ذلك في تسليط الشباب على الإخوان، بالنقد والهجوم المستمر عليهم، بل والتطاول على رموزه، وهو دور أداه الشباب بأكثر مما هو مطلوب، وأقسى مما كان ينبغي، دون خوف من العواقب، لكنهم بدوا وقتها أنهم يأوون لركن شديد، تبين فيما بعد أنه العسكر..

دور الدولة العميقة

أحد الأسلحة المهمة التي استخدمها الإعلام في تلك الفترة للتأكيد على فشل الإسلاميين في الحكم، هو التركيز الشديد على المشاكل والأزمات التي كان يعاني منها المصريون من وراء الثورة، وتحت حكم الإخوان، وإذا كان الهدف هنا هو شيطنة الثورة عامة، وتكريه الناس فيها، إلا أن الأهم هو إظهار عجز الإخوان وفشلهم في إدارة شئون الدولة، وهو دور أداه الإعلام بمنتهى الاقتدار، لكنه في الواقع دور يحسب للدولة العميقة وليس للإعلام، لأن الدولة العميقة هي التي أدت الدور الرئيسي في تجسيد صورة الفشل هذه، وإن كان هذا الدور تم في الخفاء ومن وراء ستار، ولذلك كان يُعزى دائما لطرف ثالث لا أحد يعلم من هو أو من يحركه، والدور الذي لعبته الدولة العميقة هنا، تمثل في تعطيلها لكل القرارات التي كان يصدرها الرئيس محمد مرسي أو حكومته، ثم  بافتعال الأزمات اليومية التي جعلت الناس تسب الرئيس وحكومته في الطرقات، وتصب جام غضبها على الإخوان وحكمهم، بل وعلى الثورة التي جاءت بهم، والدولة العميقة هي من كانت وراء أزمات انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، وهي أيضا التي كانت وراء تعطيل وصول شاحنات البترول إلى محطات البنزين، سواء بتفريغ حمولة هذه الشاحنات بالصحراء، أو بتعمد تأخير وصولها لأماكن بيعها، وهو ما كان يتسبب في تكدس مئات السيارات بمحطات البترول، والدولة العميقة أيضا هي التي كانت تحرض على الإضرابات الفئوية التي كانت تشهدها العديد من القطاعات الحكومية، تلك الإضرابات كانت تؤثر على المصالح المباشرة للمواطنين، مثل إضرابات موظفي هيئة مترو الانفاق والسكة الحديد، وهو ما كان يتسبب في تعطيل حركة المترو والقطارات، والدولة العميقة أيضا هي من كانت تلقي بأكوام القمامة في الطرق والميادين، وهي القمامة التي كان يجمعها شباب الإخوان لتعويض غياب شركات النظافة عن الشارع، وإذا كان الدور الذي لعبته الدولة العميقة كان خفيا في الكثير من الأزمات التي عانى منها المصريون، فهو كان علنيا وفجا في بعض المصالح الحكومية، وبالتحديد في أقسام الشرطة، حيث كان الضباط يرفضون الاستجابة لطلبات المواطنين، بل كانوا يرفضون تحرير المحاضر حتى في القضايا العاجلة والخطيرة، وكانوا يجاهرون بهذا الرفض، بل ويعلنون تحديهم لرئيس الدولة، ويردون دائما على الناس، بجملة انتشرت في كل الأقسام تقريبا وهي «اذهب لرئيسك اللي انتخبته خليه يعملك هو المحضر» وغير ذلك من العراقيل المتعمدة والتي كانت أشبه بوضع العصا في العجلة لتعطيل مصالح المواطنين، وبالتالي أظهرت الإخوان بالعجز التام عن إدارة الدولة، في المقابل كانت هذه الأزمات المفتعلة، بمثابة الوجبة الشهية التي يتناولها الإعلام المصري يوميا بنهم شديد، حيث كان الإعلاميون المحسوبون على الثورة المضادة، يكثفون من تسليط الضوء عليها، ويفردون الساعات الطويلة لمناقشتها، بل ويجرون اللقاءات  المطولة مع المواطنين لاستطلاع آرائهم فيها وفي حكم الإخوان وغالبا ما تكون الآراء سلبية، كما أن الإعلاميين كانوا يحرصون دائما على أن يكون اختيار ضيوفهم من المسؤولين والخبراء والسياسيين، ممن يثقون في كراهيتهم للإسلاميين عامة والإخوان خاصة، فيضمنوا بذلك زيادة الطعن في كفاءتهم، وارتفاع حدة الهجوم عليهم والمطالبة برحيلهم، فيما يتم تجاهل أي ضيف أو مسؤول يمكن أن يدافع عن الإخوان أو يلتمس لهم العذر في أي من هذه الأزمات، أو يقول رأيا أخر غير الذي يتبناه هذا الإعلام!!

الاغتيال المعنوي لمرسي

المحور الخامس في هذه الحرب الإعلامية، تمثل في إهدار قيمة ومكانة منصب رئيس الدولة والذي كان يشغله الدكتور محمد مرسي، وكان الهدف الأول والرئيسي هنا هو إعطاء انطباع للناس بأن هذا الرجل غير قادر على حفظ هيبة ومكانة المنصب، ومن ثم فهو غير جدير به، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، وانحصر في النقد القاسي والعبارات غير اللائقة في حق الرئيس، إنما وصل لحد الاغتيال المعنوي له، بعد أن ظهرت بعض البرامج التليفزيونية التي تخصصت في الاستخفاف به والاستهزاء منه، وكان على رأسها البرنامج الساخر للمذيع باسم يوسف «البرنامج» والذي كان موجها وبشكل مباشر ضد مرسي وإن تناول بعض الشخصيات الأخرى، لكن النصيب الأعظم من السخرية والاستهزاء والتطاول كان من نصيب مرسي دائما، حتى أن الأمر كان يصل في كثير من الأحيان إلى السب المباشر، واستخدام الألفاظ الخارجة والإيحاءات الجنسية ضده لإضحاك الناس عليه، وإسعاد الدولة العميقة!!

عمرو الليثي وخالد عبد الله يكشفان الخطيئة

من هنا يمكن القول إن إعلام الدولة العميقة والثورة المضادة، كان أشبه بترسانة أسلحة تم توظيفها بعناية فائقة لإسقاط الثورة أولا، وإسقاط الإسلام السياسي ثانيا، وإسقاط جماعة الإخوان المسلمين وحكمهم للدولة المصرية ثالثا، والذي كان يراقب ويتابع تلك المرحلة، كان يمكنه التوصل لهذا المفهوم بسهولة، ومن ثم كان المتوقع أن يكون أكثر الناس إدراكا له وفهما لأبعاده هم قوى الإسلام السياسي عموما، والإخوان المسلمين خصوصا، ومن ثم كان الواجب عليهم أن الحذر منه، والعمل على مكافحته والتصدي له، بما يناسب قوته وخطورته، بيد أن الواقع كان يقول غير ذلك، حيث لم نر أي تحرك للقوى الإسلامية والإخوان خصوصا، يكشف إدراكهم لخطورة هذا السلاح، والنتائج المترتبة على ضربهم به، ولو أنهم أدركوا ذلك لعرفوا كيف يستعدون له، ويواجهونه بالطرق المناسبة، خاصة وأن أهدافهم من المشاركة في الثورة والتنافس على استحقاقتها الانتخابية كانت كبيرة وبلا سقف، ومن بينها  رئاسة الجمهورية، وهو ما كان يتطلب سلاحا قويا يحميها ويدعمها ويحرس وجودها، لكن وللأسف بدا الإخوان على قدر كبير من السذاجة السياسية، بعدما ظنوا أن وصول ممثلهم للحكم يكفي وحده لتحصينه وتحصين الجماعة من أي هجوم إعلامي، وأن المنصب وحده كفيل بدعم الإعلام للرئيس، ولعل ذلك هو الذي جعل جماعة الإخوان تكتفي بوجود قناة فضائية واحدة، هي قناة «مصر 25» وليتها كانت قناة على المستوى الذي يجعلها قادرة على دعم ممثلها في الرئاسة بالشكل المناسب، والتصدي للإعلام المضاد، بل للأسف كانت قناة هزيلة لأبعد مدى، حيث لم تترك أثناء وجودها أي أثر في الشارع، كما لم يكن لها أي ذكر أو تأثير بين جيش القنوات الفضائية التي ظهرت في تلك الفترة، ومن فرط ضعفها وسطحيتها كانت تبدو وكأنها سيف من الصفيح في مواجهة ترسانة نووية، وقد بدا هذا الأمر منطقيا إلى حد بعيد، بعدما وضح أن القائمين على إدارة القناة فضلوا في اختياراتهم للكوادر أهل الثقة على أهل الكفاءة، بل غلبوا الانتماء للجماعة على حساب أصحاب المهنة، فكانت النتيجة أن ظهر كل إعلاميها بلا إمكانات أو خبرات، تمكنهم من الوقوف أمام جحافل الإعلام بقنوات الفلول والثورة المضادة، كما افتقدت القناة للمذيع الموهوب الذي يغري المشاهد بمتابعته، والتأثر برؤيته الإعلامية، حتى الموضوعات والقضايا التي كان يتم تناولها كانت ضعيفة ومتواضعة للغاية وخالية تماما من الصبغة الاحترافية، ولذلك بدأت القناة وانتهت دون أن يعرف الناس لها مذيعا، أو يذكروا لها برنامجا واحدا!!

ولم يكن الحال في بقية القنوات التي كانت تمثل بقية قوى الإسلام السياسي -السلفيين تحديدا- أفضل حالا من قناة الإخوان، حيث كان القاسم المشترك بين النوعين، هو انعدام الاحترافية وغياب الرؤية، وذلك في ظل تغليب المالكين والقائمين عليهما، للانتماء في اختيار الإعلاميين على حساب الخبرة والمهنية، وأن كان هذا الوضع يبدو أكثر غلبة بقنوات السلفيين، حتى أنه كان ينعكس بشكل واضح على الشكل والمضمون، بل والتأثير أيضا، حيث غابت الاحترافية تماما في كل ما هو متعلق بالصورة التليفزيونية، من إخراج، وديكور، ومظهر، وطريقة جلوس المذيع والضيوف، وأسلوب الحوار، هذا فضلا عن استضافة العديد من الشخصيات في البرنامج الواحد بالرغم من الضيق الواضح للاستديو، وهو ما كان يؤثر على طريقة جلوس المذيع والضيوف، فكان الحل الوحيد هو أن يتم «رص» الجميع على منضدة واحدة، المذيع بالمنتصف والضيوف مقسمين على جانبيه بشكل يخالف المألوف لشكل البرامج التليفزيونية التي يعرفها الناس، حتى الحوار نفسه كان يفتقد للتنسيق بين الضيوف، فكانت الحوارات تخرج أقرب إلى الصراخ والزعيق والخناق، وهو ما كان يسئ أكثر للإسلاميين ولإعلامهم، ناهيك طبعا عن الأخطاء والسقطات الإعلامية التي كانت تحدث وكان يستخدمها الخصوم ضدهم..

ومن بين كل إعلامي الإسلام السياسي وبرامجهم التليفزيونية، كان هناك إعلامي وحيد هو الذي كان يملك الموهبة ويتحلى بالاحترافية بالرغم من قلة خبراته أو حداثة عهده بتقديم البرامج السياسية، ألا وهو خالد عبد الله المذيع بقناة الناس في ذلك الوقت، والذي كان يقدم برنامجا يوميا على طريقة برامج «التوك شو» وكان البرنامج يحمل اسم «مصر الجديدة» فبالرغم من الإمكانات المحدودة للقناة وللبرنامج، إلا أن خالد عبد الله استطاع أن يحقق نجاحا كبيرا جعل برنامجه هو الأشهر والأكثر مشاهدة بين كل البرامج التي تقدمها قنوات الإسلاميين، وربما غير الإسلاميين، خاصة وأن خالد عبد الله كان يبدو جسورا وصاحب حجة قوية في الرد على إعلاميين الثورة المضادة، لكن وبالرغم من ذلك لم يتلق الدعم المادي أو المعنوي من كبار رموز الإسلام السياسي، أو حتى من قيادات الإخوان الذين وصلوا إلى مناصب كبيرة بالدولة، حتى أن الدكتور محمد مرسي عندما قرر إجراء حوار تليفزيوني وهو في منصب الرئاسة، لم يفكر في خالد عبد الله المحسوب عليه، والذي يقف في ظهره ويدعمه، إنما ذهب لأحد إعلامي الثورة المضادة وهو عمرو الليثي، ذلك المذيع الذي كان يؤدي في ذلك الوقت دورا خبيثا في تشويه الإسلاميين وإن بدا للناس بوجه المحب، فقد كان الليثي يتظاهر أمام جمهور الإسلاميين بالتدين، بل وادعاء تأييدهم، ومن ثم كانوا يقبلون دعواته للقاءات التليفزيونية، فيما كان هو دورا أخر أثناء هذه اللقاءات بالتفتيش في رؤوس ضيوفه من الإسلاميين، من ثم يسهل مهمة الأجهزة في معرفة آرائهم ومواقفهم تجاه أمور معينة، بل أنه كثيرا ما كان يستدرجهم إلى كلمات وتصريحات يتم مؤاخذتهم عليها لاحقا، والحقيقة أن هذا دورا قام به الكثيرون من الإعلاميين خصوصا أصحاب الملامح الوديعة الخادعة للناس من عينة عمرو الليثي، من هؤلاء مثلا الإعلامي عماد أديب الذي كان قد أجرى حوارا مع الدكتور محمد مرسي قبل وصوله للحكم، نجح خلاله أديب أن ينتزع من مرسي تصريحا كان بمثابة الحبل الذي لفه الناس والعسكر على رقبة مرسي فيما بعد، ألا وهو التصريح الخاص بأنه إذا وصل للرئاسة سينجح في حل كل أزمات المصريين في سنة واحدة فقط، وهو نفس الدور الذي أداه عمرو الليثي في حواره مع مرسي وإن اختلفت الوسيلة، ففي الحوار الذي أجراه الليثي مع الرئيس، بدأت أسئلة المذيع فيه أقرب إلى المحاكمة منها إلى الحوار الصحفي، وكان الهدف منه هو إحراج مرسي أمام الرأي العام، وإظهار فشله على الملأ، وكان أول سؤال هو: من يحكم مصر الآن الدكتور محمد مرسي أم مكتب الإرشاد؟ وأيضا: أنت سبق وقلت إن الناس لو نزلت الشارع وطالبت برحيلي سأرحل على الفور ومع ذلك لم تف بوعدك؟ وسؤال أخر: هل تشعر أنك ارتكبت أخطاء ضد المواطن بقصد أو بدون قصد؟ وأخر: أنت سبق وقلت إنك لن تطبق حالة الطوارئ ومع ذلك طبقتها في مدن القناة؟ وغير ذلك من أسئلة الاتهام، التي جعلت مرسي يبدو وكأنه في حضرة وكيل نيابة، وليس مع إعلامي يفترض أنه مختار بعناية من قبل مسؤولي الرئاسة، ليضمنوا بوجوده حفظ هيبة ومكانة الرئيس وإبراز إيجابياته، ولو أن مرسي ومستشاريه كانوا قد اختاروا مذيعا مثل خالد عبد الله لحقق لهم كل أهدافهم المطلوبة إلا أنهم لم يفعلوا وفضلوا عليه عدوهم..

حازم أبو إسماعيل وقع في الفخ

لا يمكن أن نتحدث عن دور الإعلام في ثورة يناير، دون ذكر اسم الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، باعتباره أحد أبرز وأهم الشخصيات التي سلط عليها الإعلام الضوء خلال تلك الفترة، وهو ما ساهم بشكل كبيرة في تزايد شهرته وشعبيته بين عموم الناس وليس بين جمهور الإسلاميين فقط الذين كانوا يتابعون برامجه الدينية بالفضائيات، والذين يحرصون على حضور دروسه التي كان يلقيها بمسجد أسد ابن الفرات بحي الدقي، وهذه الشهرة التي جعلت أبو إسماعيل يصبح أهم الرموز السياسية بثورة يناير، وأبرز المرشحين للفوز بمنصب رئاسة الجمهورية، ذلك المنصب الذي ترشح له، قبل أن تستبعده اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية بدعوى حصول والدته على الجنسية الأمريكية، وإذا كانت شعبية أبو إسماعيل وتأثيره الكبير في الجماهير هي التي فرضته على الإعلام في ذلك الوقت، إلا أن من يدقق في المشهد وفي حالة الحرص الشديد التي كانت عليها القنوات المصرية لاستضافته في أكبر وأهم برامجها، مع تجاهل أقرانه من رموز الإسلام السياسي، يجد أن هذا التواجد الإعلامي لأبو إسماعيل كان مقصودا ومطلوبا ممن يقودون الثورة المضادة في الكواليس، والهدف هو حرق أبو إسماعيل، وحرق كل المنتمين للإسلام السياسي كما سنذكر لاحقا بإذن الله..

لكن الحقيقة المؤكدة هنا هي أن ظهور أبو إسماعيل في إعلام الثورة المضادة كان يكسبه المزيد من الشعبية، بل ويرفع من قيمته ومكانته عند مؤيديه ومحبيه، خاصة في ظل الشجاعة التي كان يتمتع بها في كل اللقاءات التي ظهر بها، وكذلك الجرأة التي كان عليها، عند الرد على أسئلة تتعلق بالقرارات والمواقف الخاصة بالمجلس العسكري، والناس لازالت تذكر له إلى الآن تصريحه الشهير، الذي قال فيه عن عبد الفتاح السيسي الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب وزير الدفاع أنه «ممثل عاطفي»  كما أن الذي زاد من شعبيته أكثر وأكثر هو درايته الكاملة بألاعيب العسكر، وفراسته السياسية الواضحة، تلك الفراسة التي كانت تمكنه من قراءة المشهد بشكل صحيح، وتوصيفه على حقيقته، بل وتوقع نتائجه، ولذلك كان هو أول من تنبأ بالانقلاب العسكري، وأول من حذر منه، كما أن هذه الشعبية تضاعفت وتحولت إلى هيبة ورهبة من مجرد ذكر اسم أبو إسماعيل، بعد حصار أنصاره لبعض المؤسسات المهمة التي تعمل لحساب الثورة المضادة، مثل المحكمة الدستورية، ومدينة الإنتاج الإعلامي، هذا بخلاف قدرته الكبيرة على حشد الجماهير بالميادين، ونجاح دعواته للعديد من المظاهرات المليونية، تلك التظاهرات التي كان لها دور كبير في التأثير على قرارات ومواقف المجلس العسكري، والضغط عليه لتنفيذ مطالب الثوار، ومنها على سبيل المثال تحديد موعد انتخابات رئاسة الجمهورية، وتحديد موعد تسليمهم للسلطة..

ولا شك أن هذه الشعبية الواسعة التي تمتع بها أبو إسماعيل، كان من الممكن أن تقلب موازيين الثورة لو تم توظيفها التوظيف الأمثل، أو تم دمجها مع جماهير القوى الإسلامية الأخرى ولا سيما جماهير الإخوان، إلا أن أبو إسماعيل لم يكن له الرغبة في ذلك، بسبب خلافه السياسي مع الإخوان، كما أنه كان يعاب على جماهيرية أبو إسماعيل أنها أمامه وليست في ظهره، والدليل على ذلك أن هذه الجماهيرية تبخرت تماما بالقبض عليه بعد الانقلاب العسكري، ولو أنها كانت في ظهره، لرأينا لها موقفا قويا لمناصرته ودعمه بعد القبض عليه، فالناس وقتها وأنا منهم تصورت أن القبض على أبو إسماعيل، سيتبعه ثورة عارمة من أنصاره، وأن هذه الثورة يمكن لها أن تُسقط الانقلاب وتبعث الروح من جديد في ثورة يناير، إلا أننا لم نر أي وجود أو أثر لمؤيديه الذين كانوا يسمون أنفسهم بـ«حازمون» نسبة إلى قائدهم حازم صلاح أبو إسماعيل!!

وإذا كان هذا الإعلام المضاد هو من ساهم في صناعة شعبية أبو إسماعيل بهذا الشكل الكبير، إلا أني أرى هذا الدور كان مقصودا ومطلوبا لأكثر من سبب، أول وأهم هذه الأسباب هو الهيئة العامة التي عليها أبو إسماعيل، حيث الجسد الضخم واللحية الكثيفة الطويلة، تلك الهيئة التي تحرص الميديا والدراما المعادية للإسلام على إظهار المسلم المتشدد عليها دائما، يضاف إليها الجلباب الأبيض في أغلب الأحوال، وهي الصورة التي رسمتها الميديا والسينما المحلية والعالمية للمسلم الذي يطلقون عليه لقب إرهابي، ومن ثم فإن الظهور التليفزيوني لأبو إسماعيل قد يدعم تلك الصورة النمطية عند الناس، خصوصا المصابين بذهان «الإسلاموفوبيا» خاصة وأن خطاب أبو إسماعيل يبدو أغلب الوقت، شديد التمسك بأصول وثوابت الدين الإسلامي، وهو ما تظهره من أرائه شديدة الصراحة، عند أخذ رأيه في بعض القضايا الجدلية، تطبيق الشريعة الإسلامية في الحكم، ووجود الملاهي الليلية، وشرب الخمر، وعمل المرأة، وفرض الجزية على النصارى، وغير ذلك من القضايا، التي كان الإعلام يدفع أبو إسماعيل للحديث فيها، بل واستفزازه حتى ينطق بما يخدم هدفهم بتصوير الإسلاميين ممثلين في أبو إسماعيل على أنهم متشددون، ولعل ما يعزز عندي أسباب الحرص الكبير لدى هذه القنوات على استضافة أبو إسماعيل بل وإعطائه مساحة زمنية كبيرة كانت تصل في غالبية الأحيان إلى الساعتين وربما تتخطاهما، رغم أرائه المتشددة، وحصار أنصاره لمدينة الإنتاج الإعلامي، هو تحقيق أبو إسماعيل لكل الأهداف التي أرادها الإعلاميون من استضافته، والتي تدعم وجهة نظرهم في الإسلام السياسي، ووضعه كله في سلة واحدة، ورسمه كله في صورة هذا السلفي، وهو ما يفسر الحضور الكثيف لأبو إسماعيل في إعلام الثورة المضادة، فمن يراجع عدد الحوارات التليفزيونية التي أجراها أبو إسماعيل في شهور قليلة يجدها بالعشرات، وهو ما لم يتحقق لأي سياسي غيره، إسلاميا كان أو غير إسلامي، حيث حل ضيفا على كل فضائيات مدينة الإنتاج الإعلامي تقريبا، وظهر مع غالبية مذيعيها إلا اثنين أو ثلاثة على الأكثر، بل إنه ظهر مع بعض المذيعين أكثر من مرة بالقناة الواحدة، فقد ظهر مع كل من أسامة كمال (القناة الأولى بالتليفزيون المصري) ودينا عبد الرحمن (قناة التحرير) ومحمود سعد (قناة النهار) وخيري رمضان (سي بي سي) وعمرو الليثي (قناة المحور) وسيد علي (قناة المحور) وتامر أمين (قناة المحور) وعماد أديب (سي بي سي) ويسري فودة (قناة أون تي في) ومعتز الدمرداش (قناة الحياة) وأحمد أبو هيبة (قناة التحرير) وعزة مصطفى وحمدي رزق (قناة صدى البلد) وائل الإبراشي (قناة دريم) وطوني خليفة (القاهرة والناس)..

وكان اللافت في كل هذه الحوارات، هو أن أبو إسماعيل كان سعيدا بهذا الظهور، ومن ثم موافقته على قبول أي دعوة يتلقاها للظهور، هذا بالرغم من اعترافه بتبعية تلك القنوات ومذيعيها للفلول والثورة المضادة، وإذا كان مبرره هنا هو الحرص على توصيل رسالته للناس قدر الاستطاعة، إلا أنه كان يمكنه فعل ذلك عن طريق قنوات أخرى لها مواقف محترمة من الثورة ومن صعود الإسلاميين للحكم، مثل قنوات الجزيرة والتي أجرت معه حوارين أحدهما للإعلامي الراحل كارم محمود بقناة الجزيرة الإخبارية، والثاني لأيمن عزام بقناة الجزيرة مباشر مصر، وقناة أمجاد التي أجرت معه أكثر من حوار، ولذلك فإن أبو إسماعيل على قدر فراسته ويقظته العقلية، إلا أنه سقط في نفس الفخ الذي نصبه الإعلام والثورة المضادة لقوى الإسلام السياسي، ووقع فيه الجميع!!

نكمل في الحلقة القادمة بإذن الله.

Please follow and like us:
أحمد سعد
كاتب صحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب