أحمد سعد يكتب: العسكر والإخوان.. وأخطاء يناير (2)
من المهم التأكيد على أن سلسلة المقالات هذه، ليست رصدا لأحداث ثورة يناير، ولا تأريخا لها، فالكاتب ليس بباحث مهمته رصد الأحداث، ولا بمؤرخ يكتب التاريخ، إنما صحفي يقرأ ويراقب ويحلل وينتقد، ويصيب ويخطئ..
وما أكتبه في هذه السلسلة، هو تحليل لأحداث ثورة يناير، معتمدة على قراءة واسعة لما قيل وكُتب عنها، ومراقبة دؤوبة لما جرى في العشر سنوات الأخيرة، ومازال يجري..
في المقال السابق أشرت إلى أن أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبها الثوار في يناير، تمثل في السذاجة السياسية، وحُسن النية الزائد في التعامل مع العسكر، والسلمية المفرطة، في مواجهة من كانوا يحملون السلاح في وجه المتظاهرين بهدف قتلهم والتخلص منهم!
واليوم ننتقل لبعض أخر من الأخطاء التي كانت إيذانا بالفشل المبكر للثورة، وتعثرها في جولتها الأولى أمام العسكر والدولة العميقة..
على رأس أخطاء اليوم، هو عدم الاتفاق على هدف واضح من الثورة، نعم الهدف المعلن كان هو إسقاط النظام، إلا أن هذا كان يستوجب أولا تحديد ماهية النظام الذي نريد إسقاطه، فأغلب الثورات الكبرى التي وقعت في التاريخ رفعت هذا الشعار، بهدف تغيير نظام حكم للدولة كنظام ملكي مثلا إلى جمهوري، كما في الثورتين الفرنسية والإيرانية، أما نحن فنظام حكمنا جمهوري، فهل أردنا إسقاط هذا النظام وتغييره إلى نظام السلطانية مثلا؟
المؤكد لا، إذن كان الواجب تحديد ماهية النظام الذي نريد إسقاطه أولا؟
وإذا كان المقصود هو إسقاط مبارك باعتباره رأس النظام، فهل كان إسقاط الرمز فقط كافيا لإنجاح ثورة؟
وإذا كان الهدف هو إسقاط مبارك بمنظومته الحاكمة بالكامل، فلماذا قبلنا بتسليم مبارك عند التنحي مقاليد الحكم للمجلس العسكري، وهو المجلس المٌعين من قبله والموالي له بطبيعة الحال؟
أسئلة كثيرة كان من الواجب أن يكون لها إجابات محددة وواضحة عند الثوار، حتى تكتمل الرؤية الثورية، ونحدد أهدافنا من رفع شعار «الشعب يريد…»
الشعب يريد إسقاط النظام.. أي نظام؟!
عندما انطلقت شرارة الثورة في الخامس والعشرين من يناير 2011 كان المطلب المعلن الذي التف حوله الجميع، هو «عيش – حرية – عدالة اجتماعية» هذا كان كل طموح الشعب المصري الذي عانى من فترة حكم مبارك، لم يكن في مخيلة المصريين أنهم يستطيعون الإطاحة بمبارك، لما يملك من أدوات وقوة داخلية وخارجية مكنته من الاستمرار على كرسي الحكم 30 سنة، لكن ومع زيادة الزخم الثوري، وتدافع الملايين من الجماهير في كل أنحاء مصر، وسقوط جهاز الشرطة في جمعة الغضب يوم 28 يناير، ارتفع سقف المطالب من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، إلى ” الشعب يريد إسقاط النظام “، بيد أن الثوار لم يعرفوا بالضبط ما هو النظام الذي يريدون إسقاطه؟
الحقيقة أن النظام الذي كان -ولازال- يحكم مصر، أكبر بكثير من مبارك وعائلته، بل وأكبر من نظامه بالمفهوم الشامل لأنظمة الحكم، من حكومة وجيش وشرطة وقضاء وإعلام ومؤسسات وأجهزة أمنية ورجال أعمال، فالنظام الذي يحكم المصريين، ليس هو الذي نعرف شخوصه ونراهم بأعيننا، وننتخبهم، ويعتقلونا، إنما النظام الحقيقي والحاكم الفعلي لنا هو دول خارجية، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، بدعم صهيوني مؤكد، ومن لا يدرك ذلك، تكون نظرته قاصرة، وغير مدرك لطبيعة الأوضاع التي نعيشها منذ الخمسينات وما أدراك ما الخمسينات، وثورتنا المجيدة لن يُكتب لها النجاح والاكتمال، إلا إذا أدرك ثوراها هذا الأمر جيدا وتعاملوا على أساسه، وإلا سنصبح كمن يصارع طواحين الهواء، أو يقاتل خصما يراه هو وقبيله من حيث لا يراهم، والراسخون في السياسة، يعلمون أن مبارك وجميع أفراد نظامه، ما هم إلا مجرد أنفار تختارهم المؤسسات الأمريكية والصهيونية بعناية فائقة، وإذا ما رحلوا فهم جاهزون بالبديل، ودائما ما يكون البديل عسكريا وأسوأ من سابقه، كما حدث في انقلاب 2013 عندما استبدلوا الجنرال عبد الفتاح السيسي بالفريق حسني مبارك – الباء تدخل على المتروك – وإذا ما رحل السيسي سيأتون بغيره، وهكذا..
والأمر لا يتوقف عند حدود اختيار الحاكم وتعيين أفراد منظومته فحسب، إنما هو أكبر وأبعد من ذلك بكثير، يكفينا الإشارة في ذلك إلى أن مصر لا يمكنها وضع المناهج الدراسية التي يتلقاها الطلاب بالمدارس، إنما تضعها أمريكا بتوجه صهيوني، بدعوى حماية السلام من الأفكار المتطرفة بين قوسين الإسلام، كذلك الحال بالنسبة للمواد الإعلامية التي يتم نشرها بالصحف والمواقع، أو بثها عبر الإذاعة والتليفزيون، حتى الدراما السينمائية والتليفزيونية، فأمريكا والصهاينة يتحكمون فيها وفي الفن عامة، بل وفي كل ما تظن أنه يغذي عقل الإنسان المصري، وأمريكا تعرف طبيعة المواطن المصري أكثر مما يعرف عن نفسه، فالمراكز البحثية الاستقصائية الأمريكية والصهيونية هي فقط المسموح لها بالعمل داخل مصر وإجراء الدراسات والأبحاث الميدانية وغير الميدانية عن المواطن المصري بنوعيه الذكر والأنثى، وأي باحث أخر سواء كان مصريا أو أجنبيا يفكر في الاقتراب من عمليات البحث والاستقصاء، يكون مصيره مثل مصير الباحثين، الإيطالي جوليو روجيني، والمصري أيمن هدهود، وكلاهما تم قتله في ظروف غامضة، وهذه المراكز تراقب وتتابع بدقة بالغة ظروف وأحوال ونفسية المواطن المصري، بالشكل الذي يمكنها من القدرة على اختراق عقليته والتأثير فيها وعليها..
ضربة الثورة جاءت من الخلف
سيطرة أمريكا على مصر لم تأت من فراغ، إنما تفرضها علاقات طويلة بين البلدين تعود لعشرات السنين قائمة على التبعية، تبعية مصر للأمريكان، وهي علاقة تقوم فيها أمريكا بدور الممول والداعم، بل والمُستّعمر، ومصر بدور المٌستعَمَرة، والمعونات المالية والعسكرية التي تقدمها أمريكا لمصر منذ ما يقرب من نصف القرن ليست سرا، فهي تقدم لمصر معونة مالية لا ترد منذ اتفاقية كامب ديفيد 1978 تبلغ 2.1 مليار دولار سنويا، عبارة عن معونة اقتصادية بقيمة 815 مليون دولار والباقي منحة عسكرية، وإجمالي هذه المعونات منذ هذا التاريخ وحتى الآن، يبلغ حوالي 95 مليار دولار، هذا بخلاف ما يُدفع من تحت الطاولة وفي عمولات صفقات السلاح لبعض كبار المسئولين بالدولة لشراء ولائهم وانتمائهم لأمريكا وإسرائيل أيضا، ومن الحماقة الاعتقاد بأن أمريكا تدفع كل هذه الأموال من أجل سواد عيون المصريين، أو تصدقا على البلد الفقير لإغاثته من الفقر، إنما تدفعه لتحقق من ورائه مكاسب لا حصر لها، أولها احتلاله بالتليفون، ثم حصد خيراته، ثم شراء للولاء، والانتماء، والعقيدة، والذمم، والأخلاق، والضمائر، وأضف ما شئت من قيم يمكن أن يتنازل عنها عبيد المال، والأهم من هذا وذاك شراء القرار والإرادة المصرية، من قاعدة المثل الشعبي القائل «من يأكل لقمتي يسمع كلمتي»!!
أضف إلى ما سبق سيطرة أمريكا شبه الكاملة على الاقتصاد المصري، وذلك عن طريق كبار رجال الأعمال، فغالبية البيزنس الموجود في مصر عبارة عن توكيلات تجارية لمنتجات وتوكيلات أمريكية، بداية من مطاعم الماكدونالدز والكنتاكي وصب واي وستاربكس، مرورا بالملابس وأدوات الترفيه وقطع الغيار، نهاية بالسيارات والسلاح.. وليس خفيا على الناس أن من يحتكر كل هذا البيزنس باستثناء السلاح هو ثلة من رجال الأعمال وعائلاتهم، وهم الذين يتحكمون في أغلب الاقتصاد المصري برعاية أمريكية، منهم على سبيل المثال لا الحصر عائلات ساويرس، ومنصور ومغربي وجرانة، وغيرهم.. هذا بخلاف السيطرة على العديد من الجمعيات الأهلية، ومنظمات المجتمع المدني، والأندية الرياضية والاجتماعية، بل ومؤسسات دينية، عن طريق الدعم المادي والتمويل المستمر، بما يمكنها من التغلغل في كل مفاصل الدولة، ومن ثم التأثير في المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية..
لذا من غير المستغرب أن نرى أمريكا وقد تدخلت بنفسها لإدارة المشهد السياسي في مصر بعد اندلاع الثورة بغية الانقلاب عليها وإفشالها سريعا، خاصة وأن من كانوا في صدارة الثورة، هم الإسلاميون وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، وهو أمر يقلق الأمريكان جدا والصهاينة أكثر، حيث أن تولي الإسلاميين للحكم في مصر فيه تهديد لكل المصالح الأمريكية، ليس في مصر فقط وإنما في الشرق الأوسط بأكمله، كما أنه يمثل خطرا كبيرا على الوجود الإسرائيلي بفلسطين، وقد رأينا كيف أن أمريكا فرضت نفسها كعنصر فاعل في الثورة المصرية بأيامها الأولى، عندما طلب الرئيس السابق باراك أوباما من مبارك الاستجابة لمطالب الجماهير والتنحي عن الحكم فورا، وهو ما أذعن إليه مبارك ونظامه، وفرح به الثوار واكتفوا به من طيبتهم!!
ومما لا شك فيه أن تدخل الإدارة الأمريكية متمثلة في الرئيس أوباما للضغط على مبارك بالتنحي، لم يكن سوى لعبة أمريكية هدفها امتصاص غضب الجماهير، وصرف أنظارهم عن المطالبة برحيل بقية أفراد النظام، وبخاصة المجلس العسكري الذي يمثل البناء الأهم والأكبر في منظومة الحكم التي صنعتها أمريكا على عينها، والنظام المصري مثله مثل كل الأنظمة التي تتحكم فيها أمريكا في دول العالم الثالث، النظام فيها أشبه بجسد تنين، إذا ما تم بتر عضو منه حتى وإن كان الرأس كما في حالة مبارك، يستطيع الجسد أن يستنبت عضوا غيره!!
كل هذه الأبعاد التي كان من الواجب على الثوار إدراكها وفهمها منذ اللحظة الأولى للثورة، كي تتضح لهم المعالم الحقيقية للمواجهة وتحقيق النصر المأمول، باعتبار أن قواعد المعارك تقول إن تحديد الخصم هو أول الخطوات نحو النصر، وكذلك القاعدة الطبية التي تقول إن تشخيص الداء أول مراحل العلاج، هي من أدت إلى تعثر الثورة في جولتها الأولى، ولو أن الثوار أدركوها وتعاملوا على أساسها منذ اللحظة، لانقلبت المعادلة رأسا على عقب، لكن وبكل أسف ما فعلناه في ثورة يناير كان مغايرا لذلك، حيث لم نذهب لمواجهة عدونا الحقيقي في الثورة إنما واجهنا قرينه، فكنا أشبه بمن يواجه خصما نظن أنه يقف أمامنا، متجسدا في الجيش والشرطة والبلطجية من المواطنين الشرفاء، بينما الخصم الحقيقي يطوقنا من الخلف ويقذفنا في الظهر بأسلحة دمار شامل، من تشكيك وفتن وتحريض ومؤامرات وتشويه وتشكيك ووقيعة بين الثوار ورشوة لبعض شبابها وسياسيها واغتيال نفسي ومعنوي لرموزها وقياداتها، وكلها أسلحة قادمة من أمريكا وعملائها الصهاينة، والعرب أيضا!!