الأثنين مايو 20, 2024
بحوث ودراسات

أحمد سعد يكتب: العسكر والإخوان.. وأخطاء يناير (8)

مشاركة:

الحالة المصرية في ثورة 25 يناير، تشبه إلى حد كبير، حالة مريض يعاني منذ عشرات السنين من ورم خبيث، الورم ضرب كل أعضاء جسمه، ويوشك أن يقضي عليه، لكنه ومع مرور الوقت، ومن طول المدة، وقلة الحيلة، رضخ للمرض، وتأقلم عليه، وتعايش مع ألامه ومعاناته، لدرجة أنه بات يرفض العلاج أو التدخل الجراحي خوفا من المجازفة بحياته، البائسة أصلا، بيد أن الأطباء وبعد محاولات مضنية معه، نجحوا وبالقوة في اخضاعه للعملية الجراحية التي يحتاجها، لكن وللأسف ما إن نجحوا في إخضاعه، وفتح جسده لاستئصال الورم، حتى فرحوا وهللوا واكتفوا بهذه الخطوة واعتبروها إنجازا، فتركوا المريض مفتوح الجسد، وراحوا يتصارعون على من يكون صاحب الفضل، ثم تقاتلوا على المكاسب التي سيتم جنيها من وراء عملية لم تكتمل!!

وظلوا على هذه الحال إلى أن عاد الجرح للالتئام مرة ثانية، وأنغلق الجسد من جديد على الورم، ورجع المريض لمعاناته!!

ففي الخامس والعشرين من يناير 2011 نجحت القوى السياسية بمساندة قوى الشعب، في القيام بثورة عظيمة، كانت أشبه بعملية جراحية كبرى لاستئصال نظام فاسد، هو أقرب ما يكون إلى السرطان الذي أصاب الدولة المصرية منذ ستين سنة، لكن ما إن نجحوا في إخضاع البلد للثورة، بل والتمكن من إزالة جزء مهم من هذا السرطان، وهو رأس النظام، حتى بدأت تلك القوى تتنازع على الانفراد بهذا الإنجاز، بل تقاتلت على المكاسب السياسية والمادية والمعنوية التي سيتم جنيها من ورائه، وظلوا على تناحرهم هذا إلى أن تمكنت الدولة العميقة – ممثلة في العسكر – من استيعاب الموقف، وتنظيم صفوفها من جديد، فأفلتت من الجراحة، وأغلقت الجسد مجددا على سرطان الفساد الذي يسكنه منذ ستة عقود!!

كنت قد أشرت في مقالات سابقة إلى أن رعونة السياسيين وسذاجتهم في التعامل مع الثورة، واستهانتهم بمكر العسكر، كان أبرز الأخطاء التي وقعوا فيها مبكرا، وأدت إلى فشل الثورة..

واليوم أتطرق إلى جانب أخر من الأخطاء الكبرى التي اُرتكبت وساهمت بنصيب كبير في هذا الفشل..

أخطاء اليوم تتركز حول البراءة السياسية التي كانت عليها قوى الثورة – خصوصا الإخوان – في مواجهة الدولة العميقة والعسكر وفلول مبارك، ويجوز لي هنا أن أشبه تلك البراءة ببراءة الأطفال الذين لا يقدرون على التمييز بين الصديق والعدو، أو بين الخير والشر، أو بين الصواب والخطأ، كما لم تفرق القوى السياسية بين الفلول والثوار، أو بين العسكر والحرامية.. والبراءة صفة قاتلة إذا ما تعاملنا بها في السياسة، لأن السياسي الحق هو الذي يتحلى بمكر الذئاب، ودهاء الثعالب، وشجاعة النمور، وبطش السباع، فمضمار السياسة، قريب الشبه بالغابة، إن لم يكن غابة بحق وحقيق، القوي فيها يأكل الضعيف!!

ومن يعمل في السياسة ولا يتحلى بتلك الصفات، فستنهشه الضباع، وتحيطه الخفافيش، وتبتلعه التنانين، وقد رأينا ذلك جليا في الثورة، عندما كان العسكر ودولته العميقة المدعومين من قوى داخلية وخارجية، يكيدون للقوى السياسية، وينصبون لها الفخاخ، ويتربصون بهم الدوائر، بينما كانت تلك القوى، تقابلهم بحسن النية وسلامة القصد، وهو من سهل على العسكر خداعهم والتلاعب بهم، وإيقاعهم في الفخاخ، الفخ تلو الأخر، قبل أن يلتهموهم جميعا في انقلاب يوليو 2013!!

الإخوان والبراءة القاتلة

البراءة في علم النفس هي أن تُسلم النية وتُحسن الظن في الجميع، دون أن تفّرق في ذلك بين عدوك وصديقك، وهذا أخطر ما يمكن أن يتصف به من قرر خوض غمار السياسة، فالسياسة كما ورد في الأثر نجاسة، وهي لعبة أيضا، وفي الحالة المصرية التي نحن بصددها يجوز وصفها بالحرب، لذا وجب على كل من يخوضها، أن يمتلك أدواتها، ويجيد طرقها، ويفهم قواعدها، وأهم قواعد اللعبة السياسية، هي الحذر، والمكر، والمناورة، والكذب، والخداع، والخيانة إذا لزم الأمر، أما إحسان النية في كل الناس، وحسن الظن بالخصوم، والتحلي بالأخلاق الحميدة أمام من يمكرون بك، فهذا ليس مكانه حلبات السياسة، إنما مكانه المساجد، والأسرة والمدرسة، ومحيط العمل أحيانا، لكن وللأسف كل تصرفات ومواقف الإخوان في بدايات الثورة، وبعد وصولهم للحكم كشفت بجلاء، عن افتقادهم لأهم قواعد اللعبة، والسبب في ذلك هو براءتهم السياسية الشديدة، وتطبيقهم الخاطئ لمفهوم التسامح وحسن الخلق، وهذا ما شجع الإعلام على النيل منهم، وجرأ البلطجية للاعتداء عليهم، وسهل مهمة للعسكر في الانقلاب عليهم.. وإليكم بعض النماذج..

• براءة الإخوان السياسية ظهرت مع الأيام الأولى للثورة، حينما فرضوا -بحكم الأكثرية- سيطرتهم على الشارع والميادين، وأصبحوا يديرون الثورة تقريبا، وبالتالي هم من فرضوا على الجماهير الأسلوب الثوري، وأكثر ما كان يحرص عليه الإخوان، هو رفضهم لكل مظاهر العنف الثوري، بما في ذلك العنف المشروع، الذي يحد من بطش الجيش والشرطة، فقد أعلن الإخوان منذ اللحظة الأولى، التزامهم التام بالسلمية وأدواتها، بصرف النظر عن نتائجها، وحتى مع سقوط مئات المتظاهرين منهم ومن ممثلي القوى الأخرى، كانوا يتمسكون بالسلمية ويرفضون التخلي عنها، وظلت السلمية مستمرة معهم، ليس في الثورة فقط، وإنما إلى ما بعد الانقلاب عليها وعلى الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي، عندما أطلق المرشد العام للجماعة الدكتور محمد بديع من فوق منصة اعتصام رابعة العدوية صيحته الشهيرة «سلميتنا أقوى من الرصاص» لتستمر السلمية إلى أن تم فض ميداني رابعة والنهضة الممتلئين بالإخوان وأنصارهم، ما أدى إلى قتل وحرق الألاف من المعتصمين!!

وعلى الرغم من قدسية ورهبانية مبدأ السلمية، إلا أنه كشف عن قصور شديد في  إدراك المفهوم الحقيقي للسلمية، فأول ما يجب أن تحققه السلمية هي المحافظة على حياة صاحبها، لا أن تُهدرها، أو تجعله يتقبل القتل بصدر رحب، فالسلمية التي تقضي بأن يرضى إنسان بالقتل، مقابل أن يعيش قاتله، هي ليست سلمية، إنما استسلام وخنوع، وموت بالمجان، وإذا كان هناك من يبرر موقف الإخوان برفضهم اللجوء للعنف الثوري، بأن الهدف من ذلك هو تفادي الاصطدام بالجيش، خوفا على البلد من تكرار السيناريو السوري، فإن هذا قول حق يراد به باطل، أولا لأن سلمية الإخوان لم تعصم دماءهم أو تنجيهم من القتل، إنما تسببت في حصد الألاف من الأرواح الطاهرة والبريئة، من بينهم المهندس عمار ابن مرشد الإخوان نفسه، وأسماء ابنة الدكتور محمد البلتاجي أحد أبرز قيادات الإخوان فك الله أسر الإثنين المرشد والبلتاجي، وغيرهما من الضحايا، ثانيا أن العنف الذي تعرض له الإخوان، لم يكن من الجيش والشرطة فقط، إنما كان من البلطجية أيضا، والذين كان يسميهم الإعلام بالمواطنين الشرفاء، فقد رأينا كيف أن مسيرات الإخوان التي كانت تخرج قبل الانقلاب وبعده للحفاظ على مكتسبات الثورة واسترجاع ما سُلب منها، كانت تواجه بجموع البلطجية في كل مكان، حيث كان البلطجية يتعقبون خط سير المسيرات، ويتربصون للإخوان بالشوارع والحارات والأزقة، فيقذفونهم بالحجارة والمولوتوف، والأسلحة النارية أحيانا، وقد خلّف ذلك المئات من الضحايا والمصابين، ومع كل ذلك كان قيادات الإخوان يتمسكون بالسلمية، ويرفضون الرد على البلطجية،  فما الذي دفعهم لذلك، هل هو الخوف من السيناريو السوري أيضا، أم أنه التقدير الخاطئ والسلمية التي في غير محلها؟!

وحتى السلمية التي التزم بها الإخوان في بدايات الثورة أمام الجيش والشرطة، وهي السلمية كانوا يفاخرون ويباهون بها، كانت أيضا في غير مكانها، لأنها كانت في مواجهة أخر يسعى لقتلهم وقتل الثوار، وهو ما كان يتطلب منهم الرد المناسب، وإذا لم تكن لديهم إرادة الرد، فكان الأولى بهم الانسحاب من الثورة، حقنا للدماء، وحفظا لأرواح المصريين، أضف إلى ذلك أنه لا توجد ثورة على وجه الأرض نجحت وثوارها انتهجوا السلمية من بدايتها لنهايتها كما فعل الإخوان، فكل الثورات التي نجحت وحققت أهدافها، لجأ ثوارها للعنف المشروع، العنف الذي يرد الظلم، ويدفع المفسدة، ويردع الطاغي عن طغيانه، ومن ثم يُحدث التوازن الذي يحقن الدماء، ويحفظ الأرواح، وأقرأ إن شئت قوله تعالى” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” فلولا هذا العنف لما نجحت ثورة أبدا، ولقٌتل كل الثائرين!

• جانب أخر من براءة الإخوان السياسية يتجلى في الأخذ بظاهر الأمور لا ببواطنها، فتجدهم مثلا إذا أرادوا استقطاب مؤسسة ما كالكنيسة مثلا، أو إرسال رسالة للرأي العام بأنهم حريصون على الوحدة الوطنية، فأقصى ما يفعلونه هو ضم شخصية قبطية أو اثنتين لحزبهم أو أحد جمعياتهم، كما حدث في حالة رفيق حبيب الذي ضموه في ثورة يناير لحزب الحرية والعدالة، فهم يتصورون أن خطوة كهذه كافية لاسترضاء الكنيسة، وكسب ود الأقباط، دون فهم أو استيعاب حقيقي للعوامل المؤثرة في قرار الكنيسة، والتي هي أكبر بكثير من مجرد انضمام أحد اتباعها لكيان سياسي مثل جماعة الإخوان، فقرار الكنيسة تحكمه علاقاتها الخارجية قبل الداخلية، وتؤثر فيه دول وأنظمة، لا مجرد مسؤول يمكن أن تأخذ منه كارت توصية للبابا ليرضى عنك، أضف إلى ذلك إلى أن هناك موانع أيدلوجية، تنسف أي محاولات تقّرب بين الكنيسة وبين جماعة سياسية تخذ الإسلام شعارا لها، حتى مع زيارة مرشد الجماعة لها وحسن استقبال البابا له والترحيب به، فهذا لم يعن أبدا قبول الكنيسة بنظام سياسي شعاره الإسلام، وفي كل الأحوال هي لن ترضى عنك أبدا، لأن القرآن الكريم هو من أخبرنا بذلك، ومن أصدق من الله حديثا؟

• تعرف براءة جماعة الإخوان أيضا في طريقة تعاطيهم مع الإعلام الذي كان يحاربهم أثناء الثورة، وهو أمر لمسته بنفسي أثناء فترة حكم الرئيس مرسي، والذي كان يتعرض لحملات ضارية من وسائل الإعلام المختلفة، فقد كان بعض مسؤولي الإخوان يعتقدون خطأ، أن هؤلاء الإعلاميين مدفوعين بأهوائهم السياسية الشخصية، وبالتالي فهم يتحدثون في برامجهم من رؤوسهم، وليس بمخطط مرسوم لهم بدقة بالغة، رٌصدت من أجله مليارات الدولارات، وتموله دول خليجية، السعودية والإمارات تحديدا، والهدف هو إجهاض ثورات الربيع العربي، وعلى رأسها الثورة المصرية، وقد تبين من هذا الاعتقاد أن الإخوان لا يلمون بكامل الصورة، إنما يتعاملون مع أجزاء منها، فلو ألموا بكامل الصورة، لفهموا أبعاد المخطط وأهدافه، ومن ثم اتخذوا الخطوات اللازمة لإبطاله، لكنهم كانوا يعتقدون أن الوصول لهؤلاء الإعلاميين فرادى، وتليين قلوبهم بالحكمة والموعظة الحسنة، كفيل بأن يرقق قلوبهم، ويجعلهم يحيدون عن طريقهم بالهجوم المستمر على الرئيس مرسي، وأذكر هنا واقعة تكشف لأي مدى كانت براءة وطيبة الإخوان في ظنهم بالإعلام، وهي واقعة سمعتها من صاحبها شخصيا، وهو أحد مسؤولي الإخوان، حيث أخبرني أنه ذهب هو ومجموعة من الأصدقاء – الإخوان طبعا – للقاء الإعلامي باسم يوسف بسينما ليدو بوسط القاهرة، حيث مكان الاستديو الذي كان يقدم منه برنامجه الساخر “البرنامج” ذلك البرنامج الذي وجد خصيصا من أجل الهجوم على مرسي والتطاول عليه والاستهزاء به واسقاط هيبته، قال المسؤول الإخواني، إنهم ذهبوا لباسم للتحدث معه وإقناعه بالتوقف عن مهاجمة الرئيس، هكذا ببساطة كانوا يظنون أنهم يستطيعون إيقاف باسم عن الهجوم على الدكتور مرسي، دون إدراك أو حتى تخمين، بأن إعلاميا مثل باسم يوسف كان يتقاضى ملايين الدولارات من أجل القيام بهذه المهمة، ولو أنهم أدركوا لسألوا أنفسهم ماذا يمكن أن يقدموا له لتعويضه عن خسارة كل هذه الملايين، إذا ما قبل طلبهم بالتوقف عن مهاجمة مرسي، بل الذي يغيظ أكثر هو أن هذا المسؤول قال إنهم أخذوا كلمة من باسم بأنه سيتوقف عن الهجوم على مرسي بدءا من الحلقة القادمة، لكنهم فوجئوا بأنه كذاب، حيث ظهر في الحلقة التالية أكثر هجوما وسخرية من ذي قبل..

وغير ذلك من المواقف الأخرى التي تجسدها براءة الإخوان القاتلة!!

• أذكر أيضا يوم دعا الجنرال عبد الفتاح السيسي وقت أن كان وزيرا للدفاع الفنانين والفنانات لحضور حفل ذكرى تحرير سيناء، وهو الحفل الذي أقامته جامعة المستقبل بنادي الجلاء بحي الزمالك بالقاهرة، والذي أقيم قبل شهرين فقط من الانقلاب العسكري على الرئيس مرسي، وبالتحديد يوم الثامن والعشرين من أبريل 2013، يومها اتصلت بأحد مسؤولي جماعة الإخوان لأسأله عن دوافع هذه الدعوة، وما إذا كانت تتم بعلم الرئيس مرسي أم بدون علمه، خاصة وأنها جاءت في توقيت حرج وحساس للغاية، كانت قد بدأت تظهر فيه ملامح وإشارات الانقلاب على الرئيس، وكان الفنانون والفنانات وقتها، أحد الأدوات التي يستخدمها العسكر، لتشويه صورة مرسي وتحريض الشعب عليه، والتخويف من أخونة الدولة وأسلمتها، إلا أن رد المسؤول على سؤالي جاء صادما وعجيبا، وكشف إما عن براءة شديدة في التعامل مع مثل هذه الأحداث، أو سطحية كبيرة في الرؤية السياسية، حيث قال إن الرئيس مرسي على علم بالدعوة، وأن السيسي دعا الفنانين والفنانات للحفل، ليطلب منهم التوقف عن محاربة الرئيس، ومنحه الفرصة للعمل.. أي والله كان هذا رده!

• موقف أخر كنت أنا طرفا فيه، عندما سعيت لإيجاد طريقة لتحسين العلاقات بين الصحفيين ومسؤولي الإخوان وقت إدارتهم للدولة، وذلك عندما قدمت عرضا شفهيا للمهندس فتحي شهاب، الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب رئيس لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشورى، قلت له ما المانع أن يقوم المجلس الأعلى للصحافة بدعم الصحف الخاصة، ليس بالمال المباشر وإنما بتحمل جزء من تكاليف الطباعة وليكن مثلا تحمل قيمة طباعة عشرة ألاف نسخة فقط، وإذا أراد صاحب الجريدة أو المجلة أن يطبع المزيد، يتحمل هو ما فوق العشرة ألاف نسخة، قلت للحاج فتحي فك الله أسره: أتصور أن قرارا مثل هذا سيساهم كثيرا في حل أزمات الصحف المتعثرة والمديونة، كما أنه -وهذا هو الأهم- سيُذيب جبال الجليد بينكم وبين قطاع كبير من الصحفيين الذين يعملون في الصحف الخاصة، وطالبته بالبحث أولا في قانونية هذا الدعم، وإن كنت أظن بقانونيته، لأنه وفي رأيي هو من صميم دور مجلس الشورى والمجلس الأعلى للصحافة، اللذان يفترض أنهما يعملان على الارتقاء بمهنة الصحافة والعاملين بها، إلا أنه رد بسرعة ودون تفكير، قائلا: هذا معناه أننا نرشو الصحفيين ليقفوا معنا، ونحن لن نقدم رشاوى لأحد.. رد أنت يا حسين!

محمد مرسي في منزل قاتله

الإخوان على مر تاريخهم الممتد لقرن من الزمان إلا قليلا، يمثلون العدو الأول والأكبر للعسكر، حتى وإن لم يبادلوا هم العسكر نفس العداء، فالعسكر يظل أكبر الكارهين للإخوان وغير الراغبين في وجودهم، ومن ثم يسعون طوال الوقت للتخلص منهم والقضاء عليهم، بل وإخراجهم من الزمان، ومع ذلك يتمسك الإخوان بالتودد إليهم، والتقرب منهم، دون سبب معلن أو واضح.. المهم أن محاولات تقرب الإخوان من العسكر، ظهرت بوضوح في ثورة يناير وخصوصا في فترة حكم مرسي الذي كان واثقا فيهم ومجاملا لهم لأبعد مدى (رجالة زي الدهب) بيد أن محاولات التقرب بدأت مبكرا مع الأيام الأولى للثورة، ذلك عندما لجأ الإخوان لأحد الشخصيات المهمة الذي تربطه علاقات قوية بالمؤسسة العسكرية، لتوسطه للإخوان عند العسكر، بترتيب لقاء يجمع بين مسؤولي الإخوان والعسكر، وكان هذا الشخص هو الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، وقد اختاره الإخوان من بين مئات الشخصيات ليقوم هو بالمهمة، لأنه اختيار على قدر انتهازيته وبرجماتيته، إلا أنه أظهر مدى براءة الإخوان السياسية، وهي براءة كان من الممكن التجاوز عنها أو تجاهلها، لو أن الوسيط كان أي شخص أخر غير هيكل، لأن هيكل لم يكن مجرد كاتب صحفي أو شخصية عامة تربطه علاقة قوية بالعسكر، فتمر مسألة توسطه للإخوان عند العسكر دون التوقف أمامها، إنما هو عضو أصيل وفاعل في الدولة العميقة الكارهة لثورة يناير والإخوان بالذات، فضلا عن أنه – وهذا هو المهم – كان مسؤولا بارزا في نظام  يعد هو الأكثر بطشا ووحشية في مواجهة الإخوان، وهو نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ذلك النظام الذي عاش الإخوان في عهده مرحلة هي الأسوأ والأبشع في تاريخهم، حتى أن معظم الكتب التي ألفها أبناء الإخوان، تصف وتحكي مآسي تلك الحقبة، ومازالت إلى الآن تحدث أخبارها، وهيكل لم يكن شخصا هامشيا في هذا النظام، إنما كان جزءا مهما منه، ليس فقط لقربه الوثيق من عبد الناصر، وإنما لكونه مسؤولا رسميا في نظامه، تحول من مجرد صحفي مأمون على أسرار السلطة وعلى كتابة خطب عبد الناصر، إلى مسؤول وصاحب سلطان، حيث شغل في عهده العديد من المناصب الرفيعة، بداية من اختياره رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام الصحفية ورئيسا لتحريرها (1957) نهاية بتعيينه وزيرا للإعلام (1970) وفي نفس السنة شغل منصب وزير خارجية لفترة مؤقتة، إذن هو ليس مجرد شخص عادي تربطه علاقة بسلطة، إنما هو جزء من سلطة، بل وصاحب كلمة مؤثرة فيها، وشريك في القرار، شأنه في ذلك شأن كل رجال النظام المسؤولين عن تعذيب وإعدام الإخوان، حتى وإن اختلف دوره، فهؤلاء المسؤولون يجلدون الإخوان بالسياط، وهو بالقلم، وهم يلفقوا لهم التهم، وهو يحاكمهم بالكلمة!

لكن الإخوان تركوا كل من تربطهم علاقة بالعسكر، وطرقوا باب هيكل بالذات، بما يشير إلى أنهم تجاوزا عن جرائم عبد الناصر ورجاله، مكتفين بكلمة هنا أو هناك لإثبات العداء، أو جملة عارضة لدغدغة المشاعر (الستينات وما أدراك ما الستينات)!!

والذي كشف عن تواصل الإخوان مع هيكل، هو هيكل نفسه اثناء حوار له (2012) مع الإعلامية لميس الحديدي بقناة (CBC) عندما قال إن إثنين من تنظيم الإخوان ذكرهما بالاسم (محمد مرسي وسعد الكتاتني) زاراه في الأيام الأولى للثورة، وأنه استقبلهما بمنزله الريفي بقرية برقاش بمحافظة الجيزة، وهذا بالمناسبة غير اللقاء الثاني الذي جمعه بالرئيس مرسي بقصر الاتحادية بعد تولي مرسي الرئاسة، هيكل قال إن الحديث مع ضيفيه تركز حول ثورة يناير ورؤيته لها، ومستقبل مصر بعدها، ورغم أنه لم يكشف صراحة عن أن الهدف من الزيارة هو طلب التوسط للإخوان عند العسكر، إلا أنه ألمح لذلك أثناء الحوار أكثر من مرة، كما أشار له صراحة مع نفس المذيعة وبنفس القناة، ولكن في لقاء أخر، قال فيه إن مسؤولين بالإخوان كانوا في زيارته، وسألوه وهو يودعهم عند الباب، عما إذا كان يستطيع أن يرتب لهم لقاءا مع اللواء عمر سليمان الذي كان مديرا للمخابرات العامة المصرية في تلك الفترة أم لا؟ قمة البراءة!

أحلام الدكتور محمد محسوب

الدكتور محمد محسوب وزير الشئون القانونية والبرلمانية في حكومة الدكتور هشام قنديل 2012، هو أحد النماذج السياسية المضيئة التي قدمتها ثورة يناير، وقد نجح بفضل وطنيته الكبيرة، وثقافته الواسعة، وأخلاقه الرفيعة، وإخلاصه للثورة، في فرض نفسه كواحد من أهم النخب السياسية، لكن كل هذا لم يمنع من سقوطه في أحد فخاخ العسكر، وارتكابه نفس الأخطاء التي ارتكبتها بقية القوى السياسية، لا سيما فيما يتعلق بخطيئة البراءة في التعامل مع العسكر والدولة العميقة..

براءة محسوب السياسية بدت في الظن بقدرته على استعادة أموال مبارك التي تم تهريبها للخارج، وهي القضية تصدر لها منذ الأيام الأولى للثورة، اعتقادا منه أنه قادر على استعادة كل الأموال المهربة وليس بعضا منها، ذلك الأمل الذي جعله يقبل الانضمام للجنة رأسها أحد رجال العسكر المخلصين، هو المستشار محمد أمين المهدي، تلك اللجنة التي سميت بـ” المجموعة المصرية لاستعادة أموال الشعب المهربة ” فعلى الرغم من حالة الوعي السياسي التي يتمتع بها محسوب، إلا أنه استٌدرج لهذا الفخ الذي خطط له العسكر، وكان الهدف هو استنزاف وقته وطاقاته المادية والفكرية والسياسية، في معركة محكوم عليها مقدما بالفشل، يكفي أن رئيس اللجنة هو محمد أمين المهدي رجلهم المخلص، والمهدي علاقته بالعسكر ليست وليدة ثورة يناير حتى نلتمس العذر لمن اختاروه لرئاسة هذه اللجنة أو لمحسوب الذي لعب الدور الأبرز في تشكيلها واختيار أفرادها، وهو ما صرح به محسوب نفسه في أحد لقاءاته  التليفزيونية مع الإعلامي المعروف أحمد منصور ببرنامجه الشهير «شاهد على العصر» بقناة الجزيرة، إنما علاقته – أي المهدي – بالعسكر قديمة تسبق الثورة بأكثر من عشرين سنة، وبالتحديد عام 1988 عندما اختير عضوا في اللجنة القومية للدفاع عن طابا (تحكيم طابا) وهي اللجنة التي ضمت فريقا من المتخصصين في القانون والجغرافيا والتاريخ والمساحة العسكرية،  للدفاع عن حق مصر في النزاع مع إسرائيل حول تعيين أماكن بعض علامات الحدود التي تلاشت عند منطقة طابا، واختيار المهدي لمهمة دقيقة كهذه، يكشف مدى ثقة المؤسسة العسكرية فيه، ودعمهم له، ولعل المكافآت التي حصل عليها لاحقا بعد الانقلاب على ثورة يناير، كشفت ذلك بوضوح، سواء باختياره ضمن الحكومة التي شكلها العسكر (2013) برئاسة حازم الببلاوي، وشغل المهدي فيها منصب وزير العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، أو بتكريمه في العام التالي مباشرة (2014) بمنحه وسام الجمهورية على دوره في قضية طابا التي كان قد مر عليها ربع قرن من الزمان تقريبا، لكنهم تذكروا تكريمه الآن!

لجنة استعادة الأموال المنهوبة ضمت عضوا أخر تبين لاحقا خيانته للثورة وهو الدكتور حسام عيسى والذي اختاره العسكر في التشكيل الوزاري لحكومة الببلاوي أيضا، والتي شغل فيه منصب وزير التعليم العالي، وإذا كان عيسى لم يكن له تاريخ مع العسكر مثل المهدي، إلا أن هذا لا يمنع من تحميل المسؤولية لمن اختاروه، أو قبلوا العمل معه، حيث أن الاكتشاف المبكر لخيانة مثل هذه النوعية من المنافقين، يحتاج لفراسة سياسية، يجب أن يتحلى بها كل من قرر لعب السياسة، أو تصدى للعمل العام، لأنها مجالات مليئة بالمخادعين والمنافقين أمثال حسام عيسى ومن على شاكلته، وإذا لم ينجح السياسي الشريف، في كشفهم والإطاحة بهم مبكرا، فسيدفع ثمنا باهظا، كما دفع محسوب لاحقا!

الثورة ومخاوف الصليبيين

مظهر أخير وليس بآخر من مظاهر البراءة السياسية، تمثل في اعتقاد القوى السياسية، بأن الأمريكان والدول الأوروبية، كانوا يؤيدون الثورة ويقفون خلفها، ويتمنون نجاحها، من منطلق سعيهم لمحاربة الديكتاتورية ونشر الديمقراطية، على الرغم من أن يعرف ألف باء سياسية يعرف أن هؤلاء هم ألد خصوم التحرر في بلادنا وهم الأكثر حرصا ودعما للأنظمة السلطوية، وخصوصا العسكر، وبالتالي فإن نجاح الثورة المصرية تحديدا من بين كل ثورات الربيع العربي، كان يقلق هذه الدول، خصوصا أمريكا، باعتبارها الأب الروحي لإسرائيل، فنجاح الثورة كان سيمثل تهديدا كبيرا للوجود الإسرائيلي في فلسطين، خاصة وأن الثورة كشفت عن رغبة عارمة لدى المصريين بضرورة إلغاء كل وأي اتفاقيات سلام مع إسرائيل، فضلا عن مطالبة كل طوائف الشعب، بإيقاف التطبيع معها، إضافة إلى موقف الرئيس الراحل مرسي من القضية الفلسطينية ودعمه لها، وإذا كانت لم تعلن أمريكا صراحة عن كراهيتها للثورة المصرية وسعيها لإفشالها، إلا أنه كان واجبا على القوى السياسية أن تدرك ذلك من نفسها، وتفهم أن كل اللقاءات التي كانت تتم بينها وبين المبعوثين الأمريكيين، كانت بهدف إضاعة الوقت، وخداع الثوار، وربما قراءة ما يدور في رؤوسهم، وتسريبه لخصومهم، وإن لم تدرك القوى السياسية ذلك، فبالقطع هي لم تفهم قواعد اللعبة السياسية التي تحكم منطقة الشرق الأوسط بالكامل وليس مصر فقط، فهذه اللعبة هي التي جعلت دولا خليجية مثل السعودية والإمارات مدعومة من الأمريكان تدخل بثقلها، لدعم الثورات المضادة في الدول العربية، والسعي لإجهاضها كل ثوراتها، وعلى رأسهم الثورة المصرية، وهي أيضا التي دفعت تلك الدول لضخ عشرات المليارات من الدولارات لقادة الانقلاب في مصر بعد الإطاحة بالرئيس الشرعي والسطو على الحكم، ليتمكنوا من تثبيت أقدامهم، وإحكام قبضتهم على البلد!!

الخوف على إسرائيل ومصالحها لم يكن هو وحده الذي كان يقلق أمريكا وأوروبا من الثورة المصرية، ومن ثورات الربيع العربي، فهناك الأكثر أهمية والأشد خطرا، ألا وهو صعود نجم الإسلام السياسي، السني تحديدا، والذي تجلى في نجاح تياراته المختلفة في كل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضوها، بل ونجاحهم في الوصول لسدة الحكم كما حصل في مصر عن طريق الإخوان، فذلك أمر يتقاطع مع سياسة أمريكا ودول أوروبا ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في العالم كله، في ظل حروبهم المتصلة على الإسلام السني، منذ سنوات طويلة، وليس بخفي على أحد حجم الأموال التي أنفقتها أمريكا في السنوات القليلة الماضية، ووصلت إلى تريليونات الدولارات من أجل محاربة الإسلام السني والقضاء عليه، فضلا عن حروبها التي خاضتها للتخلص منه، كما حصل في أفغانستان والعراق، حتى حربها على داعش التي أراها أنا تمثيلية، كان شعارها التخلص من الإسلام السني وليس الشيعي!!

كذلك الحال بالنسبة للدول الأوروبية والتي من المؤكد أن صعود الإسلام السني في مصر وفي كل بلاد الربيع العربي أقلقها وأطار النوم من عيونها، خوفا من أن يستجمع هذا الإسلام قواه، وتقوى شوكته ويستعيد مكانته التي كان عليها من قبل بعدما أسقط الدولة الرومانية، فلا شك أن صعود الإسلام السياسي في ثورات الربيع العربي، جعل أوروبا تستحضر الماضي وتخشى من تكراره، فالمؤكد أن أوروبا لم تنس أن المسلمين هم من أسقطوا إمبراطوريتها الكبرى، كما لن تنسى سنوات الذل والهوان التي عاشتها بعد السقوط، أضف إلى ذلك حجم الكلفة البشرية والمادية التي تكلفتها حروبها الصليبية ضد الإسلاميين، عندما أرادت استعادة مكانتها مرة ثانية، وغير ذلك الأسباب، التي تجعل أوروبا تعمل جاهدة طوال الوقت لمحاربة الإسلام السني وإيقاف تمدده، ومن هنا كان يهمها جدا فشل جميع ثورات الربيع العربي، وعلى رأسها الثورة المصرية.. فهل أدركنا ذلك، أم أننا غرقنا في البراءة السياسية؟!

نكمل في الحلقة القادمة بإذن الله.

Please follow and like us:
أحمد سعد
كاتب صحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب