أسامة الهتيمي يكتب: ترامب.. الجنون والنبوءة وكيفية المواجهة «1- 2»
على مدار الأسابيع الماضية كانت ولم تزل تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن قطاع غزة المحور الرئيس في الحوارات والنقاشات الدائرة في العالم كله فقد جاءت صادمة ومفاجئة لمخالفتها للسياسة الأمريكية التقليدية في التعاطي مع ملف القضية الفلسطينية.
والأعجب فيما يتعلق بشأن هذه التصريحات أن ترامب لم يلتفت مطلقا لحالة الاستياء والرفض التي صاحبت هذه التصريحات سواء في دول الإقليم «البلدان العربية والإسلامية» أو حتى بقية القوى العالمية التي اعتبرت أن هذه التصريحات مخالفة صريحة للقانون الدولي ولحقوق الفلسطينيين التي أقرتها مؤسسات المجتمع الدولي وفي مقدمتها الأمم المتحدة.
والأكثر عجبا أنه لا يتوقف عن الادعاء مرارا وتكرارا بأن هذه التصريحات تلقى ترحيبا كبيرا من بعض الأطراف الإقليمية والدولية التي تتواصل معه بشكل مباشر دون الإشارة بالطبع إلى ذكر هذه الأطراف وهو ما يعني في حال كان صادقا أن بعض هذه الأطراف الإقليمية والدولية تتعامل بازدواجية شديدة مع هذه التصريحات.
وعلى الرغم من أن البعض راهن على أن ترامب ربما يعلي من سقف الطلبات والتوجيهات بهدف التحصل على ما يمكن التحصل عليه دعما للاحتلال الصهيوني وحدا لطموحات المقاومة الفلسطينية إلا أنه يوما بعد يوم تتصاعد هذه المطالب وتتخذ أشكالا أكثر تطرفا الأمر الذي يعني أن الرجل عازم بالفعل على تنفيذ ما يطرحه حتى لو لم يحظ بالقبول من جميع الأطراف ففي قرارة نفسه أنه الزعيم الذي يأمر فيطاع وأن أحدا مهما كان ليس له أن يرفض أو يجادل.
بين السمسرة والجنون
ثمة توافق بين جميع المتابعين والمراقبين لسياسات ترامب في دورته الأولى «2017 – 2021م» كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية عند تقييم سياساته على أن خلفيته كرجل أعمال أو سمسار عقارات انعكست بشكل كبير على قراراته وسياساته فقد كان أهم ما يشغل الرجل هو تحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية دون النظر في أغلبها إلى ما سواها وهو ما نجح في تحقيقه إلى حد كبير بعد أن ابتز العديد من الدول وتحصل على عشرات الصفقات التي حققت عائدا كبيرا لبلاده.
والحقيقة أن ترامب بدا بهذه السياسيات لدى الأمريكيين وغير الأمريكيين الوجه الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية دون رتوش أو أدوات مساحيق تجميل والتي كان يحلو لكل الرؤساء الأمريكيين تقريبا أن يستخدموها حتى لا تبدو أمريكا كساحرة شريرة.
وعندما انتهت فترة ولاية ترامب بإزاحته في الانتخابات الرئاسية تنفست العديد من القوى ومن بينها أوروبا – الحليف الأكثر قربا لأمريكا- الصعداء فهي لم تكن لتتحمل الكثير من سياساته التي اتسمت بالتوترات التجارية كفرض الرسوم على بعض المنتجات الأوروبية كالصلب والألومنيوم أو الانسحاب من الاتفاقيات الدولية أو حتى التقارب مع روسيا.
لكن يبدو أن فرحة أوروبا وغيرها لم تكتمل بعد فها هو الرجل وبعد أربع سنوات من الغياب عن اتخاذ القرارات يعود مجددا للبيت الأبيض لتسري حالة من القلق ليس بين قادة الدول الأوروبية فحسب بل وبين قادة كل دول العالم فتصريحات الرجل خلال الحملات الانتخابية فضلا عن العشرات من القرارات التنفيذية التي وقعها بعد ساعات قليلة من وصوله للبيت الأبيض يوم 30 يناير والتي منها ما يتعلق بالرسوم الجمركية والمهاجرين والاتفاقيات الدولية وغيرها أكدت أن الرجل يعتزم أن لا تمر هذه السنوات الأربع دون إحداث حالة من الارتباك في الداخل الأمريكي وفي دول العالم والذي سيكون له بطبيعة الحال ارتداداته على الجميع.
إزاء تلك القرارات التنفيذية التي اتخذها بعد ساعات من دورته الثانية بل وحتى خلال فترة السنوات الأربع التي أقصي فيها عن البيت الأبيض لم يتردد الكثيرون في أن استعادة الاتهامات التي وجهت لترامب من قبل الكثيرين بأنه مجنون ومضطرب وذلك بعد رصد وتحليل سلوكه في دورته الأولى والتي برز منها ما جاء في كتاب «الخوف: ترامب في البيت الأبيض» للكاتب الصحفي بوب وودوارد التي وصف ترامب بأنه شخص سريع الغضب ومندفع في اتخاذ القرارات فيما أشارت ماري ترامب، ابنة شقيق الرئيس في كتابها «أكثر من اللازم وغير كافٍ: كيف خلقت أسرتي أخطر رجل في العالم»: إلى أن سلوكياته تعتبرها خطرة.
الترامبية وسقوط الأقنعة
قولا واحدا لا يوجد رئيس أمريكي منذ إقامة دولة الكيان الصهيوني لم ينحز بشكل قوي وصريح لهذا الكيان فوجوده ودعمه وحمايته فرض مقدس على الولايات المتحدة وقادتها بغض النظر عن خلفيته جمهوري كان أم ديمقراطي إذ التباين الوحيد بينهما هو سبل تحقيق ذلك وهو اختلاف استفادت منه أمريكا والكيان الصهيوني بشكل كبير ذلك أن البعض ظن أنه باستغلال هذا التباين بإمكانه التأثير على المواقف الأمريكية لتخفف من حجم الدعم أو أشكال الانحياز للكيان الصهيوني خاصة وأن واشنطن ما فتأت تتظاهر باحترامها للقانون الدولي وقرارات الهيئات والمنظمات الدولية ومن ثم فقد بدا أن هذا الظن آثم ومجرم فقد ضيع الوقت وميع المواقف وسلب الحقوق.
وجاء ترامب ليكون الأكثر جرأة واتساقا مع الذات في تاريخ أمريكا فأسقط القناع وتملص من كل زيف وهي الجرأة التي كان لها ارهاصاتها في الدورة الأولى فعلى الرغم من أن قرار الكونجرس الأمريكي باعتبار القدس عاصمة لـ«إسرائيل» صدر لأول مرة في عام 1995 على أن يستتبع ذلك نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس إلا أن ذلك لم يتم تنفيذه حيث كانت تقوم الإدارات الرئاسية المتعاقبة بتأجيل نقل السفارة بدعوى القلق على ما يسمى بعملية السلام.. لكن ترامب قرر في ديسمبر 2017 تنفيذ هذا القانون بشكل فعلي عندما أعلن القدس عاصمة لإسرائيل وأمر بنقل السفارة غير عابئ بأية ردود فعل عربية أو فلسطينية أو حتى دولية كما لم يستجب لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المطالبة بتراجع واشنطن عن اعترافها بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل».
وبالطبع فقد كان موقف العرب والمسلمين الصامت على تمرير القرار وتجاهل تداعياته إغراءات لترامب وتأكيدا لصحة مواقفه المتطرفة ما فتح شهيته لأن تشهد الدورة الجديدة من رئاسته للبيت الأبيض قرارات أكثر تطرفا وجرأة واتساقا مع ما يؤمن به من أفكار عقدية تصر الأنظمة العربية والإسلامية وبكل أسف على تجاهلها وعدم التعاطي معها خشية الإقرار بالبعد الديني في الصراع.
التيار الصليبي المتصهين
ربما ليس سهلا أن نعترف بأن ما يلقى من اتهامات باتجاه ترامب بشأن قواه العقلية أو معاناته من الاضطراب ليست إلا محاولة للتعبير عن الاستياء من قرارات ترامب ومواقفه فالرجل ليس مجنونا وليس «عبيطا» وليس مضطربا كما يتصور البعض فأقل ما يناقض مثل هذه الاتهامات وينفيها هو أنه حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة على أصوات الناخبين الأمريكيين الذين يقفون خلفه ويدعمونه رغم علمهم بما يؤمن به وينتويه.
في هذا الإطار فإن ما تضمنته قرارات وتصريحات ترامب بشأن غزة والقضية الفلسطينية برمتها وإن قوبل برفض من قبل الكثيرين فإنه يعبر بالأساس عن قناعات عقدية لدى ترامب الذي ينتمي لما يسمى بالتيار الصليبي المتصهين الذي يدعم دولة الكيان كشكل من أشكال تحقيق نبوءات توراتية وإنجيلية وفق تصوره وذلك كخطوة نحو تحقيق «نهاية الزمان» أو «عودة المسيح» وأن اليهود سيعتنقون المسيحة في نهاية العالم وهو التيار الذي تعود جذوره إلى القرن السادس عشر لكنه تطور عبر مراحل مختلفة حتى أصبح قوة سياسية مؤثرة في العصر الحديث خاصة في السياسة الأمريكية.
ويستند هؤلاء إلى ما جاء في سفر التكوين حيث وعد الله لإبراهيم: «وقال الرب لأبرام: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة» وما جاء سفر حزقيال: «هكذا قال السيد الرب: ها أنا آخذ بني إسرائيل من بين الأمم الذين ذهبوا إليهم، وأجمعهم من كل ناحية، وأرجعهم إلى أرضهم» وكذلك ما جاء في سفري زكريا ودانيا والتي يرى هذا التيار بحسب تفسيره أنها كلها تشير إلى حق اليهود في الأرض المقدسة.
موقف ترامب إذن هو موقف ديني بالأساس لا يعبر عن المصالح السياسية أو حتى الاقتصادية بقدر ما يعبر عن تطلعات يسعى إليها أنصار هذا التيار الذي أضحى تيارا قويا ومؤثرا خاصة بين الإنجيليين البروتستانت إذ تشير التقديرات إلى أن عدده يتراوح بين 25 إلى 40 مليون شخص يساهمون بشكل كبير في دعم «إسرائيل» بمليارات الدولارات لإنشاء المستوطنات.
ولا شك أن ترامب يدرك أيضا أنه بدعم أفكار هذا التيار يضمن دعم اللوبي الصهيوني في أمريكا متمثلا في منظمة «إيباك» بما تمتلك من مقدرات سياسية ومالية وإعلامية وعلاقات دولية لما لمنظمة «إيباك» من علاقات وثيقة ومتينة مع هذا التيار.
في الجزء الثاني.. كيف يمكن أن نواجه خطة ترامب بشأن القضية الفلسطينية؟