الأثنين أبريل 29, 2024
قالوا وقلنا

«الفقه المتشنج» و«الفتاوى المبتورة»!

أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم

أصدر مفتي عام السعودية رئيس هيئة كبار العلماء رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، تأكيداً بأن إخراج صدقة الفطر نقوداً لا يجزئ، لأن ذلك مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الذين كانوا يخرجونها من الطعام.

قال مفتي عام المملكة: «زكاة الفطر تخرج من جنس طعام الآدميين من البر والأرز والزبيب والأقط وغير ذلك، وهي تجب على المسلم في المكان الذي يدركه فيه غروب الشمس في آخر يوم من رمضان، كما يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين».

وأضاف: يمكن البدء في إخراجها من يوم 28 رمضان أو 29 من الشهر الفضيل، ويجب أن تسلم صدقة الفطر إلى أيدي الفقراء المحتاجين، أو تعطى لمن وكلوه لتسلمها.

 وقال: لقد شرعت صدقة الفطر على عموم المسلمين ذكورهم وإناثهم كبارهم وصغارهم وأحرارهم وعبيدهم، صاعاً من طعام، لما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي عنهما، قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين،

فيخرجها الإنسان عن نفسه وعمن ينفق عليه من زوجته وأولاده، وفق الله الجميع لاتباع السنة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

ويقول د. محمد المرشدي

وقد أثارت الفتوى «الموسمية» التي نشرتها وسائل الإعلام لمفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بعدم إجزاء إخراج النقود في زكاة الفطر الشجون في نفسي، واستدعت ذكريات مَرَّ عليها قرابة الأربعين عاماً، عندما شرعت في تدوين بحث عن زكاة الفطر، حتى أستطيع التحدث عن عِلْم في الرأي الذي تَبَنَّته «المدرسة السلفية» بمصر بعدم جواز إخراج زكاة الفِطر من غير الحبوب، ولا يفوتك أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك كل وسائل التواصل والبحث المتاحة الآن!، وكم كانت سعادتي حين اكتشفت بعد إنهائي هذا البحث بأكثر من ستة شهور كاملة أن البحث الذي أتممته كاد أن يتطابق مع كُتَيِّب صغير للدكتور محمد بن إسماعيل المُقَدِّم «شيخ الطريقة»، وبالطبع لم أكن أعرف أن له بحثاً في هذه المسألة  بالفعل، فقد كانت تكفينا للعمل في هذا الزمان فتاوى الشيخ العثيمين والشيخ ابن باز رحمهما الله التي تأتينا عَبْرَ أشرطة الكاسيت، ولم ألتفت إلى سبب التقارب الكبير بين البحثين آنذاك (زاد بحث الشيخ المُقَدِّم عن بحثي ربما بِضعة سطور فقط!)، ولكن بعد مرور السنين اكتشفت أن المكتبة التي بحثت فيها هي هي نفس مكتبة الشيخ آنذاك، والمنهج الذي سِرْت عليه في البحث هو هو نفس منهج الشيخ (وهو حَشْد الأدلة للانتصار للرأي المُعتَمَد سَلَفاً، وتفنيد أدلة المُخالف، والدوران حول ظاهر النصوص، وغير ذلك مما يطول شرحه في مقالة كهذه..).

ولكن بمرور السنين أيضاً اتسعت الدائرة ليس فقط في المكتبة، ولكن في الأُفق، والشيوخ، والتجارب، والاطلاع، وبات احتكار الحق نوعاً من الحماقة في مثل هذه المسائل، نعم  مازلت أُخرِج زكاة الفِطر حبوباً حتى وأنا أعيش في تركيا، ولكن بلا شك اختلفت الرؤية للمسألة كثيراً، ولم يَعُد لهذا النمط المُتَشَنِّج في التناول الفقهي مكان، فالمسألة قديمة قِدَم هذا الدين، والمخالفين فيها من الأكابر، ومَحَجّة هذا الدين البيضاء التي تركنا عليها الرسول صلى الله عليه و سلّم كبيرة، تتسع لهذا الخلاف بلا شك، غير أنَّ ما دعاني لكتابة هذه المقالة شيء آخر لا يقل في الأهمية عن نبذ هذا التَشَنُّج الفقهي، ألا وهو الفتاوى المبتورة لاسيما من علماء السُلْطان!

يا أيها المُفتي.. سواء كنت بالسعودية أم كنت بمصر أم كنت بالأردن، يا كل شيوخ الحرمين والأزهر وسائر بقاع الأرض، يقيني أنكم جميعاً مُبصركم وكفيفكم تعلمون ما نَزَل بالمسلمين في غزة من قتل وتشريد وحصار وتجويع حتى الموت، ولكنني على الرغم من ذلك فلن أُحَدِّثكم بمقولة سُلطان العلماء (العِزّ بن عبد السلام رحمه الله) «من نَزلَ بأرض تَفَشَّى فيها الزنا، فَحَدَّث الناس عن حُرمة الربا فقد خان»، نعم لن أحَدِّثكم عن هذه الخيانة، وأنا لن أدور معكم في متاهة أهمية أحكام الشريعة «كل أحكام الشريعة مهما صغرت»، ولن أقع معكم في فخ بدعة تقسيم الدين لِقِشرٍ ولُباب، فكل أحكام الشريعة ليس فيها قشور، ولن أتناول معكم تأصيل انفكاك الجِهة بين الحكمين، وأنَّ تزامنهما لا يقتضي تداخلهما، أعرف كل ذلك وأكثر، فقد استهلك مني مواقف ومنازلات كثيرة قبل ذلك، ولكنني اليوم أتعجب من هذه الفتوى المبتورة! لماذا لا تُكْمِلها أيها المُفتي؟ إن حديث عبد الله بن عمر عن نبينا صلى الله عليه وسلّم الذي أوجب زكاة الفِطر حبوباً وليس نقداً كان نصّه «أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نُخْرِجَ زَكاةَ الفِطرِ عَن كلِّ صغيرٍ وَكَبيرٍ وحرٍّ ومَملوكٍ صاعًا من تمرٍ أو شعيرٍ، قالَ: وَكانَ يُؤتَى إليهِم بالزَّبيبِ والأقِطِ فيقبلونَهُ منهم، وَكُنَّا نؤمَرُ أن نُخْرِجَهُ قبلَ أن نخرجَ إلى الصَّلاةِ فأمرَهُم رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن يُقسِّموهُ بينَهُم، ويقولُ: أغنوهم عَن طوافِ هذا اليومِ» رواه الحاكم النيسابوري والبيهقي في السنن الكبرى وأصل الحديث في البخاري ومسلم، يا كل علماء الشريعة في مشارق الأرض ومغاربها، يا كل المُفتين، دعونا نقف عند قول رسولنا صلى الله عليه و سلم «أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم»، أعلم كما تعلمون أن الفاروق عُمر نَقَل الزكاة الفائضة عن اليمن إلى المدينة المنورة، وأعلم أن مجامعكم الفقهية جَوَّزت نقل الزكاة لاسيما إذا اشتدت حاجة المسلمين لها في بلد من بلادهم، ويبقى السؤال.. يا كل أهل النظر في الأحكام (إن كان الأمر يحتاج إلى نظر)، هل هناك من هم أشدُّ حاجة للطعام من أهل غزة اليوم؟ هل تعلمون في الكوكب من يموت جوعاً غيرهم؟

 يا كل المُفتين: إنَّ قوله صلى الله عليه وسلّم (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) شديد الوضوح في وجوب إغناء الفقراء والمساكين عن سؤال الطعام في يوم العيد! ولا أتخيل أن هناك منكم من يرى أن النَصَّ قد ضاق عن أهل غَزَّة ولم يسعهم، لقد نَزَع هذا النص ورقة التوت عن عورات كل شيوخ السلطان الذي صمتوا شهوراً عن حملات التجويع والحصار لإخواننا المسلمين في غزّة، وتركهم عرايا أمام حُكْمٍ يَتَوَجَّب فيه على المسلمين «توزيع الطعام على كل من يحتاجه في هذا اليوم»، لم يترك النَصّ لهم عذراً يستترون به من فضيحة تجويع المسلمين حتى الموت خلف جدران سجن غزة الكبير!

يا كل المنادين بتجديد الفتاوى لموافقة الأحداث المتجددة هاكم الميدان فَهَلاَّ أفتيم بِنقل زكوات الفطر إلى غزة؟، ويا كل أعضاء الحرس الحديدي للشريعة الذين يرفضون مجاوزة عمل السلف، هاكم الميدان فأروا الله منكم خيراً، أخرجوها حبوباً كما شِئتم ولكن أغنوهم في غزة عن الطواف في هذا اليوم! يا شيخ الأزهر: بماذا ستجيب الله غداً عن من مات جوعاً في غزة وبيننا وبينهم جدار! يا كل شيوخ الحرمين، يا كل شيوخ السوشيال ميديا، يا كل أهل العِلم: كان سَلَفكم يتوجهون بالفتوى فيما سبق للحكام (حُرَّاس الشريعة) لِيَقوموا بإنفاذها في البلاد! واليوم وقد تحول «حُرَّاس الشريعة» إلى حُرَّاساً لحدود سجن غزة الكبير «فَهَلاَّ توجهتم بفتاواكم للشعوب التي تلاعب بها الإعلام؟ يا كل أهل العلم يا ملح البلد.. من يُصلِحَ الملح إذا الملح فسد؟

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب