تعيش منطقة شرق الكونغو الديمقراطية واحدة من أعقد الأزمات في القارة الإفريقية، أزمة تتشابك فيها الجغرافيا بالتاريخ، والسياسة بالاقتصاد، لتنتج حربًا بالوكالة بين كينشاسا وكيغالي، ضحيتها الأولى هي المدنيون الذين يتنقّلون بين القتل والنزوح والجوع.
منذ بداية التسعينيات، تحوّل شرق الكونغو إلى مسرح صراع مفتوح. فهناك أكثر من 100 جماعة مسلّحة تنشط في الغابات والمناطق الحدودية، أخطرها حركة 23 مارس (M23) التي صعدت مجددًا في السنوات الأخيرة وأصبحت طرفًا رئيسيًا في الأزمة.
تصاعد المواجهة وسيطرة M23
خلال عام 2025، نجحت حركة M23 في السيطرة على مدينتي جومّا وبوكافو الاستراتيجيتين قرب الحدود مع رواندا. هذه السيطرة غيّرت ميزان القوى وفتحت الباب أمام نزوح جماعي جديد، وسط تحذيرات من كارثة إنسانية متجددة.
ورغم أن الحركة تؤكد أنها تقاتل من أجل “حقوق سياسية”، إلا أن حكومة الرئيس فيليكس تشيسيكيدي ترى أنها أداة في يد رواندا لتوسيع نفوذها داخل الكونغو والسيطرة على طرق تهريب المعادن النادرة مثل الكولتان والكوبالت، التي تُستخدم في صناعة الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية.
وساطة الدوحة… سلام على الورق
محاولة لإخماد النار قادتها قطر والولايات المتحدة، حيث توصّل الطرفان إلى “إعلان مبادئ” لوقف النار واستعادة الحكومة السيطرة على مناطق المتمردين. لكن هذا الاتفاق سرعان ما تعثّر، ومع حلول 18 أغسطس 2025 انتهت المهلة الزمنية دون تطبيق فعلي.
المفارقة أن الطرفين تبادلا الاتهامات: الحكومة اتهمت المتمردين بخرق الهدنة، بينما ردّت M23 بأن الجيش الكونغولي هو من واصل هجماته. وهكذا، بقي الاتفاق سلامًا على الورق لا أكثر.
مأساة المدنيين: دماء تروي الأرض
الإنسان يدفع الثمن الأغلى. ففي مجزرة بنيزا قرب جومّا قُتل أكثر من 140 مدنيًا، فيما تحدثت مصادر حقوقية عن احتمال تجاوز العدد 300 قتيل، استخدمت فيها الأسلحة البيضاء والرصاص الحي.
هذه الحادثة ليست استثناءً، بل مشهدًا متكررًا يعكس فشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين، ويكشف أن أي اتفاق هش سرعان ما يتبخر أمام شهوة السلاح والسيطرة.
البعد السياسي والقانوني: ورقة كابيلا
الأزمة لا تتوقف عند حدود المعارك الميدانية، بل تمتد إلى السياسة الداخلية في الكونغو. ففي أغسطس 2025، طالبت النيابة العسكرية بإعدام الرئيس السابق جوزيف كابيلا بتهم ارتكاب جرائم حرب تشمل القتل والاغتصاب والتعذيب.
هذا التطور أعاد فتح ملف الحقبة السابقة وزاد من الانقسام السياسي، ليصبح المشهد في كينشاسا أكثر تعقيدًا، خاصة مع اقتراب الانتخابات.
رواندا في قلب الأزمة
رغم نفي كيغالي المتكرر دعمها لـ M23، إلا أن تقارير استخباراتية أممية وغربية تؤكد وجود دعم مباشر بالأسلحة والمقاتلين. رواندا من جهتها تبرّر تدخلها بالحفاظ على “أمنها القومي” ومواجهة ميليشيات الهوتو المتحصنة في شرق الكونغو منذ إبادة 1994.
لكن الحقيقة أن الأمر أبعد من “الأمن القومي”، فهو مرتبط بالمعادن النادرة وطرق تهريبها، وهو ما يجعل رواندا لاعبًا لا يمكن تجاهله في أي تسوية مستقبلية.
السيناريوهات المستقبلية
استمرار الحرب: في حال فشل المفاوضات، ستتواصل المعارك في جومّا وبوكافو وربما تتوسع إلى مدن أخرى.
هدنة هشة: قد تعود الوساطات لفرض وقف إطلاق نار مؤقت، لكنه لن يصمد دون رقابة دولية قوية.
تدخل أممي موسع: بزيادة قوات حفظ السلام في المنطقة وفرض عقوبات على الأطراف المتورطة.
تسوية سياسية: وهي السيناريو الأصعب، لكنها السبيل الوحيد لإنهاء حرب الظلال التي أحرقت الكونغو لعقود.
أزمة الكونغو الديمقراطية ليست حربًا محلية فحسب، بل صراع إقليمي ودولي على الموارد والنفوذ. رواندا حاضرة، والغرب يراقب، والضحايا مدنيون يعيشون بين الموت والنزوح.
إنها حرب تُدار بالمعادن أكثر مما تُدار بالرصاص، وحلها لن يكون إلا بصفقة شاملة تضع حدًا لأطماع القوى الإقليمية وتفتح الباب أمام استقرار طال انتظاره في قلب إفريقيا.