في مشهد يعكس أقسى مآسي العصر، لم تعد المجاعة في غزة تقتصر على المدنيين والنازحين فحسب، بل امتدت لتطال صوت الحقيقة نفسه. أطلقت جمعية الصحافيين العاملين في وكالة الصحافة الفرنسية (AFP) نداء استغاثة إنسانيًا عاجلًا، دعت فيه إلى تدخل فوري لإنقاذ الصحفيين المحليين المتعاونين مع الوكالة داخل قطاع غزة، الذين باتوا ـ رغم شجاعتهم وصمودهم ـ على شفا الموت جوعًا.
جاء في البيان المؤلم للجمعية:”منذ تأسيس وكالة الصحافة الفرنسية عام 1944، خسرنا زملاء في صراعات، وأصيب آخرون، واعتُقل بعضهم، لكننا لم نشهد يومًا صحفيين يجوعون حتى الموت”.
وكانت وكالة “فرانس برس” قد أجلت موظفيها الرسميين وعائلاتهم من غزة في العام 2024، مع اشتداد الحرب، لكنها لم تتمكن من إجلاء الفريق المحلي المتعاون معها، والمكوّن من عشرة أفراد، بينهم صحفيون ومصورون ومصورو فيديو، بسبب الحصار الإسرائيلي الخانق، وانعدام ممرات الإجلاء الإنسانية.
ورغم تلقيهم لرواتب شهرية، فإن هؤلاء الصحفيين لم يعودوا قادرين على شراء طعام أو دواء، نتيجة انهيار الاقتصاد المحلي، وارتفاع الأسعار الجنوني، وفرض رسوم تحويل مرتفعة على العملة تتجاوز 40% من قيمتها، ما يجعل الأجور عمليًا غير قابلة للاستخدام.
كتب أحد المصورين من غزة في رسالة مؤثرة نشرتها الوكالة:”لقد فقدت القدرة على العمل الإعلامي… جسدي أصبح ضعيفًا جدًا، ولا أستطيع الاستمرار”.
ويأتي هذا النداء في وقت تشير فيه التقارير الأممية والحقوقية إلى أن قطاع غزة يواجه أسوأ كارثة إنسانية في تاريخه الحديث، حيث يعيش أكثر من نصف السكان على وجبة واحدة في اليوم، وتنتشر المجاعة في مناطق شمال القطاع بشكل خاص، بالتزامن مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، وإغلاق المعابر، وتدمير سلاسل الإمداد الغذائي.
وتطالب وكالة الصحافة الفرنسية المجتمع الدولي والمؤسسات الأممية والحقوقية بـ:
إجلاء فوري للصحفيين المحليين المتعاونين مع الوكالة في غزة.
فتح ممرات إنسانية تضمن وصول الغذاء والدواء، لا سيما للكوادر الإعلامية والطبية.
تمكين الصحفيين الأجانب من دخول القطاع لمرافقة الزملاء الفلسطينيين وتوثيق المأساة من الميدان.
ضمان الحماية القانونية الدولية للعاملين في الصحافة داخل مناطق النزاع.
تشير الإحصاءات الأخيرة إلى مقتل نحو 200 صحفي فلسطيني في غزة منذ أكتوبر 2023، وهو رقم غير مسبوق، يجعل القطاع أخطر مكان في العالم للعمل الصحفي.
وفي هذا السياق، قالت وكالة “فرانس برس” إن استمرار عمل مراسليها في غزة أصبح “مستحيلًا من الناحية الإنسانية”، وإن هناك حاجة عاجلة لتدخل دولي “ينقذ أرواح الزملاء الذين باتوا عاجزين عن أداء واجبهم أو حتى تأمين طعامهم”.
إن الهمّ في غزة ليس محصورًا بفئة دون أخرى، فالجوع لا يفرّق بين مدني وعامل إغاثة أو صحفي. ومع استمرار الحصار وتباطؤ المجتمع الدولي في الاستجابة، ينهار صوت الحقيقة هناك رويدًا رويدًا، جائعًا، مرهقًا، ومعرّضًا للزوال.
هذا ليس نداءً صحفيًا فحسب، بل صرخة إنسانية من غزة إلى العالم: أنقذوا من يوثقون الألم قبل أن يصبحوا أنفسهم ضحاياه.