أصدر مجلس الإفتاء السوري بياناً نص فيه على «حرمة الخطاب التحريضي والطائفي»، وبما أن الأمر يتعلّق بدين الله تعالى، لا بمسائل السياسية التي يجوز فيها الاجتهاد والترجيح بين المصالح والمفاسد، وحيث إن مصطلح «الحرمة» له مدلوله الشرعي الدقيق، ويترتب عليه الإثم والعقوبة في الآخرة، فلا بد من مناقشة البيان وفق الأصول الشرعية.
أولاً: معنى «الحرمة» شرعاً
الحرمة حكم شرعي ينبغي أن يُبنى على نص من القرآن أو السنة، أو على إجماع الأمة، أو اجتهاد راجح بدليله، ولا يصح وصف فعلٍ ما بالحرمة إلا بناءً على دليل شرعي صحيح، لا على اعتبارات سياسية أو عاطفية أو اجتماعية.
قال النبي ﷺ:
“ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه”
فالحكم بالحرمة لا يكون بالرأي المجرد، بل بالنقل والدليل.
ثانيًا: في تفسير “الخطاب التحريضي الطائفي”
العبارة الواردة في البيان تحتمل تفسيرين رئيسيين:
الاحتمال الأول:
أن يُقصَد به التحريض على قتال الطوائف المنحرفة المحاربة، والدعوة إلى ردّ عدوانها واستئصال شرها.
فهذا ليس محرماً شرعاً، بل هو من القتال المشروع لردّ البغي والعدوان، وقد شرعه الله في قوله تعالى:
“يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ”
فالتحريض على قتال المعتدين البغاة مشروع إذا توفرت شروطه، ويُعد من فروض الكفايات عند الحاجة، وليس خطاباً طائفياً بالمعنى المذموم.
الاحتمال الثاني:
أن يُقصَد به التحريض على عموم الطوائف دون تمييز، سواء أكانت في حالة قتال أم لا، وهو ما يُوصف عادة بـ”التحريض الطائفي العام”.
هذا الاحتمال ينقسم إلى قسمين ينبغي التمييز بينهما:
القسم الأول: مجادلة الطوائف المنحرفة والرد عليهم بالحجة والبرهان كبيان انحرافها وبدعها وضلالها وفساد عقيدتها أو مواقفها، وهذا مشروع بل مأمور به شرعاً، ولا يجوز وصفه بالحرمة، بل يدخل ضمن باب الرد على أهل الأهواء والتحذير من البدع والمناهج المنحرفة
قال تعالى:
(فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)
قال ابن عباس: أي بالقرآن
وقال تعالى:
“يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم” [التوبة: 73]
قال الإمام الطبري: قال تعالى لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ ) بالسيف (وَالْمُنَافِقِينَ ) بالوعيد واللسان.
وقال الإمام أحمد: “إذا سكت العالم عن بيان حال أهل البدع، فمتى يُعرف الحق؟”
القسم الثاني: التحريض على قتالهم أو مواجهتهم عموماً
فهذا يُقدَّر بحسب الحال، فإن كانوا معتدين بُغاة، فالتحريض على قتالهم مشروع بل ومأمور به شرعاً أما إن لم يقع منهم عدوان ظاهر، حينها من المهم التنبيه إلى أن النظام الإسلامي في حال قيامه وسيادته، لا يُقر الطوائف المارقة على حالها، بل يحكم عليها بالقتال أو الطرد أو المعاهدة أو الأمان بحسب حالها، فإذا نقضوا العهد أو خرقوا الأمان، وجب قتالهم، وهذا من أحكام السياسة الشرعية، لا من “التحريض الطائفي” المذموم، والأمان له اعتباره ولكنه كذلك لا يكون مطلقا بل مؤقتاً.
ثالثاً: الخلاصة والتوصية
إطلاق القول بحرمة “الخطاب التحريضي الطائفي” غير دقيق شرعاً، ويجب التفصيل فيه.
التحريض المشروع لرد البغي أو وصف الطوائف المنحرفة لا يدخل في دائرة الحرام، بل هو من الجهاد والبيان الواجب.
أما الخطابات التي تُبنى على البغضاء المجردة أو التعميم الظالم فلا يقرها أحد.
ونتمنى من مشايخنا في مجلس الإفتاء الكريم إعادة النظر في هذه الفقرة وتمييز التحليل الشرعي عن الاعتبارات السياسية، فلكلٍّ مجاله وضوابطه.
19 يوليو 2025