حاتم سلامة يكتب: الدعاة والاقتراب من السلطة
ينظر الراحل الكبير الدكتور “محمود عمارة” رحمه الله إلى علاقة العالم بالحاكم نظرة إيجابية ومختلفة ومغايرة عما ألفناه وما اشتهر من نظرة بعض المتدينين لهذه العلاقة؛ وذلك كون العلماء والحكام من أكبر عوامل الإصلاح واستقامة المجتمع والحياة.
يرى -رحمه الله- ضرورة التحام الطرفين واقتراب كل منهما للآخر أملًا في تحقيق الخير للأمة.
يقر بهذا وهو يضع في الاعتبار حساسية فريق من العلماء في الاقتراب للحاكم والنظرة السلبية منهم تجاه كل عالم يقترب من سياج السلطة ليكون في نظرهم من أهل المصلحة وطلاب الدنيا، فهذا سعيد بن المسيب يقول:
“إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحذروا منه فإنه لص”.
ويستعرض عمارة مقولة أبي حنيفة -رحمه الله-:
“كن من السلطان كما أنت من النار”
بل يقول الشافعي -رحمه الله- وقد نظم في هذا شعرًا يذكر فيه:
إِنَّ المُلوكَ بَلاءٌ حَيثُما حَلّوا
فَلا يَكُن لَكَ في أَبوابِهِم ظِلُّ
ماذا تُؤَمِّلُ مِن قَومٍ إِذا غَضِبوا
جاروا عَلَيكَ وَإِن أَرضَيتَهُم مَلّوا
فَاِستَغنِ بِاللَهِ عَن أَبوابِهِم كَرَمًا
إِنَّ الوقوفَ عَلى أَبوابِهِم ذُلُّ
بينما يرى عمارة أن هناك فريق لا يقترب من بلاط الحكام إلا أملًا في أن يكون بابًا من أبواب الإصلاح يخدمون به الناس.
كان هذا هو المنطلق الذي يسير به الدكتور عمارة نفسه في حياته، فقد قضى بعض فترات حياته الأولى في مواقع الحزب الوطني منذ زمن أنور السادات وقال أمامي أكثر من مرة:
“لقد أعانني الله تعالى أن أنجزت كثيرًا من المصالح وقضاء الحاجات لكثير من الناس كانوا متأزمين يبحثون عن مخرج يغيثهم”.
وهذا المنعطف الذي سار عليه الدكتور عمارة هو مدرسة ورأي عمل به كثير من الدعاة والمصلحين، لكن النظرة السلبية للبعض تجاه الحكام خاصة إن كانوا جائرين لا يحكمون بشرع الله، تنعكس على العلماء الذين يجاورونهم ويقتربون منهم، وينطقون بلسان مؤسساتهم، إذ يرونهم من أهل الدنيا وطلاب الجاه والمناصب، وهي الصورة التي تتنافى قطعًا مع عالم الدين الذي يفترض فيه الزهد والترفع عن الدنيا وغرورها، خاصة نظرة أبناء التيار الديني من الجماعات الإسلامية الذين يفقدون الثقة في كل عالم دين يقترب من السلطة، فيكون محسوبًا عليها ومن جنسها.
ونحن نعلم أن هذا موجود ومتحقق، فبعض العلماء للأسف ممن يقتربون من السلطة يلهثون وراء المصالح والرتب وعلى استعداد لأن يبيعوا دينهم من أجل الدنيا، ولكننا لا يمكن أبدًا أن ننكر أننا رأينا بجوار السلطة علماء محترمين زاهدين عابدين يخشون الله تعالى ويراعونه في أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم، وإلا فهل يمكن لك أن تساوي بين عبد الحليم محمود والشيخ الشعراوي وبين من نعرف ونرى من علماء يمكن لهم أن يُحلوا الحرام ويُحرموا الحلال من أجل السلطان؟!
لا يمكن أبدًا.. وعلى هذا نخلص أنه ليس من الضروري أن يكون كل من يقترب من السلطة أن يكون شيطانًا، وإن خدعنا في بعضهم فلا شك أن المواقف والأيام ستكشف لنا عن معدنه وغايته وطريقه وذمته، لن يستطيع أن يتخفى كثيرًا ويخدع الناس.
الدكتور عمارة إذن كان يرفض هذه الحساسية ومن أنصار الاقتراب من السلطان ومواقع النفوذ، شريطة احتفاظ العالم بهيبته ودينه، والأمر الثاني أن يكون حريصا بهذا الاقتراب على نفع الناس.. فهو يقول:
” ومهما كانت الحساسية هنا إلا أن الأمر في منطق العقل وبداهة الأشياء أن الناس يحتاجون إلى السلطان كما يحتاجون إلى العلماء، وإنهم يكونون أسعد ما يكونون وأوفر نصيبًا من الخير والصلاح حين يلتقي في حياتهم عز السلطان وعدله بحكمة العلماء وعلمهم”
ولعل هذا المنطق الذي يطرحه الدكتور عمارة لا يستوي مع كل الحكام، فهي نوعية خاصة تُقّدر العلم وأهله وتفتح لهم ذراعها مؤمنة بدورهم في هداية الأمة ورشد البلاد والعباد، أما القيادة المارقة الفاجرة، فهي قيادة لا تحترم العلماء في شيء ولا تقدر أفضالهم، ولا تُقَّرِب منها إلا أدنياء النفوس وحقراء الغايات.
والدكتور عمارة رحمه الله يعلي من قيمة هذا الشرط في رؤيته الخاصة بعلاقة العالم بالحاكم فيقول:
” لا بأس أن تكون هناك صلة بين السلطان والعالم ما لم تكن على حساب العقيدة، وما بقيت الكرامة موفورة”
ثم يطور من الحديث في رؤيته تجاه علاقة العالم بالحاكم فينوه بأن هذه العلاقة لا يجب أن تكون مقصورة على طلب الحاجات منه وإنجاز مصالح الناس، وإنما حمل الدكتور عمارة العلماء دورهم ومسؤوليتهم في الدعوة المفروضة عليهم تجاه هؤلاء الحكام، وطالبهم بضرورة أن يمارسوا دورهم الحقيقي مع السلطة الشرعية في الدعوة إلى الخير.
بل طرح فكرة أغرب وأدهش حينما طالب بعض الدعاة والعلماء الذين يؤدون رسالتهم بالبلاغ وينتهي الأمر ويظنون أنهم قد أدوا رسالتهم ودورهم، بل لابد أن يكون لهم إلحاح وحرص في الاقتراب من السلطة ومواضع صنع القرار، ويرحبوا بالمناصب والترقيات ولا حرج في ذلك، وحتى حرص الداعية أو العالم أن يكون صاحب منصب فلا عيب في هذا طالما يريده في نفع الدعوة وتيسير سبلها وإنجاز أهدافها، وتحقيق عنصرها مع أصحاب السلطة أنفسهم.
بين عمارة -رحمه الله- أن يسعى العالم نحو هذا الغرض وهو مُستَعل غير عابئ بكلمات التجريح وكل اتهام له بأنه يجري وراء المصالح الذاتية.. والحق أنها نظرة واعية من داعية حصيف متخصص في علم الدعوة وبصير بما يمكن لها من مستقبل أن تثمر فيه.
ضرب الدكتور رحمه الله بمثل قرآني يعكس جمال العلاقة بين الحاكم والعالم وكيف لها أن تؤتي ثمارًا معتبرة وذلك في قوله تعالى:
{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي} النمل 40
ويعتبر الدكتور محمود عمارة أن جماعات الإسلام السياسي أضرت بالوجود الإسلامي أكثر مما نفعته، فهي قد ظهرت على الساحة السياسية واعتبرها الحاكم ندًا له وخصمًا شرسًا، مما جعله يوجه إليه كل أسلحته للقضاء عليها وبتر وجودها، ومن هنا كان الإضرار بالعمل الدعوي كله، ولو أن الأمر اقتصر على الدعوة قولًا وعملًا وتهذيبًا وتربية، لاستطاع الإسلام أن يكسب أرضًا عظيمة وجمهورًا هائلًا، يُمكنه يومًا من الأيام أن يفرض نفسه وسلطانه ولو بالقوة.
ولعل هذا الفهم هو ما استفاده من أستاذه وشيخه محمد الغزالي الذي ذكر أنه حدثه يومًا عن أهمية الدعوة اليوم عن طريق التربية صياغة للطفل المسلم في البيت، وترسيخًا للتعاون على البر والتقوى بين صفوف المجتمع، تعاونًا يؤتي أُكله في كل نواحي الإصلاح الاجتماعي رخاًء وأمنًا، ثم يقول الدكتور عمارة معلنًا وجهة نظرة بوضوح وقوة وفهم عميق:
“إن الانفعال الساخن على صفحات مجلة تندد بالحاكم، يستعدي الحاكم عليها، بالإضافة إلى سلبيته وعدم جدواه، في تحقيق تقدم يذكر على طريق الإصلاح”.
ضرب عمارة المثل بتصدي الانجليز لجهاد الثوار في الهند وكيف أن الالة العسكرية كانت تفتك بكل جهاد يُقدر، وحينما جاء غاندي وأعلن اللاعنف، وألهب قريحة المجتمع ضد المحتل، وقاد الثورات السلمية، هنا سارع حاكم إنجليزي لإحدى المديريات الهندية وأبرق إلى الحكومة البريطانية عندما واجه اللاعنف حينذاك وقال لها:
“يرجى إبراق التعليمات لكيفية قتل نمر اللاعنف”