شيء مر أن تحترم احدهم وتعتبره رمزا فريدا، ثم يشاء القدر ان تلتقيه، فتبصق على اليوم الذي لقيته فيه.. من شدة صدمتك في أخلاقه التي كانت بمثابة لطمة على قفاك أيقظتك من وهم كبير.
يقول الدكتور سعيد اسماعيل: “عملاقا فكر، ندمت أن قابلتهما؟! فى أول الستينياتِ، كنت فى زيارة لمعيد زميلنا فى فلسفة آداب عين شمس، هو الراحل “محمود رجب”، حيث كانت زوجتى تدرس بقسم علم النفس.. كان رئيس قسم الفلسفة هو الدكتور عبد الرحمن بدوى، الذى لا أجد حاجة فى الإشارة إلى عبقريته وتفرده بين معظم، إن لم يكن، كل من علّموا الفلسفة واشتغلوا بها فى الوطن العربى.. وقلت لنفسى: لابد أن أنتهز الفرصة لمقابلته، فطلبت من محمود رجب أن يقدمنى إليه، وفوجئت بمحمود ينصحنى ألا أفعل ذلك، وتصورت أنه يمزح، فألححت.. أخذني محمود إلى مكتب الدكتور بدوى، وقدمنى إليه، فإذا بمفكرنا الكبير، يمد يده بتراخ واستعلاء واضحين، دون أن ينظر إلىّ، أو يظهر ترحيبا، أو دعوة إلى جلوس، فضلا عن عبوس واضح.. ولعنت تلك اللحظة..
وعندما ظهر لى مع الدكتور سعد مرسى أول كتاب عن تاريخ التربية والتعليم فى مصر سنة 1971، عن عالم الكتب، ورحت آخذ بعض النسخ، فوجئت بوجود العبقرى الدكتور جمال حمدان، حيث كان عالم الكتب هو ناشر موسوعته (شخصية مصر)، فسارعت إلى إهدائه نسخة من كتابنا، فإذا به يعتذر، ولا يقبل الهدية، مبررًا ذلك بأن قبوله لها يعنى أن يهدينى هو كذلك كتابا له، وبذلك تنشأ علاقة بيننا، وهو لا يريد علاقة مع أحد؟!! وندمت أن رأيته، وندمت أن حاولت إهداءه كتابنا.. ولله فى خلقه شجون؟!”
هذا تماما ما أحاول التعبير عنه والتنويه به، وقد رصدته في مواقف كثيرة ضايقتني ولم تعجبني من أخلاق بعض من يظنون أنفسهم كبارا.. والتي كلما حاولت التنفيس عنها والتعبير عن أسفي في شخوصهم، وجدت من يلومني ويؤكد أن العلة في أنا وليست فيمن أشكو ردة فعلهم.
الحمد لله أن مفكرا جليل القدر مثل الدكتور سعيد إسماعيل وجد ما وجدنا وعانى مما نعاني به، مع الفارق الكبير ممن نشكو منهم وبين من شكا منهم الدكتور سعيد، الذي لقي عباقرة. تشهد الدنيا كلها بفخامة عقولهم، أما من قابلوني فهم بغاث لا قيمة لهم أمام هؤلاء النجوم
شاعر أزهري معروف عاملني بوقاحة وكان فجًا في كبره وتعاليه، وأخر كان من عمداء الأزهر يتفجر كبرًا ويطفح غرورا، وهم في الحقيقة أصفار على الشمال، ويعلم الجميع أن ترقيهم للمناصب الوظيفية التي جعلت لاسمهم بصيصا من الرنين المؤقت، كان لمؤهلات أخرى غير العلم، لأن العالم الحقيقي لا يمكن أن يكون متكبرًا متغطرسا سفيهًا إلى هذا الحد.
كنت وزملائي أيام الدراسة في كلية أصول الدين ندخل على العلامة الجليل محمود عمارة، وهو من هو حيث يشار إليه بالبنان ويملأ الدنيا علما ودعوة، كان الرجل المبارك إذا دخلنا عليه ونحن طلبة صغارا، وهو شيخ الكلية الأكبر، يقوم منتفضا لمصافحتنا، كنا نشعر بحرج بالغ أن يقف إلينا نحن الصبية، رجل مرموق نسمع صوته ونشاهد أحاديثه في الإذاعة والتلفزيون.
ويذكر احد اصدقاؤنا عن الدكتور العلامة إبراهيم الخولي -رحمه الله- فيقول: قابلته أيام دراستي في كلية اللغة العربية فسلمت عليه، فوقف وابتسم وهش وبش وسألني عن اسمي وكليتي وفي أي عام أدرس، وكذا فعل مع كل من ذهب لمصافحته -رحمه الله وعفا عنه-.
وهكذا أخلاق العلماء الربانيين الذين تربوا في بيوت اصيلة صهرت معادنهم على أنفس الأخلاق والفضائل.
أما أصحاب النقص والعقد فبيوتهم لا شرف فيها يرفعهم، وهم وتصرفاهم أكبر عنوان على وضاعتها.