خاصيتا التربية وعمق الحب في منهج الإمام البنا
من نعم الله العظيمة التي أنعم بها على الإمام البنا- يرحمه الله- أن هداه لاعتماد التربية كوسيلة للتغيير على مختلف المستويات، الفرد والأسرة والمجتمع، وهداه كذلك إلى تعميق الحب في هذه المستويات كلها وبين جميع عناصرها.. ولعل في أحداث التاريخ وعبره ما يؤكد صحة ما ذهب إليه الإمام البنا؛ فمن لم يسلك سبيل التربية تسرع وضل به الطريق، كما أظهرت المحن الكثيرة والمتعددة للإخوان أهمية التربية والحب في الحفاظ على الصف وسلامته وسلامة مبادئه، وهذا يدل على عظمة هذا الرجل وتوفيق الله عز وجل له.
يقول الأستاذ ؤ في كتابه «حسن البنا الملهم الموهوب»: «لا شك أن الإمام الشهيد حسن البنا يعتبر ملمحًا بارزًا من ملامح القرن الماضي (العشرين) وشخصية فذة من شخصيات ذلك القرن فقد لمعت بذاتها، ولا تزال تضيء بآثارها في تاريخ الدعوة ولا يمكن لإنسانٍ أن يمضي بها إلى مجاهل النسيان، وكيف ينسى مَن ارتبط اسمه بأكبر أثر في الدعوة الإسلامية في القرون الأخيرة«.. ويذهب الأستاذ عمر في كتابه المشار إليه فيقول: لا نقولها حبًّا وإن كان الحب عاطفةً نبيلةً ولا تقديرًا وإن كان تقدير الرجال صفة المنصفين- ولا تعصبًا- وإن كان التفاني في الدعوة السامية شرفًا أي شرف، ولا تقديسًا.. إذ لا تقديس مع «لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم».. ولكن نقولها كما يذكر الأستاذ عمر من باب تقرير الواقع ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا﴾ «النساء:136» شهد بذلك الكل على السواء لأن الشمسَ الساطعةَ لا يُنكر وجودها إلا من ران العمى على إنسان عينيه، إنه عجز العمى وهذا العجز لا دخل للشمس فيه.
ويُعد «حسن البنا» نموذجًا فريدًا للزعيم والمفكر والمصلح الاجتماعي والناقد الجماهيري الذي يمكن أن تلتف حوله مختلف الطوائف والمستويات التي يجمعها اتجاه فكري واحد
إن حسن البنا في أخلاقه وتصرفاته وسلوكه كان دعوة.. ينجذب إليه الناس على اختلاف ثقافاتهم ونزعاتهم.. فقد آمن- رضى الله عنه- بالإسلام دعوة.. وبالإنسان مادتها فاستنهض أحاسيسه كلها لتعمل في ميدان العقل والنفس والشعور.. فانبثقت ينابيع كثيرة للخير كانت مجهولة.. وتفجرت طاقة للشباب كانت مبددة مقهورة وأشعلها يقظة في الوجدان والمشاعر وصحوة في القلب والوعي والشعور.
وحسبنا هنا أن نُشير في هذه العجالة إلى خاصيتين من خصائص دعوة الأستاذ البنا وهما: التربية، ثم عاطفة الحب في الله.
الخاصية الأولى: التربية
تتمايز الدعوات فيما بينها في تحديد الغاية والهدف من هذه الدعوات.. وتحديد الوسائل لتحقيق الغاية والهدف الذي تسعى إليه.
والحقيقة أنَّ الأستاذَ البنا رحمه الله تعمَّق كثيرًا في فهم وتَشَرّب أسلوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الدعوةِ إلى الله عز وجل.. وتعهَّد أصحابه رضوان الله عليهم بالمتابعة والتربية.
وقد فهم الأستاذ البنا من التقاء صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- به في «دار الأرقم« وعلى فترات طويلة ومتتابعة.. لم يكن ذلك من أجل حفظهم لما يتنزل عليه من آيات القرآن وفقط وإلا لما احتاج الأمر لهذا الوقت الطويل، وإنما الأمر كان للمعايشة والإعداد والتربية وغرس قيم وقواعد الإيمان في النفس والقلب والوجدان وإعداد هذا الجيل لحمل تبعة الإسلام للدنيا كلها.. فلا بد أن يتميز هذا الجيل إذن بإعدادٍ خاص وفريد.. فالمسألة إذن ليست حفظ نصوص وآيات.. إنما هي إعداد نفوس وقلوب تحمل الحق.. وتؤمن به.. وتنطلق تدعو إليه وتحمل هم تبليغه.. وتتحمل ما يترتب على الحركة به من تبعات ومشقات وآلام ومتاعب وابتلاءات ﴿ألم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)﴾ العنكبوت.
هكذا استعرض الأستاذ البنا المرحلة الأولى التي تعهَّد فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الرعيل الأول من صحابته الكرام رضوان الله عليه أجمعين.
وخرج بفائدةٍ عظيمة.. هي حقيقة موجودة في الواقع العملي لسيرةِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه ولكن لا يلتفت إليها الكثير من الدعاة أو رواد الحركات الإسلامية السابقة على زمن الأستاذ البنا رحمه الله تعالى.. ويعود إليه الفضل في اكتشاف هذه اللآلئ والجواهر واكتشافها وإبرازها من أعماق العمل والإسلامي طوال حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجيل الصحابة والتابعين من بعده.
لذلك نرى الإمام البنا- رحمه الله تعالى- قد اتجَّه توًّا إلى الدعوةِ إلى الله عز وجل على ذلك النموذج الفذ.. الذي تعلمه من الإسلام في عصره الأزهى.. وهو أن يتربَّى المسلمُ على الإسلام قولاً وعملاً.. فهْمًا وسلوكًا.. عقيدةً وحركةً.. وأن يُصلح الداخل قبل الخارج.. السريرة قبل العلانية.. «إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» حديث شريف ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ طه: من الآية7 ﴿سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ الأنعام: من الآية3 ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ المجادلة: من الآية 7.
دوافع الأمر أن الدعوة تقوى ويشتد عودها برجالٍ تربَّوا على حُسن الصلةِ بالله وارتبطوا بحبل الله المتين.. وتعلقوا بالله حُبًّا وولاءً.. ورغبةً ورهبةً.. وآمنوا أنَّ دعوةَ الإسلام فيها بإذن الله النجاة من شرورِ الدنيا وعذاب الآخرة وأنَّ الإسلامَ نظامٌ شاملٌ يشتمل على كلِّ شأن من شئون الحياة ويفتي في كل شأن كذلك فهو دين ودولة ومصحف وسيف.. وعبادة وقيادة.. وهو علم وقضاء وثقافة وقانون.
الإسلام ربَّى أمة على إقامةِ قواعده في نفوسها قبل أن تُقيمه في أرضها.. وأنه إذا صلح ما بين الأمة وربها.. فإن الله يتكفل بإصلاحِ ما بينها وبين غيرها.. بل وما بين كل الدنيا، وأنَّ مقياسَ نجاح الأعمال ليس بكثرتها.. إنما بمدى الإخلاص فيها لأنَّ الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه.. وما كان كذلك صحيحًا أي وفق منهج الإسلام.
ومن هنا كان الأستاذ البنا- رحمه الله- يُركِّز على الإعدادِ التربوى الجيد للفرد المسلم.. وكان ذلك واضحًا في كثير من الإشارات والمبادئ التي يبثها في أبنائه- وما زالت ساريةً فيهم حتى الآن- والحمد لله «حال رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل في رجل واحد».
فإن الناس يُؤثِّر فيهم أيما تأثير القدوة والسلوك والحركة الفعالة المترجمة عن النفس وخلجات الضمير أكثر بكثيرٍ من الكلامِ الجميل والحديث المنمق الذي يصدر من شخصٍ قد لا يكون بالضرورة، معبرًا عن واقعٍ سلوكي حقيقي.
ولقد تعلَّمنا من خلال المنهجِ التربوي للإخوان الذي هو صدى لتعاليمِ الإمام المؤسس أنَّ السلوكَ ركيزةٌ أساسيةٌ في هذه المدرسةِ العظيمة وأنَّ الأخلاق القومية عمودٌ من أعمدته العميقة وأن مَن ينتسب إلى هذه الدعوة لا بد أن ينضوي تحت هذه الراية الوارفة والمبدأ العظيم.. بمعنى أن يشهد للإسلام عامةً ودعوة الإخوان خاصةً شهادة حق.. ويصدق الله.. ويتقيه في الأمانة التي حملها.. ولا يسمح أن تكون هناك فجوة بين القول والفعل.. والواقع والسلوك.. والباطل والمعلن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)﴾ الصف ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ البقرة: 44.
ومن هذه المنطلقات كان اهتمام الأستاذ المؤسس بالتربيةِ تغلب على كل نشاطاته.. فهو لم يكن فقط خطيبًا مفوهًا لا يشق له غبار ولا يجاريه أو يماثله أحدٌ في التأثير العجيب البارع على قلوب مستمعيه.. ولم يكن فقط كاتبًا مؤلفًا يصوغ عباراته بأسلوبٍ شيقٍ جذابٍ تأخذ فيه المعاني بتلابيب البعض.. وتتناسق كسلاسل الذهب وعقود اللؤلؤ.. ولم يكن فقط محدثًا لبقًا مؤثرًا على مَن يُجالسه أو يستمع إليه مهما كان وضعه الثقافي والاجتماعي وزيرًا أو خفيرًا ملكًا أو سوقة.
لم يكن الأستاذ البنا خطيبًا أو كاتبًا أو مؤلفًا أو محدثًا.. فقط، وإن كان كل هذه الأنشطة والمجالات تحتاجها الدعوة أشد الاحتياج.. ولكن فوق ذلك كله.. ومعه.. كان مربيًّا يربط قلوب محبي الدعوة ومنتسبيها والعاملين على نصرتها ورفع رايتها لنصرةِ دين الله عز وجل.
ولذلك فعندما يُثير البعض أن الأستاذ البنا لم يترك مؤلفات أو مجلدات بمعنى أنه كان عليه أن ينشغل بالجوانبِ الثقافية والتأليفية بصفةٍ عامة.. وأحسب أنه وصله هذا النقد أو هذه الملاحظة.. وكان رده الواقعي المقنع أنه قد انشغل بتأليفِ الرجال وتكوين الصفِّ الحامل لهذه الدعوة المتفاعل معها الواثق بالله عز وجل ونصرة وحسن مثوبته ورضوانه.
ومن قال إنَّ الأستاذ البنا لم يترك كتبًا أو مؤلفات؟! لقد ترك تراثًا عظيمًا يملأ المجلدات والكتب.. لأن إنتاج الأستاذ رحمه الله تعالى لم ينحصر فقط في الرسائل أو المذكرات.. إنما اتسع ليشمل الدراسات والبحوث والمقالات التي تعالج جوانب عديدة من الدعوة والحركة وقضايا الفكر والسياسة والعمل الإسلامي العام.. هذا التراث لم يتمكَّن الكثيرُ من الباحثين المتخصصين من جمعه وتصنيفه وإخراجه.. وأعلم أنهم يواصلون ذلك رغم ضعف الإمكانات وقصور الوسائل.
والمنهج التربوي الذي توارثته جماعة الإخوان وتخضع له كل أفرادها.. لا ينحصر في الجوانب الثقافية من حفظٍ للقرآن وتجويده وتدبره وفهمه وتفسيره أو حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.. وكذلك دراسة السيرة النبوية وسيرة سلفنا الصالح عليهم رضوان الله.. وكذلك دراسة التاريخ الإسلامي والغزوات والفتوحات.. ولا ينحصر كذلك في دراسة الفقه وأصوله وعلوم اللغة ومن نحو وصرف وعروض.. إلخ، المنهج التربوي ليس كل ذلك وإنما كان هو وغيره من الدراسات أساس التكوين الثقافي والفكري للأخ المسلم.. إنما المقصود بالمنهج التربوي كما فهمناه في دعوتنا.. صياغة كاملة شاملة لعقل وقلب ووجدان الفرد وتُمثِّل قيم الإسلام وموازينه وتصوراته ومثله وآدابه في واقع حياة الفرد والمجتمع والأمة.
وبمعنى آخر البرامج الثقافية بمختلف تنوعاتها كَمٌّ مَعْرِفيٌّ لا بد منه.. وهي لا تكفي أن تنشئ الأخ المسلم الملتزم بدينه بالضرورة إنما لا بد أن تكون هناك أساليب وطرائق التعود والتطبيق والصقل والاصطباغ ولا يكون ذلك إلا على أيدي رجال لهم صفات أبرزها الربانية والتجرد والحب العميق والفهم الوثيق والعمل المتواصل.. وأن يكونوا في كل حياتهم وأمورهم قدوة صالحة يطابق فعلهم قولهم.. وأن يشهدوا بسلوكهم للدعوةِ شهادة حق لا شهادة زور.
تراني أخي الكريم قد أفضت في الحديث عن التربية في منهج الأستاذ البنا وإن كنت لم أوفيه حقه..
الخاصية الثانية: الحب في الله
هذه العاطفة الحانية.. كان يحرص الإمام البنا- رحمه الله- على غرسها في نفوس إخوانه.. بل نحسبها كانت تسبق كل ما عداها من شمائل عند الإمام.. وكان رحمه الله لا يمل من تكرار الإشارة إليها في كل لقاءٍ بالإخوان سواء في الحديث الأسبوعي في المركز العام بما عُرف بـ«حديث الثلاثاء».
ودائمًا ما كان- رحمه الله- يستفتح حديثه بخاطرة فياضة عن «الحب» وفي كل أسبوعٍ دونما ملل منه.. ولا من مستمعيه، ويذكر في كل مرة.. أنه متشوق لرؤيةِ إخوانه في هذا الحديث الأسبوعي.. يقولها جادًّا صادقًا تخرج كلماتها من خلجاتِ قلبه.. ومكنون فؤاده لتستقر مباشرةً في قلوب مستمعيه ووجدانهم يستشعرون الصدق في كلماته وعاطفته والود في تعبيراته والأنس في القرب منه والجلوس بين يديه.
كان يذكرهم دائمًا أن أيام الأسبوع كم هي طويلة وهو بعيدٌ عنهم.. وأنه- رحمه الله- يُعاني الشوق ويكابد اللهفةَ طوال أيام الأسبوع.. ثم ها هو ذا عندما يقف أمامهم في عاطفته الأسبوعية يوم الثلاثاء يطفئ لهيب الشوق بالنظرِ إلى وجوه إخوانه والاطمئنان عليهم.. وأخذ الشحنة الروحية والإيمانية لمواصلة الطريق وإكمال المسيرة.
ولا أحسب أنَّ هذا الحب وهذه العاطفة كانت من طرفٍ واحد.. يكابدها ويعانيها الأستاذ الإمام.. إنما كان هذا الشوق متبادلاً.. والحب موصولاً بين الإمام وبين جميع الإخوان.. وأن مَن كان يستمع إليه.. يستشعر الوشيجة الجميلة والعاطفة الجياشة.
يُحكى أن الأستاذ المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان.. حضر مرةً للاستماع لخطبة الجمعة في أحد المساجد في منتصف الأربعينيات وكان يظن كما هي العادة أن الخطيب سيكون من الذين يؤدون خطبتهم بالأسلوبِ الرتيبِ المعتاد من كلِّ الخطباء شكلاً وموضوعًا.. ولكن في هذه المرة.. كان الأمر مختلفًا.. إذْ ما لبث أن دخل الخطيب وهو الأستاذ البنا في موضوعه.. وبدأ يستولي على اهتمامِ وتفكير الحاضرين.. ومنهم الأستاذ الهضيبي.. وطال حديثه الشيق وطال.. وهو مع ذلك يخشى أن تنتهي الخطبة.. ومن هذه اللحظة توطدت العلاقة بين الإمامين وغرست بذرة الحب بين الرجلين.
يقول الأستاذ عمر التلمساني- المرشد الثالث للإخوان المسلمين- إننا نحب حسن البنا أطهر الحب؛ لأنه علَّمنا كيف نحب الله ورسوله أعظم من حبِّ أي شيء، فمنتهى هذا الحب أن نرقى به في مدارج الإيمان.. بل ويثبت به في قلوبنا الإيمان إذ لا يؤمن أحدنا حتى يكون الله ورسوله أحب إلينا من كل شيء وأن نحب الناس في الله ونفارقهم في الله.
ومن العوامل التي تُعمِّق أواصر الحب بينه وبين الإخوان- بل والناس عمومًا- أن الله أكرمه بذاكرةٍ حافظةٍ.. وعقلٍ مستوعب وخازن جيد للمعلومات والأفكار والأسماء.. فلقد كانت ذاكرته غير مألوفة إذا سأل أخًا عن اسمه مرةً وابنه وأبيه وعمله.. ثم التقى به بعد أشهرٍ طوال حيَّاه باسمه وسأله عن والده فلان وابنه فلان.
يقول الأستاذ عمر.. أما الذين التقيت وتحدثت إليهم.. أما الذين تتلمذت عليهم وارتبطت بهم.. فلم أحب أحدًا منهم كحبي لحسن البنا حتى ولا عاطفة الأبوة الغلابة لم تقو على التقدم على هذا الحب.. لا أقول إن حسن البنا هداني إلى الإسلام فقد نشأتُ في بيتٍ يعرف الصلاح والاستقامة، ويذهب فيقول.. «أما أن القرآن تشريعًا وتنظيمًا لإقامة الحياة على أدق وأطهر وأسمى أسلوب يؤدي إلى السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة.. فأمر لم أعرفه إلا بعد أن تتلمذت على يد أستاذ الجيل..
ويقول الأستاذ عمر: وهكذا لا نرى أستاذ الجيل إلا آخذًا بأيدينا في دروب الهداية إلى مصادر النور وينابيع الهدى حيث يتوافر هناك التضامن الاجتماعي قائمًا بين أفراد المجتمع الإخواني يحس كل منهم بأخيه إحساسه بنفسه.. وحقًّا لقد كان هذا التضامن والتكافل قائمًا بين الإخوان بشكلٍ واضحٍ وبصورةٍ لم يشهدها العالم الإسلامي منذ مئات السنين.
ويروي الأستاذ البنا في هذا المعنى الرفيع طرائف غاية في النبل وسمو العاطفة والإيثار قال: ذهب صاحبٌ إلى أخيه في جنح الدجى يقترض منه أربعة آلاف درهم ولم يكن عنده سواها فأعطاه إياها ورجع يبكي فقالت له زوجه: ما الذي حملك على إقراضه ما دام مالك يُبكيك إذًا؟ قال: يُبكيني تقصيري في تفقُّد حال أخى حتى اضطررته إلى المجئ مقترضًا«.
والحب الذي تعلمناه في مدرسةِ الإخوان المسلمين وعلى يدى الأستاذ البنا رحمه الله..إنما ينحصر في اتجاهين:
الأول: هو حب المبدأ والعقيدة.. حب للدعوة المتمثل في حبٍّ صادقٍ لله ولرسوله وللمؤمنين.
ففي حديث لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُقذف في النار».
وتعلمنا في مدرسةِ الإخوان أن يكون حب الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلينا من كل شيء في هذه الحياة.. بل وأحب إلينا من كل زينة الدنيا ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24).. وفي حديثٍ: «لا يؤمن أحكم حتى أكون أحب إليه من ماله ونفسه وولده والناس أجمعين».
هكذا فتح الأستاذ البنا قلوب الإخوان على هذا الكنز المتمثل في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة التي تُعمِّق الحب للمنهج.. وللطريق التي تتوجه لنصرة الله ورسوله.. وأن تعمل على عودةِ مجد الإسلام وعزة الأمة.. حب المبدأ إذن هو أساس إحياء الإسلام بمنهجه الشامل في واقع حياة المسلمين.. والحب الشغوف للمبدأ والعقيدة هو الذي يمنع التفريط فيه أو المساومة به أو الرضى بغيره.
الثاني: حب الإخوان بعضهم لبعض، وهي العاطفة التي حرص الأستاذ البنا على غرسها في إخوانه.. وهي الإخوة.. والتي عدها الركن التاسع من أركان البيعة، وقال: وأريد بالأخوة: إنَّ ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأعلاها، والأخوة أخت الإيمان والتفرق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة.. ولا وحدة بغير حب وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاها مرتبة الإيثار ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الحشر: من الآية 9.
والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ التوبة: من الآية71، وهكذا يجب أن نكون.
والأخوة منحة من الله عز وجل يعطيها الله للمخلصين من عباده والاصفياء والأتقياء من أوليائه وجنده وحزبه.
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الأنفال: 63.
وهي قوة إيمانية تورث شعورًا عميقًا بعاطفةٍ صادقةٍ ومحبة وود واحترام وثقة متبادلة مع كل من تربطنا بهم عقيدة التوحيد ومنهج الإسلام الخالد.. يتبعها ويستلزمها تعاون وإيثار ورحمة وعفو وتسامح وتكافل وتآزر وهي ملازمة للإيمان.. إذْ لا أخوة بدون إيمان ولا إيمان كاملاً بدون أخوة كما لا صداقة بلا تقوى ولا تقوى من غير صداقة، فأما أنه لا أخوة بغير إيمان لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ الحجرات: من الآية10، وأما إنه لا صداقةَ بغير تقوى: فلقوله تعالى ﴿الْأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ الزخرف: 67.
وكثيرًا ما كان يردد الأستاذ البنا في حديث الثلاثاء (عاطفة الثلاثاء) أحاديث وروايات تُظهر عمق هذه العاطفة في نفس الإخوان بل وتجعلهم في شغفٍ لسماعها وتطبيقها العملي في واقعِ حياتهم مع بعضهم البعض.. «المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف (رواه أحمد والطبراني والحاكم وصححه، «يُنصب لطائفة من الناس كراسى حول العرش يوم القيامة وجوههم كالقمر ليلة البدر يفزع الناس وهم لا يفزعون ويخاف الناس ولا يخافون وهم أولياء الله الذين ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يونس: من الآية62.. فقيل مَن هؤلاء يا رسول الله؟ فقال: «هم المتحابون في الله تعالى» قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تحابا اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حُبًّا لصاحبه» أخرجه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح الإسناد، قال علي- رضي الله عنه-: عليكم بالإخوان فإنهم عُدة في الدنيا والآخرة، ألا تسمع قول أهل النار ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (1019﴾ الشعراء.
وقال عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-: «والله لو صمت النهار لا أفطره وقمت الله لا أنامه وأنفقت مالي غلقًا غلقًا في سبيل الله أموت يوم أموت وليس في قلبي حبٌّ لأهلِ طاعةِ الله وبغضٌّ لأهل معصيةِ الله ما نفعني ذلك شيئًا».
لذلك لا تستغرب أخي الحبيب أن يأخذ أحد تلامذة الأستاذ البنا هذه النقطة الهامة جدًّا وهي «الحب» ويعيش بها ولها.. ويتحرك بها بين إخوانه والناس.. وتصبح سمةً عليه.. فكان هذا الأخ الكريم.. وهو المرحوم الحاج عباس السيسي علامةً بارزةً من علاماتِ الحب في الله بين الإخوان، بل وأصبح صاحب اصطلاح متميز سطَّره لكتابين له «الدعوة إلى الله حب»، بل وسطَّر كتابين كذلك عن «الطريق إلى القلوب» رحمه الله رحمة واسعة.
إننا نظل في دائرةِ الفكر النظري.. ونحفظ نصوصًا ونستمتع بذلك فقط ما لم ننزل ذلك كله إلى حيز التطبيق.. والتجريب، وعلى ذلك إذا أردنا أن نتذوق حلاوة الحب في الله تعالى.. فلا بد أن نتخذ من الوسائل والأساليب ما يحبب بعضنا في بعض..
ومن ذلك:
1) أن نتزاور أفرادًا وأُسرًا.
2) أن يتفقد بعضنا بعضًا.. إذا ما غاب أحدنا عن صلاةِ الجماعة في المسجد خاصةً صلاة الفجر ولدينا الهواتف والحمد لله.
3) ألا يكتفي الأخ بلقاءِ إخوانه في اللقاءات الرتيبة والمعتادة.. بل لا بد أن يُؤثره بزيارةٍ خاصةٍ وفردية.. ويا حبذا لو صحب معه زوجته وأولاده، فتكون الزيارة عائلية ويحمل معه بعض الهدايا البسيطة الخفيفة لأولاد أخيه بدون تكليفٍ أو إرهاقٍ مادي.
4) أن يتذكر أخاه بالدعاء وخاصةً عند أذكار الصباح والمساء وورد الرابطة.
5) أن يكون الأخ لإخوانه موضع ثقتهم وموطن مشورتهم.. يعين المحتاج ويغيث الملهوف ويجير المضطر إذا دعاه..
كل ذلك وما إليه يعمق الحب بين القلوب ويزيد الألفة.. ويجدد روح التآلف والتراحم ويقوي رابطة المودة والحب.. ولعمري إن هذا هو خير الزاد للسائرين في هذه الدعوة المباركة..
والله من وراء القصد.