أقلام حرة

د. خالد حمدي يكتب: «المحبون سرًّا»

بعيدا عن زحام مشاهير الفضاء الأزرق..

هناك مشاهير سماويون آخرون وإن كانوا مجاهيل عند غالب أهل الأرض..

لا تسمع لهم صوتا في دنيا الناس، ولا تقرأ عنهم خبرا حتى ولو كان خبر موتهم..

ومع ذلك ربما تكون شهرتهم في السماء أضعاف أضعاف شهرة أشهر مشهور في الأرض مليارات المرات.

أم أحد أصحابي ترى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ربما مئات المرات ولا يعرفها حتى بعض أهل قريتها..

وأم صاحبي الآخر لما ضاق بها الحال ولم تجد ما تداوي به زوجها المريض أخذت تكلم الله كأنها تكلم صاحبا قريبا وديدا فلم ينجل النهار حتى ذهب العوز والافتقار.

وعجوز بني إسرائيل التي كانت تعرف قبر يوسف (كما في الحديث الصحيح) وظل موسى يبحث عنها حتى دله الناس عليها، واشترطت مرافقته في الجنة نظير أن تدله على مكان قبر يوسف.

سبحان الله!!

لم يكن يعرفها حتى نبي الله موسى، بينما هي في السماء أشهر إنسان!!

هذا النوع من الناس ممن أسميهم: (المحبون سرا) هم المشهورون حقا..

فشتان بين شهرة غانية، أو ممثل، أو تافه هنا وهناك -سرعان ما تذهب شهرته وتبقى معصيته- وبين شهرة أخرى ميدانها السماء، وبريدها الإخلاص.

سعد بن معاذ شيع جنازته سبعون ألف ملك…

وهؤلاء من أذن لهم من الملائكة أن يشهدوا الجنازة، فكيف بملايين الملائكة أو المليارات الذين ينتظرون صاحبها؟!

نحن يراد بنا أن نعيش صخبا هادرا يلهينا عن سكينة الروح وطمأنينتها التي لو ظل المشاهير يبحثون عن ذرة منها بعد ذلك لا يجدونها ولو بمال الدنيا.

ذكرت أم حبيبة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم (وكانت من مهاجرات الحبشة) أن الذي بشرها بخبر الزواج من النبي جارية حبشية تسمى أبرهة..

ومن شدة فرح أم حبيبة بالخبر أعطت الجارية ما معها وكان قليلا..

فلما أعطاها النجاشي المهر الذي أخبره النبي أن يعطيه إياها، دعت الجارية وناولتها ذهبا كثيرا إكراما لها…

ردت الجارية ما أخذته سابقا ولاحقا وقالت:

لا حاجة لي فيه… إني أسلمت… فأقرئي رسول الله عندما ترينه مني السلام.

تقول أم حبيبة: فأبلغت رسول الله سلامها وقصتها فقال:

 وعليها السلام ورحمة الله.

هزتني قصة الجارية على بساطتها..

فهي من مجاهيل الحبشة، وتركت كل شيء -رغم عوزها- فرحة بإسلامها، وربما لم يكن ليعرفها مثلي لولا مروري العابر على قصة الصحابة مهاجري الحبشة…

لكنني أتخيلها يوم القيامة مشهورة، لأنها كانت من المحبين سرا، الباذلين بفرح، المحبين للنبي بصدق وإن لم تره.

اهربوا يا إخواني من عالم الصخب، واستنقذوا أرواحكم، وانشغلوا بشهرات السماء، وعبادات الخفاء.

فالغيب يحجز عنا احتفالات سماوية لو رأيناها لبكينا دما على أعمار لم تنفق في مثلها.

د. خالد حمدي

باحث وداعية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى