مقالات

د. أسامة الأشقر يكتب: أحياء حولَنا!

1- أتخيّل أن آلافاً وآلافاً من أهلنا العابرين إلى السماء الذين ترحّلوا صوبها ابتداءً من محطّة ذلك الثغر الملتهب الذي لا يتوقّف نزفُه، ما تزال أرواحهم تطوف فوق عيون الثغر وحوله، وتمدّ الباقين منّا ببَوحٍ خافتٍ تسمعه الأفئدة التي فتّتها الحزن، وأذابتها الفجائع المتراكمة.

2- هؤلاء الأحياء السارحون والطائفون حولنا نالت نفوسَهم طمأنينةٌ من الربّ المتعال، فعادوا إلى عباد الله، ودخلوا فيهم بلقطات ولمحات لامعة يَذْكرهم أصحابُهم بها حين يستدعون ذكراهم القريبة.

3- ولأنهم مرزوقون لا ينقطع عنهم الرزق الموعود في حضرة الحقّ (أحياء عند ربهم يرزقون) فإن حياتهم الخاصّة تتسلّل عبر تلك النفوس اللطيفة الشفّافة التي أزالت الأحزان حُجُبَها، وتدفّقت فيها بلطفٍ، واندفعت بين الأفئدة المكسورة تدهنُ جروحها المشقوقة بمَلْمَسها الحاني الرفيق.

4- لهؤلاء الأحياء السعداء نجومٌ تلمع بين عينيك الباكيتين، يَسَعُك أن تبحر إليها في زورق مصنوع من خيوط أنوار الصابرين، وهو نور جميل أكثر ما تراه عند الأمّهات التي حملنَ الصبرَ على أكتافهنّ المنحنية، والزوجات اللواتي جَبَرْنَ كسور أكتافهنّ برمل الراحلين الأحمر، وأولئك الشيوخ المكلومين الذين ذابت دموعهم المتحجرة في مآقيهم، واختطّت الأحزانُ خنادقَ لها بين تجاعيدهم.

5- نعلم أنّهم أحياء عند ربّهم، لم يَفْنَوا، في البرزخ القريب من ورائنا، وأننا لا نشعر بحياتهم القريبة هذه بحواسّنا المقيّدة، ولو أننا أطلقنا أرواحنا من قيدها وانكشفْنا أمام الحقّ فإن هذه الحياة ستنبعث من جروحنا، وتحيي المَوات المنشور على المدى.

6- إنهم فرِحون جداً بما رأوه عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، ولكنهم لم ينسوكم، ألا ترى أنهم يستبشرون بالذين لم يَلْحقوا بهم من خلفهم، وينتظرون أخباركم بشغفٍ وسرورٍ، ويودّون أن تُردّ إليهم الأرواح القادرة على العبور إلى ضفة الدنيا ليرشدوكم إلى عين الحياة في ظل العرش، ولكنّ كلمة الله سبقت ألا عودة للوراء.

د. أسامة الأشقر

مؤرخ وروائي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights