بحوث ودراسات

د. أسامة الأشقر يكتب: سودانيّ على عرش البوسنة

«لمحات من حياة شيخ الإسلام في شرق أوروبا الفاتح علي حسنين»

لم يتح لكثيرين أن يتعرفوا شخصية الفاتح علي حسنين رحمه الله، والذي اختاره الله تعالى إلى جواره فجر الإثنين 19/8/2024 بعد سنوات طويلة من المرض الشديد قضى أكثرها في المستشفيات وبين أكوام الأدوية الموصوفة، حتى إنك إذا دخلت مجلسه فلابد أن تتعثر بواحدة منها سواء السائلة منها أو الجامدة أو الأوكسجين أو المحاليل المنصوبة.

أوّل ما عرفته كان في التسعينات، وكان الوصول إليه صعباً إذ كان مستشاراً خاصاً لعلي عزت بيجوفيتش، ووصل إلى منصب نائب الرئيس البوسني، وتولى الرئاسة فعلياً بعد أن دخل بيجوفيتش السجن، وكان أحد القادة المؤثرين في الحرب البوسنية بعد تفكك الاتحاد اليوغوسلافي، وكان يفتخر بتواضع أنه أحد أهم الأشخاص الذين كتب الله على يدهم أن ينجزوا ميلاد أول جمهورية إسلامية في أوروبا.

ولد الشيخ الفاتح في كركوج بولاية سنار عام 1946 من عائلة ذات أصول مغاربية شريفة تعود في أصولها إلى الشيخ الصوفي الكبير أحمد زروق، وكان شيخاً للمغاربة في السودان، وقد أنجز موسوعة عن أشهر أعلامهم في هذا البلد، وكان فوق ذلك شيخاً صوفياً يجلّه أصحابه ومريدوه جدّاً، ولكنه لم يشتهر بالتصوف إلا في أوساط النخبة القريبة منه، وكانت له أوراده التي كان يطبعها ويوزّعها على أحبابه.

كان الشيخ الفاتح رجل دولة بامتياز، يمتلك رؤية ثاقبة، وحذراً شديداً، وجرأة متناهية، وعلاقات واسعة، ونفوذاً ممتدّاً؛ وقد أتى له هذا الشيء من تجربته القديمة والظروف التي وضع فيها.

كان يحب أن يحدثني بتفاصيل كاملة عن تجربته يوم كنت لا أغيب عنه يوماً عندما كنت في إدارة جمعية الصداقة السودانية التركية التي يرأسها، ولم تكن جمعية عادية بل كانت مجلساً سياسياً يكاد يدير الكثير من جوانب العلاقة السودانية التركية بسبب وجود الشيخ الفاتح فيها، وبسبب وجود أشخاص ذوي نفوذ كبير فيها؛ وكان الشيخ شديد العناية بهذه الجمعية ويكاد يصرف عليها وحده.

بدأت علاقة الشيخ بيوغوسلافيا يوم نال منحة لدراسة الطب في جامعة بلغراد في منتصف الستينات، وكان في بداية تأطيره في الحركة الإسلامية السودانية، ونال قبل سفره مباركة أستاذه الذي يحبه ويثق برأيه الدكتور حسن الترابي رحمه الله، وهناك بدأت علاقته مع نفر من الشباب اليوغوسلافي المسلم الذين كانوا ينشطون في الحفاظ على هويتهم من الذوبان وعلى رأسهم علي عزت بيجوفيتش وأشخاص آخرين كانوا لا يقلون عنه حدثنا عنهم الشيخ الفاتح بإسهاب، وكانوا يتحركون في ظروف صعبة داخل المنظومة الشيوعية ذات القبضة الأمنية المشددة؛ وكثيراً ما كان يتعرض للتحقيق والمساءلة والحبس المحدود.

كان علي عزت يكبر الشيخ الفاتح بنحو عشرين سنة، ومع ذلك فقد توطدت العلاقة بينهما كأنهما أصحاب، وكان الشيخ واسطته للتعامل مع المشرق العربي والخليج العربي بعد أن فتح له الدكتور الترابي وغيره آفاق العلاقات هناك، وكانت الكويت والسعودة والإمارات آنذاك من أكبر داعمي النشاط الإسلامي في أوروبا.

كان للشيخ دور كبير في نشر ترجمة معاني القرآن لعدة لغات شرق أوروبية كاليوغوسلافية والرومانية والبلغارية، وكان يطبعها داخل يوغوسلافيا في مطابع سرية نظير المال لصعوبة التهريب عبر الحدود؛ ونشر ترجمات عديدة لأهم كتب الشيخ البنا وسيّد وأبي الأعلى المودودي وغيرهم، وقد كان لذلك الأمر دوره البارز في نهضة الإسلام في شرق أوروبا.

وفي الجانب الإعلامي أصدر مجلة الشاهدة التي رصدت وقائع الحرب البوسنيّة ومعاناة الأقليات الإسلامية بالبلقان وأوروبا الشرقية ونقلت ذلك إلى العالم الإسلامي والعربي، وكان ينوي إعادة إصدارها عام 2016 وكلفني مع آخرين بتكليف إدارة تحرير لها، وبالفعل أصدرنا عدديين منها في الخرطوم؛ كما أصدر من قبل مجلة شيكان في بلغراد وكان بمثابة الصوت الوحيد للطلاب الأجانب الإسلاميين في يوغسلافيا السابقة.

اهتم الشيخ الفاتح بالعمل الطلابي الأكثر حيويّة في شرق أوروبا، فأسس اتحاد الطلاب المسلمين بيوغسلافيا عام 1966م، وأقنع زملاءه من الإسلاميين اليوغوسلاف بتأسيس اتحاد يجمع الطلاب المسلمين بشرق أوروبا بمدينة بلغراد في العام 1967م.

كان الشيخ الفاتح يؤمن بضرورة وجود حواضن سياسية للعمل الإسلامي في شرق أوروبا فتمكّن من جلب دعم كبير لتأسيس المجلس الإسلامي لشرق أوروبا في النمسا عام 1987م. شاركت فيه قيادات إسلامية من كل من بلغاريا، اليونان، رومانيا، ألبانيا، صربيا، البوسنة والهرسك، مقدونيا، كوسوفا، المجر، سلوفاكيا، التشيك، بولندا، ومولدافيا؛ كما فتح الباب للمنظمات الإغاثية الإسلامية الكبيرة للعمل في شرق أوروبا مثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، والوكالة الإسلامية الإفريقية للإغاثة.

استطاع الشيخ الفاتح أن يفهم المجتمع الشرق أوروبيّ وخصوصيته، وأدرك أولوياته، ولم ينشغل بالاهتمامات الأخرى التي يركّز عليها الدعاة العاديون، ولم تنقطع علاقته بهؤلاء الذين عاش معهم بعد تخرجه في كلية الطب واشتغاله بالطب الباطنيّ، وظل أثناء عمله في الإمارات طبيباً يتواصل معهم، ويفتح لهم سبل العلاقات الخاصة، حتى أنشأ واحدة من أكبر المنظمات الإغاثية الإسلامية المعروفة باسم وكالة إغاثة العالم الثالث في النمسا، والتي استطاعت أن تتحوّل إلى ما يشبه الخزانة الكبيرة لتأسيس هذه الجمهوريات الإسلامية لاتساع مواردها التي بلغت عدة مليارات في بعض المراحل كما أخبرنا الشيخ؛ إذ كانت دول عربية وإسلامية كبيرة تجعل هذه الوكالة مدخلها لدعم المسلمين هناك.

لم يكن النشاط الإغاثي هو النشاط الوحيد لهذه الوكالة فقد كان لها مناشط دعوية وثقافية واجتماعية ورياضية كبيرة، وتطورت لتكون مركز قيادة فعلي لنهضة الإسلام في وسط أوروبا وشرقها، وكان لها نفوذ مالي كبير أدى إلى ترحيب الدول الغربيّة بها أول الأمر طمعاً في وارداتها الكبيرة على بلدانهم، ثم تنبّهوا إلى خطورتها فطاردوها.

كان الشيخ الفاتح يجلس مع الرؤساء وكبار الزعماء كأنه الرئيس آنذاك، وكان يحظى بتلبية أكثر طلباته عند جلوسه معهم، وقد حكى لي تفاصيل واحدة من أكبر أعماله يوم استطاع نقل نحو 13 طائرة حربية روسية من الشيشان إلى البوسنة عبر باكستان والإمارات والسعودية والسودان مروراً بمصر، وكيف أنجز موافقة هذه الدول كلها بطرق ذكية وملفتة ولا يخلو بعضها من الحيلة، وحكى لنا كيف تبرّع بها الجنرال الشيشاني الراحل جوهر دوداييف رحمه الله قبل أن يقتله الروس في الحرب الشيشانية خوفاً من أن تقع غنيمة في أيديهم.

كان النجاح الكبير للشيخ الفاتح في البوسنة حيث أسهم في تأسيس حزب العمل الديمقراطي (SDA) الذي تولى الحكم عام 1991م؛ وأسهم في تأسيس المجلس العالمي لحقوق الإنسان للبوسنة والهرسك بمدينة فينا في العام 1993م، وأسس العديد من المراكز والهيئات الحساسة هناك.

كان الدكتور الفاتح رحمه الله أحد القادة الحقيقيين في هذه الحرب، الذين دعموا مواقف علي عزت بيجوفيتش وعضدوها، وسافر معه إلى بلدان كثيرة للاعتراف بجمهوريته الصغيرة الناشئة، وروى لنا الكثير من المواقف المؤلمة والمثيرة أثناء رحلة الاعتراف قبل الحرب، وكان الشيخ من أوائل مواطني الجمهورية البوسنية الناشئة بقرار من رئيسها الثائر علي عزت؛ وظل الشيخ مع رئيسه طيلة فترة الحرب، ينتقل معه من مدينة إلى مدينة، ويروي لنا قصص الحرب هناك، ويروي كيف استطاعوا توصيل الإمداد العسكري حتى يثبت هؤلاء البوسنيون أمام موجات الإبادة التي قام بها الصرب والكروات ضدهم بدعم كامل من أوروبا، وعندما توقفت الحرب كان الشيخ أحد ضحاياها إذ تقرر تجريده من الجنسية البوسنية وإخراجه من البوسنة في صفقة مؤلمة مقابل الإفراج عنه، وإلا فإنه سيحاكم بعقود طويلة في السجن، فعاد إلى تركيا واستقبله الرئيس التركي الراحل سليمان ديميريل، وله معه حكايات مؤثرة تحتاج إلى مدونة خاصة لتسجيلها.

كان علاقة الشيخ برجب طيب أردوغان قديمة تعود إلى بداية الثمانينات وتعززت في آخرها، وكان أحد الذين شجعوه لخوض غمار الانتخابات البلدية حتى إن لم توافق قيادة حزبه على ترشيحه، وهناك تفاصيل كان يتحفّظ الشيخ في روايتها لئلا تؤثر على حياة صديقه السياسية.

وعندما زار أردوغان السودان عام 2017 بعد وساطة من الشيخ الفاتح كلفني الشيخ رحمه الله مع الأخ الدكتور أيمن الطيب سرور مدير إذاعة الفرقان بترتيب زيارة أردوغان له عند عودته من سواكن ليلاً رغم عدم وجودها في بروتوكول الزيارة، كما كلفنا بتحديد أسماء الحضور إلى هذه الجلسة الخاصة التي كان كثيرون يتطلعون للمشاركة فيها، وأذكر الكثير من التفاصيل حول تلك الزيارة وأهميتها، وأذكر أن ما كتبتُه عنها في صفحتي على فيسبوك كانت المصدر الوحيد الذي ذكرها آنذاك مع صورها، وعنها نقلت جميع المصادر الأخرى دون عزو.

وعندما تراجعت صحة الشيخ في عام 2018 أمر الرئيس التركي بنقله بطائرة خاصة إلى تركيا وبقي فيها حتى وفاته رحمه الله.

لم يكن الشيخ الفاتح موقوفاً على البوسنة وشرق أوروبا فحسب فثمة الكثير مما يمكن قوله عن أدواره في فلسطين وكيف ابتعث عدداً من كوادرهم إلى أنحاء العالم في حقبة الثمانينات، وقد يتاح لنا الكتابة عن ذلك لاحقاً إن شاء الله، كما كان الشيخ منفتحاً على قضايا إفريقيا، إذ كان المصلحون والدعاة الأفارقة والزعماء السياسيون الرسميون والمعارضون يأتونه ويستشيرونه، وكثيراً ما سمعنا قصصهم حول ما قدمه الشيخ لهم؛ ويمكننا الحديث كثيراً عن أدواره في أفغانستان حقبة الغزو الشيوعي وفي الفلبين وتايلاند، كما أن الشيخ له باع طويل في بلده بمشروعاته الكبيرة في القطاع الزراعي خاصة، وفي مؤسسته الخيريّة “حسنين” وقد رأيت بنفسي كرمه الباذخ في إعانة المحتاجين والصبر عليهم، كما كان له أدوار مهمة في كثير من الملفات الخاصة التي كان يديرها في أضيق الحدود لصالح بلده.

كان الشيخ الفاتح الطبيب أديباً ذوّاقة للشعر، وكان يتقن اللغة اليوغوسلافية ويترجم بعض أعمالها الأدبية التي تأثر بها، كما كان يعشق تاريخ البوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفا ومقدونيا العثماني، وقد كلفني بتصحيح العديد من كتبه ونقدها مثل «جسر على نهر الدرينا» و«الطريق إلى فوجا» و«بلنة جزيرة الشيطان» و«الزنبقة البيضاء»… وألّف في سير أجداده «لمعان البروق في سيرة مولانا أحمد زروق»…، وكان الشيخ ينتقد بعض المواضع في ترجمة مذكرات علي عزت بيجوفيتش، وينتقد العنوان الذي اختاره المترجم للمذكرات، وله في ذلك نظر له موضعه .

كتب الله أجرك شيخنا الحبيب، ورحمك رحمة واسعة، فقد كنتَ عظيم البركة، كثير النفع لهذه الأمة، وأنقذ الله بك أمماً وشعوباً تحفظ لك قدرك إلى اليوم.

د. أسامة الأشقر

مؤرخ وروائي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى