أقلام حرة

د. أسامة شفيع يكتب: بين الفضل الإلهي والأدب النبوي

صح -في حديث الإسراء والمعراج- أن النبي راجع ربه غيرَ مرة في مقدار الصلوات المفروضة حتى نزلت عن خمسين إلى خمسٍ في العمل دون الأجر تفضلا من الله تعالى على هذه الأمة، وكرامةً لنبيها ، فما كان من سيدنا المصطفي إلا أن لقي هذا الفضل الإلهي بأدب نبوي، فشرع لأمته من صلوات التطوع (وهذا اسم جامع لكل ما سوى المكتوبة) في كل يوم ما يكاد يبلغ تمام الخمسين، فمن قيام الليل إلى الرواتب إلى صلاة الأوابين إلى السنن غير المؤكدة إلى ما ورد مرفوعًا -على مقال فيه-: “الصلاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ، وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ”. فمن تأمل هذا تبين أنه ما سعى في تغيير الأمر الإلهي الأول بالخمسين صلاة إلا من حيث وصفه، فجعله على الاختيار دون الوجوب، فأقام كفتي الميزان في الأدب مع أمر الله تعالى، وفي الرحمة بأمته تصديقًا لخبر الله تعالى عنه: “بالمؤمنين رؤوف رحيم”.

فما الذي أثمره هذا الأدب العالي الذي هوثمرة التأديب الرباني؟

قوله تعالى في حديث الولي: “وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه…” الحديث، وكان قال -قبل ذلك- في الفرائض: “وما تقرب عبدي إلي بشيء أحبَّ إلي مما افترضت عليه”، فهو-سبحانه- في الفريضة يحب العمل، وفي النافلة يحب العامل، ووَجْهُ ذلك أن صاحب الفريضة قائم بما أوجبه الله تعالى عليه حتمًا، فهومتردد بين حادي الخوف، وداعي الرجاء، فلا يكاد يخلص تمحضه لحامل المحبة، فتوجه الحب الإلهي للعمل، خلافا للنوافل، فإنها لما كانت مبنية على الاختيار المحض من العبد توجه الحب الإلهي إليه، فبُدِّلت صفاته، فكان الله سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، على ما جاء في الحديث. فإذا أتى بعبادة بشيء من هذه الجوارح فإنما كان ذلك بالله تعالى، وبالأمرين يعتدل ميزان العبودية، فتَكْفُل له الفرائض عبادة الخوف والرجاء، وتكفل له النوافل عبادة المحبة، وها هنا يتم تحققه بمعنى “لا حول ولا قوة إلا بالله” ذوقًا وعيانًا في مرتبة الإحسان، بعد أن كانت عقدًا قلبيَّا في مرتبة الإيمان. وقد نقل عن أبي الحسن الشاذلي في تفسير حديث النبي لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: “ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله” (متفق عليه)، نُقل أنَّ المراد بالجنة هنا “جنة الأعمال”.

 وينبغي ألا يُظن مما تقدم أن النوافل أعلى رتبة من الفرائض، فما يقول بذلك مسلم؛ فإن النوافل لا تكتب كذلك إلا إذا تمت الفرائض ظاهرًا وباطنًا على ما جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: “إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاتُهُ فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وإن فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ جل وعلا: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ؟ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ”.

ولكننا نقول: إن النوافل من الفرائض بمنزلة فروع الشجرة من ساقها، وقد قضت الحكمة القديمة بأن تكون حياة الفروع بالساق، ولكنها قضت كذلك بألا تكون الثمار إلا من الفروع، فمَيِّزِ المراتب تعرفِ الحقائق، والله أعلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights