الأحد مايو 19, 2024
بحوث ودراسات

د. أنس الرهوان يكتب: غزوة أُحد.. صلة الحاضر بالماضي

{ما كان الله لِيَذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يَميزَ الخبيثَ من الطيب}

في شهر شوال في السنة الثالثة من الهجرة، وقعتْ غزوة أُحد، إحدى الملاحم الخالدة في صحائف الجهاد الإسلامي، وقد كان من أهمِّيَتها العظمى أن الله ﷻ قصَّ خبرَها في كتابه بتفصيلٍ بديع، مليء بالدروس، داعٍ إلى الاعتبار.

١) تلك الغزوة كانت مرآةً للمؤمنين، كاشفةً لهم عن صوَرِ أفعالهم واختياراتهم حين تتمثَّل واقعًا مُعاشًا، داعيةً لهم إلى تحمل نتائجها مهما كانت مضادة لتوقعاتهم.

٢) وكانت مُجَلِّيةً لموقع الشورى من الإسلام، مبيِّنة لأهمية التريث في اقتراح الآراء وبَذْلها، خصوصًا ما كان منها يمسُّ جماعةً عريضة من الناس، ويتعلق بمصير أمة كاملة.

٣) وكانت موضحةً لضرورة اجتماع الكلمة، وعدم الافتراق والتنازع المؤدي إلى الفشل.

٤) وكانت مُظهرةً لعظمة الأوامر النبوية ودقَّتها وحصافة الرأي فيها، وسوء العاقبة في مخالفتها.

٥) وكانت مُبْرزةً لأثر أفعال الإنسان في الرخاء على صنيعه في النوازل والملمات الشديدة.

٦) وكانت مرسِّخةً لواقعية الإسلام وبعده عن الأسطورية، وكونِ النصر المؤقتِ متداولا بين الناس وليس حتمًا لازمًا في كل معركة بعينها.

٧) وكانت تمييزا لأهل السجايا الخبيثة والنفوس الدنيئة من أهل الإيمان والحق.

٨) وكانت اختبارا لصلابة المؤمنين في دينهم ومدى استمساكهم بسبيل شرعتهم، وردِّ فعلهم لو فقدوا صاحب دعوتهم وأهل الفضل منهم.

٩) وكانت امتحانا للرضى عن الخالق جل في علاه في السراء والضراء، والشموخ بهذا الدين في وجه أعاصير الزمان!

لقد اختار طائفةٌ من المؤمنين الخروجَ من المدينة لمحاربة الكفار، فكان عليهم احتمالُ عاقبة ذلك الاختيار، التي ظهرت في ساحة المعركة.

وكان ذلك الاختيارُ ثمرةَ شورى نبوية، كان الصوتُ الذي اختارَ الخروجَ من المدينة في تلك الشورى غالبًا على الصوت الراغب في البقاء فيها، رغم أن الأول صادرٌ -إجمالا- عن شباب، لعلَّهم دونَ أصحاب الصوت الثاني خبرةً بالحروب، وإن لم يقِلُّوا عنهم شجاعةً وبسالة، ورغم كونه خلافَ الرغبة النبوية.

لكن رسول الله ﷺ كان أكبرَ نفسا من أن يشنِّع عليهم وأن يستبدَّ بالأمر دونهم، كأنما أراد أن يكشف لهم عن ثمرات أفكارهم، وأن يخوِّلَهم نوعًا من المسؤولية في عاجل الأمر، تؤدي إلى تقليب الأفكار والموازنة الدقيقة بين الرغبات وآثارها، بما يوجِّه دفتها إلى الصواب أو أقرب نقطة إليه فيما بعد.

ولقد كان المسلمون يتمنَّون الموت من قبل أن يلقوه، فقد رأوه وهم ينظرون!

وافتَرقَتْ كلمةُ الرماة في تأويل الأمر النبوي بألا يبرحوا أماكنهم، وتزيَّنَتْ لبعضهم الدنيا فانصاعوا لرغبتهم فيها، وعصَوْا من بعد ما أراهم الله ﷻ ما يحبُّون، فأخذَت سيوفُ الكفار من أجسادهم مآخذَها وطاروا شهداء، وانقلبتْ موازين المعركة بعدما كانت نصرًا محتوما لا مرية فيه، لتكون النتيجة مريرة على النفوس، وإن كان في طياتها من الخيرِ ما طلعَتْ ثمرتُه بعدُ.

ولما انقلبَتِ الدائرةُ، انطلق بعضُ المسلمين مخلِّفين ساحة القتال وراء ظهورهم حتى بلغَ بعضُهم المدينةَ، كان ذلك الأمر تولِّيًا يوم الزحف، وهو أثرٌ من آثار أفعالٍ لهم سابقةٍ، استزلَّهم الشيطان بها في ذلك اليوم، لكنْ عفا الله عنهم، ولعله أراد أن يلتفتوا إلى أفعالهم الحاضرة، وينتبهوا إلى مؤدَّاها في مستقبل أيامهم وأزمان شدتهم.

وبينما انخزل رئيس المنافقين بثلث الجيش، وقعدَت ببعض النفوسِ همَّتُها وبأسُها، تجلَّت في ذلك اليوم بَسالةٌ لأهل الحق والإيمان فاردةٌ، وشجاعةٌ غيرُ ذات نديدٍ، الإيمانُ الذي أُشربَتْه تلك النفوس الرفيعة في زمن الرخاء، كان لهم ذُخرا ينفقون منه في أيام بأسهم والمواقف التي تزلزل الصمَّ الصلاب.

تجدُ عبدَ الله بن جحش وسعدَ بن أبي وقاص رضي الله عنهما يأخذان ناحية، ويدعو كلُّ واحد منهما دعوة يريدها، فيستجاب لهما.. كانت دعوة عبد الله عجبا من العجب، لكن الله ﷻ استجابها له، وخلدها التاريخ في صحيفةٍ بيضاءَ ناصعة، ليرى الناسُ أن النفوس ليست سواءً في همَمِها ومراداتها.

وترى عمْرَو بن الجموح رضي الله عنه، ذلك الشيخَ المسن الأعرَجَ، ينطلق في مجال المعركة، كالبرق سرعةً وكالسيف مَضاءً، قد اتخذ لنفسه غرضا في تلك المعركة، يريد أن يطأ الجنة بعرْجته تلك، حتى استشهد، فدُفن فيما بعد مع صاحبه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، الذي كان أول شهيد في ذلك اليوم.

ثباتُ المهاجرين يومئذٍ حكاية باهرة، وتضحية الأنصار قصة مدهشة، لقد كانت أرواح الأنصار تستبق لنيْل مقاعدها في الدرجات العلا من الجنة، لقد كان صدقُ إيمانهم يتسامى فوقَ ما يعلمُ الناسُ من صور الإيمان والبذل، تجدهم يتلاحقون شهداء لئلا يُنال حبيبهم ﷺ بسوء، وتبصر نساءهم يقاتلن كأشد الرجال قوة وبأسا، هذه أمُّ عمارة رضي الله عنها، تفري في أعداء الله بسيفها فرْيًا، حتى ضحك منها النبي ﷺ مما صنعت يومئذ، وجُرحَت ثلاثة عشر جرحا، فما بالك بما صنع رجال الأنصار؟! اللهم ارض عن الأنصار!

{وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلَتْ مِن قبله الرسُلُ أفإِينْ مات أو قُتِل انقلبْتم على أعقابكم ومَن ينقلبْ على عقبَيْه فلن يضُرَّ اللهَ شيئا وسيجزي اللهُ الشاكرين}

كان ذلك الخبر مزعجا إلى الغاية، لكنه من مَجالي الصبر واليقين، ومحبةِ الإسلام والتعلُّقِ به حقَّ التعلق، والعملِ للإسلام والثبات عليه، حتى لو قضى الله أن يموت نبي الإسلام أو يُقتل.

كان امتحانا أوليًّا لما يفعل المسلمون حين يغادرهم نبيُّهم إلى جنات الخلد، وتهيئةً لهم إلى يوم الفقد الكبير الذي سيتغير بعده وجهُ الحياة، أخذ بعض المسلمين مقاعدهم إياسًا وحزنا، فجاءهم أنس بن النضر رضي الله عنهم يصيح فيهم: فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه! ثم انطلق بجناحين من إيمان وشجاعة، فحلَّق بهما شهيدا سعيدا!

ولما تحققوا من حياته صلوات الله وسلامُه عليه، كانوا له سيفًا يقاتل به، ودرعًا حصينةً لا ينفذ إليه من خلالها أذى ولو يسيرا، فكانوا يقاتلون عنه أفرادا وجماعات، ويتلقون عنه الضربَ والطعن، ويحملونه على متن الجبل كيلا يُخلَص إليه بسوء، ويفْدونه بأرواحهم فداء المحبِّ الصادق لدينه ونبيه، في قصص تبكي لها القلوب، لم يشهد العالم لجمالها نظيرا.

وضعَتِ الحرب أوزارَها بعد يوم طويل مرهق، عرجَتْ فيه أرواحٌ كثيرة إلى مراتب الشهادة، وأصيب المسلمون في أبدانهم وأحبائهم، وكان للنبي ﷺ من ذلك حظٌّ ونصيب، لم يَخْلُ من جراحةٍ، وقد فقَدَ يومئذ رجلًا من أعزِّ الناس عليه، وأرسخِهم قدما في الإسلام وأعظمهم غَناء لأهله، فبكى بكاء مريرا موجعا، ويا لمرارة الفقد على ذلك القلب الصافي النقي!

نساءٌ فقدن أزواجَهن وإخوانَهن وأبناءهن، رجالٌ فقدوا نفرًا من أهليهم وأصحابهم، ومهما يكن فلذلك الفقد لوعةٌ وشرخٌ في النفوس لا ترتِقُه الأيام.

ولكن أين شموخُ الجبال من ثبات أولئك القوم؟ هذه امرأة أصيبت بزوجها وأخيها وابنها، ليس لها هَمٌّ إلا أن ترى النبي ﷺ حيًّا سليما، فلما رأته أشرقَتْ شمسُ الفرح في قلبها وأينَعَتْ زهرة السرور، وقالت له كلمةً خالدة لا تعدو عليها عوادي الزمان: “كلُّ مصيبةٍ بعدك جَلل”.. يا لهذا الحب الهائل الفاذ الذي لا مثيل له في دنيا العالمين!

وهذا أبو سفيان رضي الله عنه، ينادي في المسلمين بعد انفضاض غبار المعركة: أين محمد؟ أين أبو بكر؟ أين عمر؟ ثم يخيل إليه أنهم قُضيَ عليهم، فيُطمْئِن أصحابَه بذلك، فيصيح به عمر رضي الله عنه: قد أبقى الله لك ما يسوؤك..

يتداولان الكلام،

يصيح أبو سفيان: اُعْلُ هبل،

فيجيب عمر: الله أعلى وأجلُّ..

ينادي أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم،

فيجهر عمر بالحق المبين: بل الله مولانا ولا مولى لكم!

هذا هو الإسلام والاعتزاز به في حالٍ تنكسر لها النفوس وتتضعضع العزائم، لكن أرواح أولئك القوم كانت فوق ذلك، كانت سماويةً نقيةً تتنفس الدينَ وتحيا به، ولا يكسره في نفوسها حدثٌ دقَّ أو جلَّ.

وحين افترقَ الجمعانِ وخَمد الوطيسُ.. قام رسولُ الله ﷺ في أصحابه مقامًا جليلًا..

النبي العظيم، صاحبُ النفس الرضيَّة، يأمر أصحابه البررة الأوفياء، يقول لهم: “استووا حتى أثني على ربي”.. يقومون صفوفا خلفه، إنه سراجٌ منير، تستمد منه تلك المشاعلُ نورها وبهاءها.

إن رسولَ الله ﷺ قد خالط قلبَه الرضى عن ربه ﷻ في كل أحواله، والسرورُ به في كافة أطواره، لا يُسخطه قدرٌ مهما كان أليمًا، ولا يتبرم بقضاءٍ ولو كان فوق الاحتمال، إنه يسوِّي أصحابَه صفوفا ليثني على ربه، في موقفٍ تجد بعض الناس يسخط على ربه في ما هو دونه بما لا يقارن.

إنه الفرحُ بالله والأُنْسُ بهِ قد جرى من رسول الله صلوات الله وسلامُه عليه مجرى الدم، وملك عليه روحَه وقلبَه، وصار غذاء له ومتنفَّسًا، به يتحرك وبِسَريَانه في نفسه الشريفة يحيا، حتى يفيض على لسانه بِشْرًا ورِضًى، ويغمرَ جوانِحَهُ سرورًا ومحبَّةً، أكان رخاء أم أكانت مصيبة، في حال السراء وفي موقف الضراء.

ذاكُم هو سيدنا محمد،

رسولُ الله..

صلى الله عليه وسلم!.

Please follow and like us:
د. أنس الرهوان
طبيب، كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب