الأثنين مايو 20, 2024
بحوث ودراسات

د. أنس الرهوان يكتب: في أخبارِ الصحابةِ بالحبشةِ وما يتصلُ بها

بِاسْمِ اللهِ

في شهر رجبٍ سنةَ خمسٍ من مبعثِ رسول الله بالهدى ودينِ الحق، وقد رأى أنه في عافيةٍ ومنَعَةٍ من قومه باللهِ ﷻ ثم بعمِّ رسول الله أبي طالب بن عبد المطلب، وأن أصحابه رضوان الله عليهم يُبتَلَوْن ويُعذَّبون في دينهم، ولا يقدرُ على دفْعِ ذلك عنهم، أرشدهُم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، «فإن بها ملكًا لا يُظلَم عنده أحدٌ، وهي أرضُ صدقٍ، حتى يجعل اللهُ لكم فرَجًا مما أنتم فيه».

تلك الكلمةُ الشريفةُ كانت حافزًا لقومٍ من تلك الزمرة الكريمة، الذين كانت قلوبُهم مشارقَ الإسلامِ الأولى، حفَزَتْهم ليهاجروا بدينهم ويفِرُّوا من جَوْرِ قومِهم إلى حيثُ يأمنون على أنفسهم ويقيموا شعائرَ دينِهم، بلا مخافةٍ من أحدٍ ولا مضرَّةٍ تنالهم من كافرٍ باغٍ عليهم، فاحتقَبَ أولئك رحالَهم وامتطَوْا ظهر البسيطةِ متسلِّلين إلى “الشُّعيْبة” رجالًا ورُكبانا، واتفقَ لهم وجودُ سفينتين للتجار فحملوهم بنصفِ دينارٍ، وحاولَتْ قريشٌ إدراكَهم فلم يُفلحوا.

خرجَ عثمان بن عفان وامرأتُه رقيةُ بنت رسول الله ، وقد روي عن رسول الله : «إن عثمانَ لَأولُ مَن هاجَرَ بأهله بعد لوطٍ»!، وقيل: إن أبا سلَمة بن عبد الأسدِ أولُ المهاجرين إلى الحبشة ومعه امرأتُه أم سلمة، وخرج عامر بن ربيعة وامرأتُه ليلى بنت أبي حثمة، وكانا يتهيآن للخروج، فمَرَّ عُمرُ بن الخطاب بليلى -وهي من قومه- وهي متجهزةٌ للخروج فسألها، فقالت: آذيتمونا في ديننا فنذهبُ في أرض الله حيث لا نؤذَى، فقال عمر: صحبَكُم الله، فلما جاء عامر أخبرَتْه ليلى بما رأت من رقة عمر، فقال لها من شدة إياسهِ من إسلام عمَرَ: ترجِّين أن يسلم؟ واللهِ لا يسلم حتى يسلمَ حمارُ الخطَّابِ!

كان عمر رجلا من أهل السفارة في قريش، وكان جَسورًا ذا شكيمةٍ وبأس، وكان شديدًا على أهل الإسلامِ أولَ أمرِه، فكأنَّ تلك الرقةَ التي برقَتْ في فؤادِه ساعتئذٍ كانت بادرةً لأنْ يُصبِحَ عمَرُ شعارًا للرحمة والعدلِ فيما بعد، وأن يقترنَ اسمُه بالرشد والخير حيثُ ذُكرَ، لقد أسلَمَ عُمَر يا عامرُ، وبلغ في إسلامِه شأوًا بعيدًا لم يسبِقْه إليه مَن أكرمهم اللهُ ﷻ بالإسلام قبلَه سوى أبي بكرٍ الصدِّيق، ولا أدركَهُ أحدٌ ممن جاءَ بعده!.

كانت عدةُ مَن خرجوا إلى الحبشة في تلك المرة: عشرة رجال أو اثني عشر، وامرأتينِ إلى خمسِ نسوة، مختلَفٌ في ذلك.

وفي غيْبتهم تلك، حدثَ بمكةَ حدثٌ مهمٌّ استطالَ أثرُ خبرِه حتى بلغ أرضَ الحبشة، كان رسولُ الله يقرأ سورةَ النجمِ، فلما بلغَ السجدةَ سجد، فسجَدَ المسلمونَ لسجوده، وهوى المشركون سُجَّدًا، وأخذَ الوليدُ بنُ المغيرةِ ملءَ كفه ترابًا وسجد عليه!، فكانت صورةُ الخبر التي طارت إلى مهاجِرَة الحبشة: أن قريشًا أسلموا واتبعوا محمدا ، فعاد المهاجرون إلى مكةَ، فلما كانوا قريبًا منها، لقُوا رَكْبًا فسألوهم عن قريش، فأخبروهم أنهم عادوا لرسول الله بالشرِّ بعد تلك الحادثة، فهَمَّ القومُ بالرجوع إلى الحبشة، ثم رأوا أن يدخلوا مكة لينظروا ما كان فيها، ويجدِّدَ بأهلهِ العهدَ مَن أراد ذلك، ثم يرجعوا.

كانت إقامتهم في الحبشة ما بين شهر رجب وشوال من سنة خمسٍ من البعثة، ودخَلَ مكةَ منهم مَن دخلَ إما مستخفيًا وإما في جوارِ شريفٍ من أشراف مكة، ومكث عبدُ الله بن مسعودٍ يسيرًا ثم عاد إلى الحبشة، وكان عثمان بن مظعونٍ دخل في جوار الوليد بن المغيرة، فلمَّا رأى أصحابَه وما يلقون من قريش، أَنِفَ أن يكون في منَعَةٍ رجلٍ مشركٍ وإخوانُه يؤذَوْن في دينهم، فذهبَ إلى الوليدِ يرُدُّ عليه جوارَه، مكتفيًا بجوار الله ﷻ.

وكان أبو سلمةَ بن عبد الأسد المخزوميُّ دخلَ في جوار خالِه أبي طالب بن عبد المطلب، فكلمَتْهُ بنو مخزوم يريدونه أن يكتفيَ بجوار ابن أخيه محمد ، ويدَعَ جوارَ ابنَ أخته -أبو سلمة-، فاعترضَهم أبو لهبٍ بن عبد المطلب، وهدَّدهم إن لم ينتهوا عن أبي طالبٍ أنه سيقومُ معه في كل مقامٍ حتى يبلغَ مرادَه، فرَجَا أبو طالبٍ عند ذلك أن يقومَ أبو لهبٍ في نصرة رسول الله ، وقال شعرًا يحضِّضُه فيه على النصرة، ولكن هيهات، جفَّ القلمُ بما كان!

ثم كانت هجرةٌ ثانيةٌ إلى الحبشةِ، خرجَ فيها من أصحابِ رسول الله ثلاثةٌ وثمانون رجلًا، وثمانِ عشرةَ امرأةٍ، وذلك لأن الأذى اشتدَّ عليهم، وعلى مَن عادوا من الهجرة الأولى خاصةً، فكانوا في خيرِ جوارٍ عند النجاشي، آمنين على دينهم يعبدون اللهَ كما شاؤوا، لا يسمعون شيئا يكرهونه ولا ينالُهم سوء من أحد، فساءَ ذلك قريشًا، فأْتَمَروا أن يبعثوا إلى النجاشي رجلَيْن بهدايَا من متاع مكة، فبعثوا إليه عمْرَو بنَ العاصي وعمارةَ بن الوليد بن المغيرة بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته، وأمروهما أن يدفعا إلى البطارقة هداياهم، ثم إلى النجاشي بهدِيَّته، ثم يسألَا النجاشيَّ أن يُسْلِم المسلمين إليهما قبل أن يكلمهم.

فدخل عمْرٌو وعمارةُ على النجاشيِّ وأخبراه خبَرَ المسلمين وأنهم فارقوا دينَ قومهم ولم يدخلوا في دينِه، وطلبَا منه أن يسلمهم إليهما، ولم يكن شيءٌ أبغضَ إلى عمرو وعمارة: من أن يسمع النجاشيُّ كلامَ المسلمينَ، وأيَّدَ البطارقةُ عمْرًا وعمارةَ، فأبى النجاشيُّ أن يُسْلمَ أحدًا من المسلمين إليهما قبلَ أن يسمعَ كلامَهم، وأرسلَ إلى الصحابة يدعوهم، فتشاوروا في ما يقولون للنجاشي إذا سألهم، ثم اتفقوا على أن يصدعوا بالحقِّ كائنًا في ذلك ما كان، وكان خطيبهم جعفر بن أبي طالبٍ، فلما دخل على الملكِ سلَّمَ ولم يسجد له، فقالوا لجعفر: مالك لا تسجد للملك؟ فقال: إنا لا نسجدُ إلا لله!

فسأله الملك عن دينهم الذي فارقوا به دينَ قومِهم وسائر المِلَل، فخطَبَ جعفرُ خطبةً سامقةَ البيانِ، رفيعةَ البنيانِ، منوَّرَةَ العبارة، عظيمةَ البلاغة، ذكَرَ فيها حالَهم في الجاهليةِ من عبادة الأصنام وإتيان المحرمات والفواحش، ثم ما كان من مبعثِ النبي الذي يعرفون نسبَه وصدقَهُ وأمانتهُ، وما دعاهم إليه من شرائعِ الإسلامِ ومكارمِ الأخلاقِ وفضائل الأعمال، وما نهاهم عنه من الشرك والفواحش والمحرمات، فآمنوا به واتبعوا ما جاء به من عند الله ﷻ، فعَدا عليهم قومُهم يعذبونهم ليفتنوهم عن دينهم، فلمَّا ظلموهم وضيقوا عليهم وحالوا بينهم وبين دينهم، خرجوا إلى بلادِه يلتمسون الأمنَ والعدلَ واختاروهُ على مَن سواهُ بإرشادِ رسولِ الله لهم.

فسألهُ إن كان معهم شيءٌ مما جاء به النبي ، فقرأ عليه جعفرُ صدْرًا من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى ابتلَّتْ لحيتُه، وبكى بطارقتُه، وحلَف أن هذا الكلامَ وما جاءَ به موسى عليه السلام يخرجان من مشكاة واحدة!، ورَدَّ عَمْرًا وعمارةَ عنهم، فتوعَّدَ عمرٌو أن يخبرَ النجاشيَّ غدا بما يستأصل به خضراءَ المسلمين: أنهم يزعمون أن عيسى عليه السلامُ عبدٌ!

ثم أصبح فأخبرَ النجاشيَّ بما يريد، فاستدعى النجاشيُّ الصحابةَ يريدُ لِيسألَهم عن قولهم في عيسى بن مريم، فنزَل بالمسلمين همٌّ عظيم، ثم أجمَعوا رأيَهم على أن يقولوا في ذلك بالحق كائنا ما كان، فلما دخلوا عليه سألهم عن ذلك، فقال جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبيُّنا، نقول: هو عبد الله ورسولُه وروحُه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ، فأخذ النجاشيُّ عودا من الأرض وقال: ما عدا عيسى بنَ مريمَ ما قلتَ هذا العود! فنخَرَت بطارقتُه فلم يعبأ بهم، وأرسلَ المسلمينَ في أرضِه آمنين ينزلون حيث شاؤوا، وأَوْعَدَ مَن تعرَّضَ لأحدٍ منهم بكلمةٍ فما فوقَها، فعاشوا في خيرِ كنَفٍ وآمَنِ جوارٍ، ورجعَ عمرٌو وعُمارَةُ مردودًا عليهما ما جاءا به.

وخرجَتِ الحبشةُ على النجاشيِّ يرونَ أنه فارَق دينهم، فأرسل إلى جعفر وأصحابه وجهَّز لهم سفُنًا يركبونها، وأمرَهم أن ينتظروا فإذا هُزم النجاشيُّ خرجوا فلحقوا بأيِّ بلدٍ شاؤوا، وإذا ظفِر ثَبَتوا في الحبشة، وأخذ كتابًا فكتَبَ فيه شهادةَ الإيمان والحق، وخبَّأَه في ثوبِه، ثم خرج إلى الناس فسألهم عن أمرهم، فأخبروه بما أنكروا عليه من مفارقتِه ما يعتقدون في عيسى بن مريم، وقالوا: هو ابنُ الله، فوَضَع النجاشيُّ يدَه على موضِع الكتاب من ثيابه، وقال لهم: «أنا أشهدُ أن عيسى بن مريم لم يزِدْ على هذا»، وهو يقصدُ أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يزد على ما في الكتابِ الذي في ثوبه، لكنهم فهِموا أنه يعني: «لم يزد عيسى بن مريم على ما قلتُم شيئا»، فرَضوا بقولِه وانصرفوا عنه!

وأقامَ المسلمون في الحبشةِ ما أقاموا سالمينَ معافَيْن، حتى خرج على النجاشيِّ رجلٌ من الحبشةِ ينازعُه المُلكَ، فحزِن المسلمون حزنًا شديدًا، تخوُّفًا أن ينتصر ذلك الرجلُ على النجاشي، ثم يتولى الملكَ فلا يعاملُهم معاملةَ النجاشيِّ لهم، وكان بين المسلمين وبين موضعِ النزاعِ بين النجاشي وخصمِه عَرْضُ النيل، فأرسلوا الزبيرَ بن العوام – وكان من أحدَثِهم سنًّا- ليَعرِفَ لهم الخبرَ ويأتيهم به، فنفخوا له قربةً فجعَلَها في صدره ثم قطعَ النهر سباحةً حتى حضَرَ الوَقْعة، والمسلمون يدعون للنجاشي بالظَفَر على عدوه، حتى عاد إليهم الزبير بالبشرى أن النجاشيَّ ظهَرَ على عدوِّه، فانقلبَ حزنُهم إلى غايةِ الفرحِ والسرورِ!.

أقام المسلمون هنالِك في خيرِ منزلٍ وأوطَأِ كنَفٍ، وتعجَّلَ عبدُ الله بن مسعودٍ راجعًا إلى مكة، فلما سمعوا بهجرةِ النبيِّ إلى المدينة، رجع منهم ثلاثةٌ وثلاثون رجلًا ونسوةٌ ثمانٍ، مات رجلان منهم بمكةِ، وشهِدَا بدرًا أربعةٌ وعشرون، ومات بعضهم بالحبشة، أو في الطريق رجوعًا منها إلى مكة.

وقد فصَّلَ أهلُ السيَرِ والأخبارِ أسماءَ مهاجِرَة الحبشة تفصيلًا لا مزيدَ عليه، وقد كان في مهاجِرَة الحبشة: أبو موسى الأشعري، واضطربَ قولُهم فيه، لأنه جاءت عنه أحاديثُ تبيِّنُ أنه كان بمكةَ وهاجَر منها إلى الحبشة، وجاء عنه أيضا ما يدل على أنه خرَج من اليمنِ في طائفةٍ من قومه يريدُون رسولَ الله بالمدينة، فركبوا سفينةً فهاجَتِ الريحُ فألقَتْهم السفينةُ بالحبشة، فأقاموا هنالك حتى قدموا مع جعفر بن أبي طالب أيامَ فتْحِ خيبر، وجَمَع الإمامُ الصالحيُّ رحمه الله بين الأخبار جمْعًا لطيفا، فاحتمَلَ أن يكون أبو موسى خرج إلى مكةَ أولا وأسلمَ واتبعَ النبي ، ثم خرج إلى بلادِ قومِه حين خرج المسلمون إلى الحبشة، فلما تحقَّقوا استقرارَ النبيِّ بالمدينة هاجَرَ أبو موسى وقومُه إلى المدينة، فألقتهم سفينتهم بالحبشة، فأقاموا فيها حتى لحقوا بالنبي أيامَ فتح خيبر، والله أعلم.

وأراد أبو بكرٍ الصدِّيقُ أن يهاجرَ إلى الحبشة فرارًا بدينِه إلى الله ﷻ، أبو بكرٍ الذي كان مألفًا لقومِه، يحبونه ويغْشَونَ منه مجلسًا ملؤُهُ العلْمُ والكرمُ والفضلُ وحسنُ المجالسةِ، تنكَّروا له وتبدَّلَتْ نفوسُهم تجاهه، فخرجَ ومعه رجلٌ من رهطه يقال له: الحارثُ بن خالد، فلقيَه ابنُ الدُّغنَّة-وهو سيِّدٌ من ساداتِ قومِه-، فسأله عن مخرجه، فأجابه أبو بكر، فعجِبَ الرجلُ وقال: مثلك لا يَخرجُ ولا يُخرَج، ثم وصَفَ الرجلُ أبا بكرٍ كما وَصَفَتْ خديجةُ رسولَ الله حرفًا بحرفٍ: «إنك تَكسِبُ المعدومَ، وتَصِلُ الرحِمَ، وتحمِل الكَلَّ، وتَقري الضيفَ، وتُعين على نوائب الحق»! وهذه الكلمةُ تكفيكَ في بيان حالِ الصدِّيق الأكبر واشتهارِ أمرِه بين الناس في جاهليةِ الناس، وتَقِفُك على سرٍّ مِن أسرارِ الحقِّ ﷻ في اصطفائه لمَن يكونُ خليلَ رسولِه وأخَصَّ خلقِ الله به: تشابُه سيرتِهما في أيامِ جاهليةِ الناسِ إلى حدٍّ قريبٍ من المطابَقة!، ثم رجع أبو بكرٍ إلى مكة في جوار ابن الدغنة، واستكمَلَ رفيقُه الحارث بن خالد هجرَتَه إلى الحبشة.

لم تنقطع الآصرةُ بين المسلمين بالحبشة وبين إخوانهم بمكة، وكانت الوشائج ممتدةً بين البلدتين: تَحنانًا واشتياقا بين أهليهما، وأحداثًا تبلغُ أخبارُها مبلغَها، كان أبو طالب بن عبد المطلبِ لسانًا للمسلمين بمكة: شعرًا ونهضةً في الحق، مع أنه لم يكن على ملَّتهم! وكان يعرِضُ له ذكْرُ مهاجِرَة الحبشة، وفيهم ابنُه جعفر، فيأخذُه الشجى وينفُثُ مكنونَ صدرِه شعرا، يقول مثلا:

ألا ليت شعري كيف في النأْيِ جعفرٌ

وعمرٌو وأعداءُ النبيِّ الأقاربُ

فهَلَ نالَ أفعالُ النجاشيِّ جعفرًا

وأصحابَهُ أو عاقَ ذلك شاغِبُ!

ولمَّا انتقَضَت صحيفةُ قريشٍ الظالمةُ، التي كتبوها في مقاطعة رسول الله وأصحابه، قال أبو طالبٍ شعرًا مطلعُه:

ألا هلْ أتى بَحْرِيَّنَا صنعُ ربِّنا

على نَأْيِهِم واللهُ بالناسِ أرْوَدُ

فيخْبرَهم أن الصحيفةَ مُزِّقَتْ

وأنْ كلُّ ما لمْ يرضَهُ اللهُ مفسَدُ

ومعنى قوله “بحرينا”: مهاجرو الحبشة الذين ركبوا البحرَ إليها!

وقد مات بالحبشة طائفةٌ من المهاجرين، مات بها حاطبُ وحطَّاب، ابنَا الحارث بن معمر الجُمَحيَّان، وخالدُ بن حزام بن خويلد القرشي الأسدي -على قولٍ-، والسكران بن عمرو العامري -على قول-، وعُبيْد الله بن جحش الأسدي -من بني أسد بن خزيمة-، وقد ذكروا أنه تنصَّرَ بالحبشة، وكانت تحته أمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيان، فبَانَت منه برِدَّتِه، وكان يعيِّرُ المسلمينَ بدينهم، وهلَك على النصرانية! وبعضُ أهل العلم يرُدُّ هذه القصةَ، والله أعلم.. ومات بها أيضا عديُّ بن نضلة العدوي، وهو أوَّلُ مَن وُرِّثَ في الإسلام، ورِثَه ابنُه النعمان بن عدي، ومات بها عمرو بن أمية الأسدي، وحرَيْمَلةُ بنت عبد الأسود الخزاعية.

وقد وُلِد لبعض المسلمين بالحبشة، وكان عبدُ الله بن جعفر بن أبي طالبٍ أولَ مولودٍ للمسلمين بها، ووُلِد بها أيضا أخوَاه عون ومحمد، وسعيدُ وأَمَةُ ابنَا خالد بن سعيد بن العاصي، وعبد الله بن المطلب السهمي، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة العبشمي، ومحمد والحارث ابنَا حاطب الجمحي، وقد ذكَر محمد بن حاطبٍ أنه وَلِد في السفينة التي خرجوا فيها إلى النجاشي.

ووُلِدَ بها أيضا: موسى وعائشةُ وزينبُ وفاطمةُ، أبناءُ الحارث بن خالد بن صخر، الذي كان رفيقًا لأبي بكر الصديق حين خرج يريد الحبشةَ، وأمُّهم: ريطةُ بنت الحارث، وهي من بني عمومةِ زوجها، وقد كان خرَج بهم عائدا من الحبشة إلى مكة، فشرِبوا ماءً بالطريق، فهلَكوا جميعًا: ريطة وأبناؤها، ونجا زوجها الحارثُ وابنتها فاطمةُ!

وقد اكتَنَّ التاريخُ عامَّةَ أخبار المسلمين حين كانوا بالحبشة فلم يصِلْنا منها إلا نُبَذٌ يسيرةٌ، فمن ذلك أن رقية بنت رسول الله كانت مهاجِرَةً في صحبة زوجها عثمان بن عفان، وكانت بارعة الجمال، وكان فتيانٌ من الحبشةِ يَعرَضُون لها وينظرون إليها، يعجَبون من حُسنِها وجمالها، فآذاها ذلك، فدَعَت عليهم فهَلَكوا جميعا!

ومِن ذلك أن رسولَ الله بعثَ عمْرًا بنَ أمية الضمري إلى النجاشي بكتابَيْنِ: كتابٌ يدعوه فيه إلى الإسلام، فكتبَ النجاشيُّ إلى رسول الله يخبره أنه استجابَ لدعوة الحق وأنه أكْرَمَ جعفرا وأصحابَه، والكتاب الثاني يأمرُه أن يزوِّجَ أمَّ حبيبةَ بنتَ أبي سفيان من رسولِ الله ، وكانت عند عبيد الله بن جحش فهَلَك عنها كما مرَّ آنفاً، فأرسلَ النجاشيُّ إليها جاريةً تخبرها بذلك، فأعطتها حُليًّا كانت عليها سرورًا بتلك البشارة الكريمة، وأمرها أن توكِّلَ مَن يزوجها، فوكَّلَت خالدَ بنَ سعيد بن العاصي، وأصْدَقَها النجاشيُّ عن رسول الله أربعَ مئة دينار، ودعا أصحابَ رسول الله إلى زواجها الميمون.

وكان رجوعُ المسلمين من الحبشةِ في أوقاتٍ شتى، فقِسْمٌ مِنهم عادوا إلى مكة قبل هجرة النبي منها، وقسمٌ أدركوه بالمدينة وشهِدوا معه من المغازي ما شهدوا: بدرًا وما بعدها إلى غزاة خيبر، ومِن هؤلاء: عبدُ الله بن مسعود، وقد كان له بعد رجوعه قصةٌ طريفة، فقد كان الكلامُ في الصلاةِ مباحًا قبلَ هجرتِه إلى الحبشة، فلما هاجر ثم عاد، سلَّمَ على النبيِّ وهو يصلي، فلم يرُدَّ عليه السلام، فأخَذَهُ ما قرُبَ وما بَعُدَ، فلما قضى النبيُّ الصلاةَ أخبرَه أن الكلام في الصلاةِ قد مُنِعَ!

وبقيَ طائفةٌ بالحبشةِ، رئيسُهم جعفر بن أبي طالب، ومعَه أبو موسى الأشعريُّ ورفقَتُه الذين خرجوا معه من اليمن، فلبثوا هنالكَ حتى أرسل النبيُّ إلى النجاشي أن يبعثَ بهم إلى المدينة، فوافَوْا رسولَ الله وقد افتتَحَ خيبرَ سنة سبعٍ من هجرته المباركة، وقسَم لهم من غنائمها، ولم يقسِم لأحدٍ ممن لم يشهَد حروبَ خيبر سوى هؤلاء المهاجرين.

وكان النبيُّ في غايةٍ من الفرحِ والسرورِ بمقدمِ جعفر بن أبي طالب، فقد قام إليه وعانَقَه وقَبَّل ما بين عينيه، وقال: «ما أدري بأيِّهما أنا أسَرُّ: بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر!»، فلكَ أن تصَوِّرَ لنفسك فرحةَ رسول الله بابنِ عمه، وكيف كانت تعدل في نفسِه فرحةَ فتحٍ من أعظم فتوح الإسلام في عهد النبوة المبارك!

وكان فيمن رجع من الحبشة مع جعفر: خالد بن سعيد، ومعه ابناه: سعيد وأَمَة، ويقال لها: أمُّ خالد، وكان رسول الله كَسَى أمَّ خالدٍ هذه خميصةً حسنة، ودعا لها فقال: «أبْلِي وأخْلِقِي»، يدعو لها بطول العمر، وجعل يشير إلى الخميصة بيَده ويقول: «هذا سنا يا أمَّ خالد، هذا سنا يا أمَّ خالد»، يلاطفها بذلك، والسنا: الحسَنُ في لسان أهل الحبشةِ، الذين كبِرَت الفتاةُ في بلادهم ونشأتْ بينهم!

وقد سألَ رسولُ اللهِ مهاجِرَة الحبشة أن يحدِّثوه بأعاجيبِ ما رأوا في الحبشة، فأخبرَه فتيةٌ منهم أن عجوزًا من الحبشةِ مرَّت وهُم جلوسٌ، وعلى رأسها قُلَّةٌ من ماء، فدفعها أحد الفتيةِ بين كتفَيْها فوقَعَت على ركبتَيْها، وانكسرَت القُلَّة، فالتفتَتْ إليه وقالت: «سوف تعلم يا غُدَرُ، إذا وضعَ اللهُ الكرسيَّ، وجمَعَ الأولين والآخرين، وتكلَّمَت الأيدي والأرجلُ بما كانوا يكسبون، فسوف تعلمُ كيف أمري وأمرُك عنده غدًا»، فقال النبي : «صدقَتْ صدقَتْ، كيف يقدِّسُ اللهُ أمةً لا يؤخَذُ لضعيفهم من شديدهم؟!»

وكان المسلمون يستحضرون شيئا من ذكرياتهم بالحبشة في سياقاتٍ شتى، فقد ذكَرَت أمُّ سلَمة وأمُّ حبيبةَ لرسول الله كنيسةً رأَتاها بالحبشة فيها تصاوير، فشَنَّعَ رسولُ الله أمرَ أولئك القوم، ووصَفَهم بأنهم شرارُ الخلق عند الله يوم القيامة.

وذُكِرَ أنَّ فاطمة الزهراء لمَّا كانت في مرض الموت، ذكَرَت لأسماء بنت عميسٍ أنه تستقبِحُ ما يُصنَع بالنساء بعد موتهن، وأنه يُطرَحُ على المرأةِ الثوبُ فيَصِفُ جسدها، فأرشدَتْها أسماءُ إلى النعش، وكانت رأتْه في الحبشة، فاستحسَنَتْ فاطمةُ ذلك، وهذه القصةُ تُضَعَّفُ، إلا أني لم أرَ أن يخلوَ الحديثُ من ذكرها.

ولما عادَ مهاجِرَة الحبشةِ إلى المدينة، كان ناسٌ من الصحابة يقولون لهم: سبقناكم بالهجرة، ودخلَ عمر بن الخطابِ على ابنتِه حفصة، وعندها أسماءُ بنت عميس، إحدى المهاجرات إلى الحبشة، فسأل عنها، فقالت حفصة: أسماء بنت عميس، فقال عمر: الحبشيةُ هذه؟ البحريَّةُ هذه؟ قالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقُّ برسول الله منكم، فغضِبَتْ أسماء وقالت: كلا والله! كنتم مع رسول الله يُطعِم جائعَكم، ويعِظُ جاهلَكم، وكنا في دار البُعَداء البُغَضَاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله ، ثم أقسَمَت ألا تذوق طعاما أو شرابًا حتى تخبِرَ النبيَّ بما قال عمرُ وما قالت له، فلما جاء النبيُّ ، أخبرَتْهُ الخبرَ، فقال : “ليس بأحقَّ بي منكم، وله ولأصحابه هجرةٌ واحدةٌ، ولكم أنتم أهلَ السفينة هجرتان”، فكان أصحابُ السفينةُ يأتونها تباعًا، يسألونها عن هذا الحديث، وليس في نفوسهم شيء من الدنيا هُم أعظَمُ فرَحًا به من تلك الجائزة النبوية الرفيعة!

وقد كان النجاشيُّ ذُخرًا لشيءٍ من أمرِ الحق ﷻ، أدَّى ما أقامهُ الله فيه، من سياسةِ الحبشةِ ومُلْكهم، واستضافةِ جعفرٍ وأصحابه وإكرامهم والحفايةِ بهم، واتباع الهدى ودين الحقِّ الذي بعثَ اللهُ به نبيَّه ، ثم قضى اللهُ أنَّ لكلِّ أجلٍ كتابًا، ونزلَ بالنجاشيِّ الموتُ وحضرَه الأجلُ، وقد خلَتْ أرضُه من مشاعلِ النورِ التي كانت تضيءُ جنباتِها، إذ غادرَه أصحابُ رسولِ الله إلى طيْبة الغراء، فمات رحمة الله عليه ورضوانه على الإيمان والحق، ولم يكن عندَه مَن يقاسمُه دينَه ويشركُه في ملَّته، لكن الله أكرمَه بكرامته، ومَدَّ آصرةً من الخير والحق بين رسول الله وبينه.

نَعم لم يحْظَ بشرف لقياه، ولكن كانت آثارُه مشرِقَة الأنوارِ في قلب النجاشي، وكانَ أصحابُه عامرِي بلاده، ثم تكفَّلَ اللهُ بنعْيِهِ على لسان رسوله ، بلاغًا من جبرائيل عليه الصلاة والسلام، فنعاه رسول الله إلى أصحابه، وأمرَهم أن يصلُّوا عليه، ولم يُصَلِّ رسول الله على غائبٍ غيره، ولا على رجلٍ أبعدَ أرضًا منه، وأدركَتْهُ رحمةٌ من الله ﷻ لم تكن خاطرةً على باله، إذ كان الدعاء الذي يرتفع إلى السماءِ مستغفرًا له، مصلِّيًا عليه، داعيًا له بما دعا= هو دعاءُ النبيِّ وأصحابه البررة، وطُوِيَتْ صحيفةُ الحبشةِ في عهد النبوَّةَ بيضاءَ نقيَّة، يتداولُها الناسُ مضربَ مثلٍ في الخير والعدل وحُسن الجوار، فطوبى للنجاشيِّ ثم طوبى، ورحمة الله عليه ورضوانه!.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا وقرة أعيننا وبهجة قلوبنا محمد، ورضي عن أصحابه الأطهار الأبرار الأخيار.

Please follow and like us:
د. أنس الرهوان
طبيب، كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب