الأثنين مايو 20, 2024
بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: {إن ينصرْكم الله فلا غالب لكم}

تُمثِّلُ مصر امتداداً طبيعياً للشَّام التي فتحها المُسلمون في العام الخامس عشر للهجرة، وقد بدأت رحلة فتح مصر باقتراح من الصحابيّ عمرو بن العاص على الخليفة عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما بِهدف حماية ظهر المُسلمين من هجمات الروم الذين انسحبوا من الشَّام إلى مصر وتمركزوا فيها، فوافق عمر وتمَّ  الفتح في عام 21 للهجرة، وبذلك صدقت نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم وبشارته لأصحابه، فقد كان قال لهم {إنكم ستفتحون مصر،… فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة وَرَحِماً…} رواه الحاكم وصححه الذهبي، وفي رواية {… فاستوصوا بهم خيراً فإنهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله} رواه أبو يعلى، وسبق ان بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المُقوقس عامل الروم على مصر كتاباً يدعُوه فيه إلى الإسلام فكان رده حكيماً.

     انطلق عمرو بن العاص في العام الثامن عشر للهجرة النبوية بأربعة آلاف مقاتل، وصل الجيش الإسلامي إلى العريش فوجدها خالية من القُوَّات الرومانية فدخلها، ثم بلغ بلبيس فحاصرها وقاتل حاميتها الروميَّة شهراً فدخلها، ثم سار إلى أُم دنين التي تعتبر ميناء قلب مصر، فحشد المقوقس جيشاً استعداداً للقتال، وبدأت المناوشات بين الجيشين فشعر عمرو بالحاجة إلى مزيد من الجنود فكتب إلى الخليفة يستحثُّه لإرسال إمدادات على وجه السُرعة. وصلت طلائع الإمدادات وعددهم أربعة آلاف بِقيادة الزُبير بن العوَّام رضي الله عنه، قويت عزيمةُ المُسلمين فشدَّدوا الحصار على أم دنين وهزموا حاميتها الرومية، ثم توجه الجيش نحو الفيُّوم فوجد حاميتها مُتأهبةً وفي طليعتها يوحنَّا فتغلَّب عليه وقتله،

     كان الهدف التالي فتح حصن بابليون، وهو من أقوى الحُصون بعد الإسكندريَّة، فأسواره منيعة مبنية بالطوب والحجر، وعرض جُدرانه أكثر من ثمانية أقدام وارتفاعها ستون قدماً، وأبراجه مُرتفعة ومُحاطٌ بالخنادق وبالنيل، وكان عددٌ من حُكَّام الروم من ضمن المُتحصنين فيه بعد هروبهم من المدن والحصون التي فتحها المسلمون، فلما علم الحكام بِقُدوم المُسلمين سارعوا بالهروب منه إلى الإسكندريَّة، وتركوا مهمة الدفاع عنه لحامية بقيادة المقوقس، تراشق الطرفان وأدرك المُقوقس أنَّ المُسلمين سيفتحون الحصن لا محالة، فحاول مفاوضتهم على الهدنة ثم الصلح لكن أركان حربه رفضوا ذلك، فلما رأوْا بأس المسلمين في القتال وافقوا مكرهين، وخلال الهدنة المؤقتة كتب المقوقس إلى هرقل لأخذ موافقته على الصلح فلم يقتنع واتَّهمهُ بالتقصير والخيانة ونفاهُ بعد أن شهَّر به، فانتهت الهدنة واستأنف الطرفان القتال.

     عسكر عمرو بن العاص بجيشه في عين شمس ووضع خطَّة تقوم على استفزاز الرومان واستدراجهم للخروج من حصن بابليون لِيُقاتلهم خارج الأسوار. وبهدف الإطباق عليهم فَصَلَ عمروٌ فرقتين من جيشه كل فرقة فيها خمسمائة مُقاتل، وأرسل إحداهُما إلى أُم دنين والأُخرى إلى مغار بني وائل (قرب العباسية حالياً). وسار هو من عين شمس باتجاه القوات الرومانية المتقدمة، فلما الْتقى الجيشان واحتدم القتال بينهما خرج أفراد كمين المغار فاجتاحوا مُؤخرة جيش العدو التي فُوجئ جنودها وأُخِذًوا على حين غرَّة، فوقعوا بين فكيّ الكمَّاشة وأصابهم الفزع ودبَّت الفوضى فيهم فحاولوا الفرار نحو أُم دنين، وهناك أطبق عليهم أفراد الكمين المختبئ فيها فأصبحوا بين ثلاثة جُيوش فانحلَّ نظامهم ولاذوا بالفرار، فأصبح الظرف مناسباً لهجوم المسلمين؛ وبالأخص أن خبر وفاة هرقل وصلهم وهُم على هذه الحال فتراجعت قدرتهم القتالية وانهارت معنوياتهم، فشدد المُسلمون الحصار عليهم، واعتلى الزُبير مع بعض الجنود السور وكبَّروا، فظن الروم أن المسلمين اقتحموه فهربوا منه، فنزل الزُبير وفتح باب الحصن للجيش الإسلامي فدخلوه في ربيع الأول من العام العشرين للهجرة.

     كان سقوط حصن بابليون بِمثابة انهيار خط الدفاع الأول عن مصر، فهذا الموقع العسكري الحصين حشد فيه الروم أعظم طاقاتهم العسكرية، فأصبح طريق جيش عمرو بن العاص إلى الإسكندرية مفتوحاً، وهذا ما كان بالفعل؛ فقد طلب عمرو من الخليفة عمر أن يأذن لهُ بالزحف نحو الإسكندرية لفتحها وضمها إلى الأراضي الإسلامية، وهي في نظره خطوة لا بد منها لاستكمال فتح مصر، فلما تسلم الإذن من الخليفة زحف نحوها.

     تأتي أهمية الإسكندرية أنها كانت ثاني حواضر الإمبراطورية بعد القسطنطينية، وهي أول مدينة تجارية في العالم، وأدرك الرومان أن سقوطها في أيدي المسلمين من شأنه أن يؤدي إلى زوال سلطانهم عن مصر، عبر الإمبراطور الروماني الجديد عن ذلك بِقوله [لَئِن ظَفَرَ العرب بالإسكندرية فقد هلك الروم وانقطع ملكهم، فليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية] لذا فقد سارع الروم بِإرسال المُقوقس إليها (بعد عودته من النفي واستعادة مكانته) على رأس قوة عسكرية فوصلها في شهر شوال من العام العشرين للهجرة وفي نيته الصلح مع المسلمين بِسبب عجزه عن مواجهتهم، لكن أركان حربه رفضوا الصلح وأصروا على القتال.

     أما عمرو بن العاص فكان قد غادر حصن بابليون إلى الإسكندرية في شهر جمادى الأولى، وخلال زحفه لم يلق أية مقاومة تذكر إلا في مناطق قليلة كان بعضها شديداً حتى أنه صلى يوماً بجيشه صلاة الخوف لكن تحقق له فيها النصر، وفور وصوله الإسكندرية واطّلاعه على وضعها الميداني أدرك أنها مدينةً منيعة حصينة، إذ يحيطُ بها سوران مُحكمان وحولها خندق يُملأُ بماء البحر لمنع اجتيازها، ولها عدة أبراج فوقها مجانيق وتتألف أبوابها من ثلاث طبقات من الحديد، وعدد جنود حاميتها خمسون ألف جندي والبحر من ناحيتها الشمالية، وهو تحت سيطرة الأُسطول الروماني الذي كان يمدها بالمؤن والرجال والعتاد، ومع ذلك لم ييأس عمرو بن العاص ووضع خطة عسكرية ضمنت له النصر وتتمثل في تشديد الحصار على المدينة حتى يتضايق المدافعون عنها ويدب اليأس في نفوسهم بهدف استدراجهم للخروج من تحصيناتهم، وبالفعل فقد خرجوا بعد أكثر من شهرين فانتصر عليهم عمرو وجنوده.

     وفي هذه الأثناء كان عمر بن الخطاب في المدينة ينتظر أنباء اكتمال فتح مصر على أحرّ من الجمر، ولكن نبأ الفتح أبطأ عنه عدة أشهر، فبدأ يبحث عن السبب وراء ذلك وبالأخص أنه أرسل المدد الكافي للفتح، فخشي أن تكون خيرات مصر قد أغرت جند المسلمين فتخاذلوا، وعبر عن هذه المخاوف بقوله لأصحابه من حوله [ما أبطأوا بفتحها إلا لِمَا أحدثوا] أي بما أحدثوا من الذنوب أو التعلّق بالدنيا. فكتب إلى عمرو بن العاص الذي كان قد طلب منه المدد للمرة الثانية أثناء محاولته فتح الإسكندرية [إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألفِ رجلٍ منهم رجلٌ مقامَ الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد. واعْلَمْ أن معك اثني عشر ألفاً، ولا يُغْلَبُ اثنا عشر ألفاً من قلة]، وحديث {لن يُغْلَبَ اثنا عشر ألفاً من قلة} رواه أبو داود.

     وفي رواية أن عمر كتب إليه [أما بعد؛ فقد عجبتُ لإبطائكم عن فتح مصر أنكم تقاتلون منذ سنتين، وما ذاك إلا لِمَا أحدَثْتم وأحببتم من الدنيا ما أحبَّ عدوُّكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نياتهم. وقد كنتُ وجهتُ إليك أربعةَ نَفَرٍ وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألفَ رجلٍ على ما كنتُ أعرف إلاَّ أن يكون غيَّرَهم ما غيَّرَ غَيْرَهم، فإذا أتاك كتابي فاخطب الناس وحُضَّهم على قتالِ عدوهم ورَغِّبْهم في الصبر والنيّة، وقَدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، وَمُر الناس جميعاً أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل الرحمة فيها ووقت الإجابة، وليعجَّ الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم] ومعنى صدمة رجل واحد أي هجمة كاسحة موحّدة، ومعنى العجّ أي رفع الصوت بالدعاء إلى الله.

     فلما وصل الكتاب إلى عمرو بن العاص جمع جنوده وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، ثم دعا أولئك القادة الأربعة فقدمهم أمام الناس وهم من كبار الصحابة، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ثم يرغبوا إلى الله تعالى ويسألوه النصر على عدوهم، شكَّل كتابُ عُمر دافعاً ومحفّزاً للمُسلمين، فاستجابوا لأمر قائدهم بالصلاة والدعاء ففتح الله عليهم ودخلوا حصون الإسكندرية في ذي القعدة من عام 20 للهجرة بعد حصار دام أكثر من أربعة أشهر، وفر الرومان للنجاة بأنفسهم، واستبقى عمرو أهل الإسكندرية ولم يقتل ولم يَسْبِ منهم أحداً؛ بل جعلهم ذمَّةً مثل أهل حصن بابليون أي أنه أعطاهم العهد والأمان كما أعطى غيرهم، وكانت هذه سيرة القادة المسلمين دوماً في جهادهم ومغازيهم أثناء الفتوحات.

     كان عمر بن الخطاب يركز دوماً في كتبه إلى قادة الجيوش على ارتباط النصر بطاعة الله تعالى وصدق النية، وعلى أن تأخّر النصر إنما يكون بالذنوب، وقد استند عمر في ذلك إلى قوله تعالى {… وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج 40، في الآية الكريمة تأكيد صريح من الله عز وجل للمؤمنين بأنه ناصرهم إن هم نصروه، ويكون نصرهم إياه : بالولاء له والبراء من أعدائه وبالقيام بشرعه ونشر دينه وبالجهاد في سبيله لتكون كلمته هي العليا، فإنهم إن فعلوا ذلك ربط على قلوبهم بالصبر وبالطمأنينة وبالثبات، فنصرة العبد لله إذن تكون بحفظ حدوده ورعاية عهوده والذود عن عباده، فهذا وعد الله، ومَنْ أوفى بعهده من الله؟ قال تعالى {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} إبراهيم 47، جاء وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في آيات كثيرة منها قوله تعالى {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} الصافات 171-173، ومنها قوله تعالى {… وَكَانَ حقاً علينا نصر المؤمنين} الروم 47،

     أما الانغماس في المعاصي والدوران في فلك الأعداء ودعاة التمسك بالدنيا وحطامها على حساب شرع الله وكراهية الجهاد في سبيل الله فذلك من عوامل الهزيمة والذلة والهوان وتأخّر النصر، قال صلى الله عليه وسلم {يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها، فقال قائل : وَمِنْ قلةٍ نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت} رواه أبو داود،، ومعنى تداعى الأمم أي تجتمع، والقصعة هي وعاء الطعام.

     وإذا أخلص عباد الله عبوديتهم وولاءهم لربهم فالنصر لهم حتماً، ولن يضرَّهم أحد حتى وإن اجتمع عليهم أهل الأرض جميعاً وتظاهروا عليهم أو تحزّبوا ضدهم، فمن كان الله معه فمن يقدر عليه؟ قال تعالى {إِنْ يَنْصُرْكُم اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُم وَإِنْ يَخْذٌلْكُم فَمَنْ ذَا الذي يَنْصٌرْكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فًلْيَتَوَكِّل المُؤْمِنٌون} آل عمران 160.

     ولكن قد تحلَّ الابتلاءات والمضارِّ والضوائق والشدائد بجند الله ويتأخّر النصر عليهم؛ فالأَوْلَى هنا الثبات ودفع القنوط أولاً قبل التضجّر واستبطاء النصر، ومن ثَمَّ المراجعة والمحاسبة والبحث عن مواطن التقصير في الْتزام شرع الله وأحكام دينه ثم الإقلاع عن ذلك والتوبة منه، فقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى أن يختبر المجاهدين ويمتحن قلوب المؤمنين، فقد يعانون التهديدات المصيريَّة ويواجهون شتى أنواع المخاوف وأقساها، فإن نجحوا في هذه التمحيصات غشيتهم رحمة الله ونزلت سكينته عليهم وتبدّلت مشقتهم راحة ومحنتهم منحة، وأما الأعداء فعاقبتهم العذاب على أيدي المجاهدين ووقوع الخزي والذل بهم، وانتصار المؤمنين عليهم وشفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم، قال سبحانه وتعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَاُوْلَئِكَ هُمْ المُهْتَدُونَ} البقرة 155- 157.

Please follow and like us:
د. تيسير التميمي
قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب