د. تيسير التميمي يكتب: معركة حارم
معركة حارم من ضمن الحروب الصليبية في بلاد الشام، وقعت في 22 رمضان 559 هـ الموافق 12/8/ 1164 في قرية حارم بسوريا بين جيش السلطان نور الدين محمود زنكي الشهيد رحمه الله وبين تحالف من الفرنجة ضم كلاً من كُونْتِيَّةِ طرابلس وإمارة أنطاكية والإمبراطورية البيزنطية والأرمن، وحقق المسلمون في هذه المعركة نصراً عظيماً، وفي المقابل حلّت الهزيمة الساحقة بتحالف الشر ووقع معظم ملوكه وقادته في الأسر.
وكان السبب المباشر لمعركة حارم هو الأحداث الخطيرة التي وقعت بعد هزيمة نور الدين الصعبة في معركة البقيعة التي وقعت في عام 1163 قرب حمص، وقصة تلك المعركة أن نور الدين جمع جيشه ونزل في سهل البقيعة تحت حصن الأكراد وعزم على التوجه إلى طرابلس لتحريرها من أيدي الصليبيين، لكن الصليبيين باغتوا جنوده نهاراً وبأعداد ضخمة، فبينما هم في خيامهم لم يرُعْهم إلا ظهور الصليبيين من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد، فأراد المسلمون منعهم فلم يستطيعوا، بل لم يتمكنوا من ركوب الخيل أو أخذ السلاح، ووقعت فيهم يومها مقتلة عظيمة واستشهد عدد كبير منهم، وكاد نور الدين نفسه أن يقتل فيها إلا أنه استطاع النجاة على فرسه بفضل أحد جنوده القلائل، فقد تمكن ذلك الجندي من قتل الصليبي الذي هاجم لنور الدين،
نزل نور الدين بالقرب من حمص على بعد أربعة فراسخ عن مكان معركة البقيعة، ولحق به جنوده الناجون، لم يعبأ نور الدين بهزيمته؛ بل بدأ بتوزيع الأموال والسلاح والآلات العسكرية على جنوده فصاروا كأنهم لم يُصابوا ولم يُهْزموا، فتحَمَّسُوا بالإعداد والاستعداد للجهاد في سبيل الله من جديد، قال له بعض المثبّطين من حوله كعادة المثبّطين في كل زمان ومكان [ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا فنؤخذ ونحن على هذه الحال] فقال لهم نور الدين [إذا كان معي ألف فارس لقيتُهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام]، وبالفعل كان في خطة الصليبيين بعد انتصارهم التوجه إلى حمص، فلما بلغهم نزول نور الدين قربها قالوا فيما بينهم [لم يفعل هذا إلاَّ وعنده قوة يمنعنا بها] فبعثوا إليه يطلبون الصلح معه فلم يجبهم، فتفرقوا وعادوا إلى بلادهم وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه .
وفي تلك الأثناء كان في مصر صراع محتدم بين الوزيرين الفاطميين شاور وضرغام، استغاث شاور بنور الدين واستعان ضرغام بالصليبيين، فأرسل نور الدين أبرز وأقوى قادته أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي على رأس جيش لدعم الوزير شاور، فاستطاع القائدان ومن معهما من القادة والجنود الأشداء إعادة شاور للحكم وقتل ضرغام،
لكن شاور ما إن تمكن من الوزارة حتى غدر بشيركوه ومن معه وطلب منهم الرحيل عن مصر واستعان عليهم بالصليبيين، وتلبية لهذا النداء خرج الملك عموري الأول ملك القدس المحتلة صليبياً بجيشه في عام 1164 لقتال أسد الدين شيركوه ولاحتلال مصر في ذات الوقت، فطلب شيركوه نجدة نور الدين زنكي، فكَّر نور الدين بفتح جبهة حرب جديدة شمال بلاد الشام لتخفيف الضغط عن شيركوه وليُرغِم الصليبيين ويثنيهم عن غزو مصر واحتلالها مما سيجعلهم ينسحبون منها، فكر نور الدين بهذه الخطوة لأن هزيمة شيركوه ستكون أشد وقعاً على الأمة المسلمة كلها، فوقوع مصر تحت السيطرة الصليبية معناه طول مدة الاحتلال الصليبى فى المشرق الإسلامى .
ولتنفيذ قراره هذا أقبل نور الدين على الجد والاجتهاد والاستعداد للجهاد والأخذ بثأره بِرّاً بيمينه، فراسل أخاه قطب الدين مودود بالموصل وفخر الدين قَرَّا أرسلان بالحصن ونجم الدين ألب بماردين (تقع اليوم في تركيا على الحدود بينها وبين بلاد الرافديْن) وغيرهم من الأمراء، فلبَّوْا نداءه وجاء المجاهدون والمتطوعون من كل حَدَبٍ وصوب.
أما الأمير مودود أخو السلطان فقد جمع عساكره وسار بهم مُجِدَّاً وفي مقدمتهم نائبه زين الدين، وأما نجم الدين صاحب ماردين فقد جمع عساكره وسار بهم إلى نور الدين وجيشه،
وأما فخر الدين أمير الحصن فقد قال له خواصُّه والملأ من حوله [على أيّ شيء عزمتَ؟] فقال لهم [ على القعود، فإن نور الدين قد تحشَّف من كثرة الصوم والصلاة فهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك ] وكلهم وافقوه على ذلك، ومعنى تحشف أي لبس الثياب البالية كناية عن تركه زينة الدنيا والالتفات للعبادة والجهاد، وهذا من أسوأ المواقف: أن يوصَفَ المجاهدون في سبيل الله بأنهم يلقون الناس في المهالك، في اليوم التالي أمر فخر الدين المذكور بالنداء في جنوده بالتجهز للقتال، فقال له أولئك المثبّطون من بطانته والمحيطين به [… فارقناك بالأمس على حال ونرى الآن ضدها] فقال لهم [إن نور الدين قد سلك معي طريقاً إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي وأخرجوا البلاد عن يدي، فإنه كاتب زُهَّادها وعُبَّادَها والمنقطعين عن الدنيا يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر والنهب، ويستَمِدُّ منهم الدعاء ويطلب منهم أن يحُثُّوا المسلمين على الغزاة، فقد قعد كل واحد من أولئك ومعه أتباعه وأصحابه وهم يقرؤون كتب نور الدين ويبكون ويلعنونني ويدعون علي، فلا بد من إجابة دعوته] ثم تجهز فخر الدين وسار إلى نور الدين بنفسه، وهذا دليل أكيد على قوة تأثير العلماء العالِمين العاملين على الحكام والمواطنين يذكّرنا بمواقف سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله ودوره في حث الناس على الجهاد لتحرير أرض الإسلام من الغزاة
وكان نور الدين قد خصص أموالاً من بيت المال لينفقها على العلماء والعُبَّاد والفقراء، فقال له بعض أصحابه لما رأوْا كثرة إنفاقه [لو استعنتَ بهذه الأموال في هذا الوقت لكان أصلح] فغضب منهم ورد عليهم بقوله [والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنّما تُرْزَقون وتُنْصَرون بضعفائكم.] مستنداً في قوله هذا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد في مسنده بالنصّ ذاته، فالضعفاء هم من أشد الناس إخلاصاً في الدعاء ومن أكثرهم خشوعاً في العبادة لأن قلوبهم غالباً ليست متعلقة بالدنيا وزخرفها وحطامها الزائل .
ولما اجتمعت هذه الجيوش كلها سار نور الدين بها وبالمتطوعين القادمين من الإمارات الأخرى نحو حصن حارم (وهو حصن في بلاد الشام ناحية حلب) فحاصرها، وبدأ هجومه عليها بموجات متتالية ونصب المجانيق عليها، فطلب حاكم قلعة حارم مساعدة الصليبيين لمواجهة جيش نور الدين زنكي القادم إليه، فأجابه الذين لم يسيروا إلى مصر وحشدوا من المشاة ما لا يحيط به الإحصاء فملؤوا الأرض، وجمعوا جيوشهم وكل إمكانياتهم في أعداد ضخمة وزجّوا بها في المعركة، أربعة جيوش عظمى ومن ورائها كل أوربا هرعت للقضاء على جيش نور الدين ولفك الحصار عن حارم، وكان على رأس تلك الجيوش الجرّارة كلٌّ من ريموند الثالث وبوهيموند الثالث وجوسيلين الثالث وغيرهم من الأمراء الصليبيين . وقد انضموا إلى قسطنطين كالامانوس حاكم قلقيلية البيزنطي.
وقبل المعركة انفرد نور الدين بنفسه تحت تلّ حارم وسجد لله ومرَّغ وجهه بالتراب خاضعاً لربه وداعياً يرجوه النصر والتأييد فناجاه بقوله [يا رب: هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك، فإن نصرتَ المسلمين فدِينَك نصرتَ.]
أما من حيث خطة القتال فقد تقدم الصليبيون بجيوشهم مغترين بنصرهم في معركة البقيعة ولكن من غير اهتمام بقواعد الانضباط العسكري فتوزعوا بشكل متهور غير منظّم، فانسحب المسلمون من مدينة حارم واشتبكوا معهم قرب أرتاح. ووقع بين الطرفين صدام مروّع حيث نفَّذ المسلمون تكتيك الكماشة، وتقوم هذه الخطة العسكرية على التظاهر بالانسحاب لاستدراج جنود العدو وإغرائه بملاحقتهم وهنا تتم الإحاطة بهم من بقية فرق جيش المسلمين، وهذا ما حصل بالفعل بوقوع الصليبيين في هذا الكمين، فقد هجم الصليبيون في بداية القتال على ميمنة الجيش الإسلامي فتراجعت الميمنة سريعاً وتقهقرت إلى الخلف، فظن الصليبيون بأنها انهزمت وبدأت بالفرار من الميدان فلحق بها فرسان الصليبيين، وبهذه الخطوة انقطعت الصلة بينهم وبين المشاة من قواتهم، فتفرغ المسلمون للمشاة فانقضوا عليهم انقضاض الصقور على ضِعاف الطيور، فلما رجع الفرسان لم يجدوا أحداً من المشاة الذين كانوا يحمون ظهورهم، فأطبق المسلمون على فلول المشاة وعلى الفرسان ولم ينجُ من القتل إلا من وقع في الأسر .
والوحيد الذي لم ينجرّ وراء هذا الكمين هو توروس الأرمني الذي فضَّل الهروب من الكارثة والسلامة بنفسه. كثر القتل في جيش الصليبيين حتّى توقّف المسلمون عن القتل وبدأوا بالأسر، وكان عدد قتلى الصليبيين حوالي عشرة آلاف شخص، وأسر المسلمون أعداداً كبيرة منهم وفى جملتهم بوهمند صاحب أنطاكية والقُمُّص صاحب طرابلس وكان شيطان الفرنج وأشدهم شكيمةً على المسلمين، ومعنى الشكيمة الأنَفَة والحزم والإباء وعدم الانقياد، ومنهم الدوق مقدِّم الروم وابن جوسلين وقسطنطين البيزنطي صاحب قلقيلية وغيرهم كثيرون،
تيقَّن الصليبيون الآن أنهم لا طاقة لهم بقتال نور الدين وأبطال جيشه وأنهم لا قدرة لهم على نزاله فحاول من بقي منهم العودة إلى حارم فتبعهم نور الدين، فاستولى عليها وعلى ما حولها من قلاع وحصون بعد أن أجلى الصليبيين عنها إلى الأبد، وكان ذلك فتحاً كبيراً ونصراً مبيناً أعاد للمسلمين الهيبة في قلوب أعدائهم، وأعز الله جنده وأولياءه في شهر رمضان المبارك شهر الانتصارات، هذا بعد الأخذ بالأسباب المعنوية والمادية وإعداد ما استطاعوا من قوة .
كانت هزيمة نور الدين في البقيعة مؤلمة جداً له وللمسلمين، ولكن هذا الملك العادل نور الدين محمود زنكي الشهيد، والذي عرف بعدله وتقواه وورعه وعبادته وحبه للجهاد، والذي كان يحب العلماء ويقربهم إليه، فاكتسب منهم التقوى والزهد، هذا السلطان الذي تفرغ للجهاد في سبيل الله لم يلبث أن كسر الصليبيين في حارم بعد عدة أشهر من هزيمة البقيعة فأبدل الله هزيمته نصراً وفتحاً وتحريراً لأرض الإسلام من أيدي الغزاة.
صحيح أن معركة حارم لم تأخذ حظها من الشُّهْرة في التاريخ الإسلامي إلا أن أحداثها ونتائجها كانت شديدة الأهمية وبعيدة الأثر، فهزيمة الصليبيين وأسر ملوكهم وقادتهم لم يكن بالأمر الهيّن، حيث مكث هؤلاء الزعماء سنوات في الأسر، ومنهم من افتدى نفسه بدفع مبالغ طائلة لنور الدين وظّفها في الإنفاق على الجهاد في سبيل الله.