الأثنين مايو 20, 2024
بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}

في سنة إحدى وعشرين للهجرة كانت موقعة نهاوند وفتحها، وهي موقعة عظيمة جداً لذا سماها المسلمون فتح الفتوح لأنها كانت في أرض الفرس وكسرت شوكتهم، وسببها أن المسلمين أوقعوا بالفرس هزائم متتالية، فبعد معركة القادسية فتحوا الأهواز والمدائن وغيرها من مدن الفرس مما أثار حفيظتهم وحنقهم ضد المسلمين، تشاور الفرس في هذا الوضع الجديد فيما بينهم فقالوا [إن محمداً الذي جاء العربَ لم يتعرض لبلادنا، ولا أبو بكر الذي قام بعده تعرض لنا في دار مُلْكِنا، وإن عمر بن الخطاب هذا لَمَّا طال ملكه انتهك حُرْمتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى غزانا في عُقر دارنا وأخذ بيت المملكة، وليس بمنتهٍ حتى يخرجكم من بلادكم] وبيت المملكة هي المدائن عاصمتها ومقر كسرى، فتعاهدوا وتعاقدوا على السير إلى البصرة والكوفة ليُشْغِلُوا عمر عن بلاده، وتواثقوا وكتبوا بذلك على أنفسهم كتاباً.

      ومن أظهر نتائج تلك الفتوحات المتتابعة أن الكسرى يَزْدَجَرد كان يتقهقر من بلد إلى بلد حتى صار إلى أصبهان مُبْعَداً وطريداً من ملكه وعاصمته، لكنه في أسرةٍ حصينة من قومه وأهله وماله، فكتب إلى نهاوند وما والاها من البلدان يستجيشهم، فتراسلوا وتجمعوا ومن ضمنهم كل من غاب عن القادسية في تلك الأيام المتقدمة فكمل له أكثر من مائة وخمسين ألف مقاتل جعله تحت قيادة الفَيْرُزان، فساروا نحو نهاوند وفي خطتهم أن يوجهوا للمسلمين ضربة حاسمة.

     كتب سعد بن أبي وقَّاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما تمالأ عليه الفرس وبما اجتمعوا عليه من تحرِّقهم على الإسلام وأهله، وبأن المصلحة معاجلتهم بالجهاد ومبادرتهم بالشدة قبل أن يبدأوا هم بمهاجمة المسلمين، وإلا ازدادت قوتهم وجرأتهم، فأمر عمر المنادي: الصلاة جامعة، فصعد المنبر فقال [إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممتُ بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأَوْجِزُوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، إني قد رأيتُ أن أسير بمن قِبَلِي حتى أنزل منزلاً وسطاً بين هذين المِصْرَيْن فأستنفر الناس ثم أكون لهم رِدْءاً حتى يفتح الله عليهم] ومعنى بمَنْ قِبَلِي أي بمن عندي، ومعنى المِصْرَيْن أي البلديْن وهما الكوفة والبصرة، ومعنى رِدءاً أي معيناً وناصراً.

     اتفق الناس على أن لا يسير الخليفة من المدينة بل يبعث البُعوث أي الجيوش، وكان ممن تكلم علي رضي الله عنه فقال [يا أمير المؤمنين: إن هذا الأمر لم يكن نصرُه ولا خذلانُه بكثرة ولا قلة، هو دينُه الذي أظهرَ وجندُه الذي أعزَّ، وأمدَّه بالملائكة حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعودٍ من الله والله منجزُ وعده وناصرُ جنده، ومكانُك منهم يا أمير المؤمنين مكانَ النَّظَّام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإذا انحلَّ تفرَّقَ ما فيه وذهبَ ثم لم يجتمعْ بحذافيره أبداً، والعربُ اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرٌ عزيزٌ بالإسلام، فأَقِمْ مكانَك واكتب إلى أهل الكوفة فهم أعلامُ العرب ورؤساؤُهم فليذهبْ منهم الثلثان ويقيم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم أيضاً] ومعنى بحذافيره أي بجوانبه جميعها، وصدق علي بقوله أن النصر لا يكون بقلة ولا بكثرة، قال تعالى {… قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة 249،

     أعجب عمر برأي علي، فجعل حذيفة بن اليمان أميراً على جيش الكوفة، وأبا موسى الأشعري على جيش البصرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب على كتيبة المهاجرين والأنصار، والقائد العام للجيوش كلها النعمان بن مقرن رضي الله عنهم، وولَّى السائب بن الأقرع قَسْمَ الغنائم وهذا دليل يقينه الراسخ بنصر الله، وكتب عمر إلى النعمان [بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه قد بلغني أن جموعاً من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله وبمن معك من المسلمين، ولا توطِئْهم وعراً فتؤذيهم ولا تمنعْهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غَيْضَةً فإن رجلاً من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار، والسلام عليك، فسِرْ في وجهك ذلك حتى تأتي مَاه، فإني قد كتبتُ إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودُك فسِرْ إلى الفَيْرُزان ومن يجتمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا الله، وأكثروا من: لا حول ولا قوة إلا بالله] ومعنى تُوطِئْهم وعراً أي تنزلهم مكاناً وعراً، ومعنى الغَيْضَة أي المكان الذي يسبب نقصهم أو قِلَّتهم، ومعنى مَاه هو اسم موقع قبل نهاوند.

كمل جيش المسلمين ثلاثين ألفاً من المقاتلة فيهم من سادات الصحابة وكثير من رؤوس العرب وساروا نحو نهاوند، وبعث النعمان أمير الجيش طليعةً ثلاثةً من العيون ليكشفوا له خبر العدو وهم طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معديكرب الزبيدي وعمرو بن أبي سلمى الهجيمي، فسارت الطليعة يوماً وليلة، فرجع عمرو بن أبي سلمى ثم رجع بعده عمرو بن معديكرب وقال: لم نر أحداً، وأما طليحة فقد سار حتى بلغ نهاوند ودخل بين العجم وعلم من أخبارهم ثم رجع إلى النعمان فأخبره بما علمه  وبأنه ليس بينه وبين نهاوند شيئ يكرهه.

     ثم إن نائب الفيرزان واسمه باندار بعث إلى المسلمين يطلب منهم رجلاً ليكلمه، فذهب إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فخاطبه باندار بكلام فيه احتقار العرب واستهانة بهم، وكان فيما قال له: إن تذهبوا نُخَلِّ عنكم وإنْ تأبَوْا نُزِرْكُم مَصَارِعَكم أي نعجِّل بكم إليها. فكان من رد المغيرة [إنا لن نرجع أبدا حتى نغلبكم أو نقتل بأرضكم…] فخاف بندار أن ينال المغيرة من معنويات جنده لإظهار عزّته الذي هذّبه بها الإسلام، فأراد أن يقطع هذه المناظرة فقال له: إن شئتم قطعتم إلينا، وإن شئتم قطعنا إليكم، فعاد المغيرة إلى النعمان، فاختار النعمان العبور إلى الفرس ومنازلتهم.

والْتحم الجيشان وكانت الحرب بينهما سجالاً والقتال شديداً في أول يومين، وبعد انتهاء اليوم الثاني انسحب الفرس للتحصّن بداخل مدينة نَهاوَنْد وأغلقوا على أنفسهم الحصن الواقع فوق جبل عالٍ مما أعطاهم قوة كبيرة، فلما صبحهم المسلمون في اليوم الثالث لم يجدوهم، فضربوا عليهم حصاراً طويلاً شاقاً قارب الشهر، لكنهم صَبَروا واستمروا فيه، أما الفرس فكانوا يخرجون إذا أرادوا ويرجعون إلى حصونهم إذا أرادوا.

فلما طال على المسلمين هذا الحال نفّذ النعمان بن مقرن خطةً اقترحها طليحة بن خويلد الأسدي، وتقوم على انسحاب الجيش الإسلامي واختفائه وراء جبل من الجبال البعيدة، ثم تُشْعِلُ فرقة الخيالة قتالاً وهمياً مع الفرس بهدف استفزازهم للخروج من الحصون، ثم تتراجع الخيول أمام الفرس فيظنون انهزام المسلمين فيلحقوا بهم، وهكذا يتم استدراجهم خارج الأسوار وحينئذ يُفاجئهم المسلمون بالكمائن فيُطْبِقون عليهم، فاستجاد الناس هذا الرأي ونفَّذه قائد الخيالة القعقاع بن عمرو رضي الله عنه،

وهذا ما كان بالفعل؛ ففي الصباح بدأ جنود الفرقة الماهرين جداً بالرماية برشق السهام الكثيرة، فوصلت سهامهم إلى داخل حصون نَهاوَنْد، ووجد الفرس أن هذه الفرقة تسبب لهم الأذى على الرغم من قلتها، فَغَرَّهم ذلك وخرجوا لقتالها، وكان جنود القعقاع يقاتلون ولا يريدون النصر بل يريدون إظهار الهزيمة أمام الفرس حتى يُخْرجوهم من حصونهم، فخرجوا، وهنا هرب القعقاع بمن معه فتبعوه، وكانوا كلما لاحقهم الفرس هربوا، فانطلت الخطة عليهم فاغتنموا هذه الفرصة فخرجوا بأجمعهم من الحصون حتى انتهوا إلى الجيش المسلم، وانقطعوا بذلك عن حصونهم، فحفروا الخنادق وألقوا فيها حسك الحديد لئلا ينهزموا، وسلسلوا بعضهم كل ستة أو سبعة في سلسلة لئلا يفروا من القتال

كل ذلك والجيش الإسلامي يقف خلف جبل يراقب الموقف من بعيد حسب الخطة، واشتد القتال على المسلمين من الفجر إلى قبل الظهر بقليل، إذ أقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح، وكان ذلك في صدر نهار الجمعة، فعزم الناس على بدء القتال لكن النعمان أمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس، وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان {إذا لم يقاتل من أول النهار أخَّر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر} رواه أبو داود

فلما كان قريباً من تلك الساعة التي كان يقاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم صلى النعمان بالناس الظهر، ثم ركب فرسَه وسار في الكتائب يذكّرهم ويحرِّضهم ويمنِّيهم الظفر، وخطب فيهم بقوله [قد علمتُ ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم أوله وسيلحق بكم آخره، واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة، فأنتم اليوم عباد الله حقًّا وأولياؤه، وقد ترون ما أنتم بإزائه من عدوكم وما اخترتم وما اختاروا لكم، فأما ما اختاروا لكم فهذه الرثَّة وما ترون من هذا السواد، وأما ما اخترتم لهم فدينكم، ولا سواء ما اخترتم وما اختاروا، فلا يكونُنَّ على دنياهم أحمى منكم على دينكم، وأتقى عبادِ الله رجلٌ صَدَقَ الله وأبلى بنفسه فأحسن البلاء، وإنكم تنتظرون إحدى الحسنيين: من بين شهيد حيٍّ مرزوقٍ أو فتحٍ قريب…]

ثم أعلمهم بالهجوم على العدو عند سماعهم تكبيرته الثالثة، وقال [اللهم إني أسألك أن تُقِرَّ عيني اليوم بفتح يكون فيه عِزُّ الإسلام، واقبضني شهيداً واجعلني أول شهيد، أَمِّنوا يرحمْكم الله] فأَمَّن المسلمون وبكَوْا جميعاً.

وفي الساعة المناسبة المنتظرة كَبَّر النعمان وهزَّ الراية فتأهَّب الناس للهجوم على العدو، ثم كبر الثانية وهز الراية فتأهَّبوا أيضاً، ثم كبر الثالثة وحمل هو ومن معه على الكفار حتى تصافحوا بالسيوف فاقتتلوا قتالاً ضارياً غير معهود، بحيث قتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبق وجه الأرض دماً حتى أن الدواب كانت تنزلق فيه كما حدث مع النعمان، فقد زلق به حصانه في ذلك الدم فوقع وجاءه سهم في خاصرته فقتله، ولم يشعر به أحد سوى أخيه سويد فغطاه بثوبه وأخفى موته حتى انتهاء المعركة حفاظاً على الروح المعنوية للجيش، اقترب منه مَعْقِل بن يسار رضي الله عنه قبل أن يلفظ آخر أنفاسه ليطمئنًّ على حاله فسأله النعمان] ماذا فعل المسلمون؟ فقال معقل: أبشر بنصر من الله. فقال النعمان: بشِّروا عُمر] أجاب الله دعاء النعمان رضي الله عنه فأقرَّ عينه بفتحٍ أعز الإسلام وكان أول شهيد في المعركة رحمه الله.

أما الفرس المشركون فقد ولّوْا على وجوههم مدبرين فتبعهم المسلمون، وأثناء فرارهم الجماعي وقع منهم في الخندق الذي ملأوه بحسك الحديد نحو مائة ألف أو يزيدون هذا سوى من قتلوا في أثناء المعركة، وهذه العاقبة تعيد إلى ذاكرتنا عاقبتهم ذاتها وأسلوبهم ذاته في معركة القادسية بحيث لم يتعلموا منها ولم يأخذوا منها الدروس والعبر، أما قائدهم الفيرزان فقد جرح في المعركة فهرب باتجاه همذان فاتَّبعه القعقاع حتى قتله، ثم لاحق القعقاع بقية الفلول المنهزمين من الفرس إلى همذان وحاصرها، فنزل إليه أميرها خسرو فصالحه عليها.

ثم إن القعقاع عاد إلى حذيفة ومن معه من المسلمين فدخلوا نهاوند وجمعوا المغانم وسلموها إلى السائب بن الأقرع، وجاء صاحب نار الفرس فسلم حذيفة وديعة وضعها كسرى يزدجر عنده يدَّخرها لنوائب الزمان، وهي وعاءان مملوءان جوهراً ثميناً لا يُقوّم، وتم بيعهما بألفيْ ألف درهم أي بمليونين فتم قسمها بين جنود الجيش الغانمين.

وأما أمير المؤمنين في المدينة فكان يدعو الله ليلاً ونهاراً لهم وقد استبطأ الخبر عنهم، فلما علم بمقتل النعمان بكى، ثم سأل عمَّن استشهد من المسلمين، فلما ذكر له من الشهداء من لا يعرفهم جعل يبكي ويقول [وما ضرهم أن لا يعرفهم أمير المؤمنين! لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر]

كان هدف كسرى وأركان حربه توجيه ضربة قاصمة للمسلمين، وما علموا ان الله كان يدبر لهم هزيمة مدوية، فما قدّره الله عز وجل هو الكائن فقط، قال تعالى {… وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يوسف 21.

Please follow and like us:
د. تيسير التميمي
قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب