الخميس يوليو 4, 2024
بحوث ودراسات

د. خالد سعيد يكتب: احتمالات الحراك الاجتماعي والسياسي في الحالة المصرية

تسارعت الأحداث في المنطقة العربية منذ عام 2011 حيث بدأت كحراك اجتماعي وسياسي، ثُمَّ تطورت لتصبح ثورة أو ما يشبه الثورة التي تهدف إلى تغيير أنظمة الحكم، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية التي عانتها شرائح كبيرة خاصة الفقراء والشباب العاطلين عن العمل، وتفاوتت نظرة المتابعين بين من اعتبر هذا حدثًا تاريخيًّا يمثل ثورة اجتماعية متكاملة الأركان، ومن اقتصر تصوره على كونها هبة شعبية من نوع الانتفاضات والاحتجاجات التي لا ترقى إلى درجة الثورة!

ويختلف الباحثون في العلوم السياسية والاجتماعية والمفكرون والنخب السياسية وغيرهم؛ حول تعريف مفهوم الثورة والفرق بينه وبين مفاهيم أخرى مشابهة له، كالهبات الشعبية والانتفاضات والاحتجاجات وغيرها.

ويكاد الباحث في العلوم الاجتماعية لا يجد تعريفًا واحدًا متفقًا عليه لمفهوم الثورة لكي يميزه عن غيره كالتمرد والعصيان، حيث تشترك جميعًا في أنَّها تعني نوعًا من التحول الجذري لكل النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة ولو بدرجات متفاوتة، أو على الأقل تغيير النظام السياسي بطرق تخالف الشرعية السياسية المهيمنة على المجتمع!

ويعرف عزمي بشارة في كتابه «الثورة والقابلية للثورة» المقصود بالثورة على أنَّها: «تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة، والثورة بهذا المعنى هي حركة تغيير لشرعية سياسية قائمة لا تعترف بها وتستبدلها بشرعية جديدة».

وهو بهذا يميز الثورة عن الانقلاب العسكري حيث «لا يعكس تحركا شعبيًّا بالضرورة، لكنه يبقي الإمكانية مفتوحة لأن يشكل انقلابًا عسكريًّا مدعومًا شعبيًّا هدفه تغيير نظام الحكم».

كما أنَّه «يميز الثورة عن الانتفاضة الاحتجاجية الشعبية أو التمردات على أنواعها في حالة عدم طرحها مسألة تغيير النظام الحاكم».

 فما حدث في مصر مثلًا في ثورة ٢٥ يناير عام ٢٠١١ تجاوز مفهوم الاحتجاج والانتفاضة لأنَّه طالب «بإسقاط النظام» لكنه بالكاد يشبه الثورة، لكنه ليس كذلك، فلم يتجاوز حدود التعبير عن المعاناة الاجتماعية والاقتصادية للجماهير، بينما افتقر لأي مشروع بديل للنظام السياسي القائم، فلم يمس الجزء الأكبر من جهاز الدولة بالتغيير كما لم تشمل أي تحول عميق في البنية الاجتماعية.

ولكن، وللموضوعية فقد حدث قدر من التفكيك في نظام السلطة نفسه أو بمعنى أدق شبكة العلاقات الرأسية والأفقية وأجهزته العسكرية والأمنية، وما زال هذا الترهل والتراخي في تماسك تلك المنظومة ساريًا حتى اليوم، كما أخذت حالة الخوف من البطش السلطوي التي أعادت السيطرة على مقاليد الحكم بالحديد والنار والقتل الجماعي؛ في الخفوت كما اتضح في حراك ٢٠ سبتمبر ٢٠١٩ الذي دعا له المقاول محمد علي، مع كمون حالة ثورية في جيل الوسط الحالي -وهو الذي عاين الثورة- يمكن وصفها بطويلة الأمد رغم تركيز النظام على قمع فئات الشباب والنساء، وهي الفئات التي خرجت من عزلتها وشاركت بقوة لأول مرة في أحداث الثورة.

فالثورة بمفهومها كتغيير جذري لكل الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لم تحدث فعليًّا في مصر والمنطقة العربية، إذ الثورة لا بُدَّ لها من أيديولوجية ثورية وطبقة اجتماعية ونخبة تقودها، وهذه النظرة وإن كانت متأثرة بالتفسير الماركسي الكلاسيكي للثورة، إلا أنَّها صحيحة في مجملها، رغم خصوصيات هذا الحراك العربي بجغرافيته المختلفة تاريخيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا.

 ومع ذلك فإنَّ الثورة في مصر -كما غيرها- طالبت كما أسلفنا بإسقاط النظام، وهو ما نجحت في اليسير منه بإزاحة وخلع رأس جبل الجليد المتمثل في حسني مبارك وبعض رجاله فقط، كما رفعت خلافًا للسائد شعار «الشعب يريد» و«بأمر الشعب» وهي شعارات تخالف فكر النخب الحاكمة في بلادنا العربية، التي لا تعرف إلا أمر الحاكم وإرادته.

وبمراعاة هذه الأركان الثلاثة للثورة فإنَّ غياب النظرية الأيديولوجية وكذلك النخب القائدة في مجتمعاتنا؛ كنتيجة لحالة الهشاشة المجتمعية التي كرستها أنظمة الحكم بمفهومها الشامل، كل ذلك يجعل الواقع حتى الآن غير مؤهل للقيام بثورة صحيحة، رغم قابليته بامتياز للانفجار مع استعداد النظام للقمع الدموي والوحشي لأي انتفاضة وعدم السماح باندلاع أي حراك مهما كان نوعه، وهو ما كرره وتعهد به رأس النظام مرات كثيرة، ما يفتح الباب لحالة فوضى عارمة ووحشية لا تبقي ولا تذر.

إنَّ دليل أهمية المفهوم الأيديولوجي الراديكالي كضرورة لنجاح أي ثورة، هو نموذج الثورة الإيرانية كمجتمع شرقي ينتمي جملة لنفس المنطقة ثقافيًّا ودينيًّا رغم اختلاف المذهب والعرقية؛ فقد نجح آية الله الخميني في إنضاج الثورة حتى وصولها لآخر مراحلها عبر تطوير نظريته الفلسفية الثورية بناء على الخط العرفاني الفلسفي الذي تبناه خلافًا لمدرسة المراجع التقليدية في قم -النمطية التفكيكية- في الخط المعرفي القائم على التقليد وأدلة المذهب؛ حيث مثل تمردًا أو ثورة عليه قبل أن يقود ثورة على نظام الشاه نفسه، وتحكم في الشارع من خلاله، وهو ما أنتج وأعاد إحياء وبلورة فكرة «الولي الفقيه» للإفلات من عقدة انتظار إمام آخر الزمان لإعلان الجهاد وإقامة الحكومة الإسلامية، وهو ما يمثل طفرة فريدة في تسخير الفتوى لخدمة المشروع، بعكس الوضع السني الحالي، الذي يجهض المشروع في خدمة الفتوى، التي غالبًا ما تكون لصالح أنظمة الحكم.

وإذا كانت أغلب الحركات السنية التي وصلت إلى سدة الحكم بدرجات وصور مختلفة قد أذعنت مبكرًا للنموذج الغربي، وأعلنت انحيازها للنموذج الديمقراطي على الطراز الغربي، فقد مثل ذلك انهزامًا أمام مشروع التغريب الذي يفترض بها التمرد عليه وقيادة ثورتها ضده، مثل نموذج العدالة والتنمية في تركيا، والحرية والعدالة في مصر، والعدالة والتنمية في المغرب.

 

وهو الخط شبه الديمقراطي الذي حاول به العلامة الشيعي مطهري معادلة مظاهر الشمولية والديكتاتورية التي لاحظها في الخط الأيديولوجي الراديكالي الذي تزعمه نظام الولي الفقيه، فدعا متأخرًا لدمج منصبي المرشد والرئيس وانتخاب هيئة تشخيص مصلحة النظام، وهو أحد منظري الثورة ورفيق الخميني، إلا أنَّه كان يمثل محاولة تصحيحية لطرح أيديولوجي قاد ثورة فعلًا أي أنَّه ليس تراجعًا عن منطلقات منهجية قبل نجاح المشروع نفسه.

وإذا كان المنظرون الثوريون والمفكرون من العيار التاريخي لا يظهرون فجأة كما تحتاج نظرياتهم وطروحاتهم فترات زمنية طويلة نسبيًّا لتلقين فلسفتها للجماهير التي ستتحرك بها، وإذا كنا نعاني فقرًا في هذا الطراز وتلك الطروحات، ولا نملك الوقت لانتظارهم أو صناعتهم في الحقيقة، إلا أنَّه من الواجب على النخب الاجتماعية السياسية عامة والإسلامية منها خاصة؛ الإسراع في وضع أسس تصورات ذات طبيعة جذرية في مواجهة منظومة الحكم الحالية؛ حيث تصلح هذه التصورات للانطلاق المبدئي منها وبها نحو نظام جديد يمثل انقلابًا فكريًّا حقيقيًّا يقي المجتمع التفكك والفوضى المدمرة المتوقعة في حالة الفراغ السياسي القادم بلا ريب، كما يستطيع اتخاذ كافة التدابير لحماية الحراك القادم، الذي سيواجه دون شك بدفاعات واستعدادات غاية في الصرامة.

Please follow and like us:
د. خالد سعيد
أحد أبناء الحركة الإسلامية - مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب