بحوث ودراسات

د. خالد سعيد يكتب: تداعيات طوفان الأقصى على مستقبل التيار الإسلامي في مصر

مثّل طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر زلزالًا مدويًا ما تزال تداعياته تلقي بظلالها على المنطقة بأسرها ويهتز لها العالم أجمع، كما لا يُعرف بالتحديد متى تنتهي توابعه وأثاره العميقة. فقضية فلسطين بعمومها وإن كان لها تعلق قومي عروبي، وعمق تاريخي ملحمي، وخطر استراتيجي جغرافي، وبعد ديني روحي؛ إلا أنَّها لا تصلح بطبيعتها إلا أن تكون قضية إسلامية خالصة، إسلامية اللحم والدم.

فلا تكاد تخبو وتفتر تحت وطأة سياسة التشبيع والتجويع المضروبة على شعوب المنطقة كل حسب ما يخضعه ويغيبه، وتحت نير الدكتاتوريات الطاغية والفتن المصنوعة المستشرية؛ حتى تشتعل من جديد بقدر الله وأيدي الناس، والقضية وإن تصدى لها قوميون ووطنيون وعروبيون ويساريون، إلا أنَّ القوى الإسلامية تأبى إلا أن تقتحمها وتهيجها كل حين لتؤكد محورية وجوهرية هذه القضية في صميمها الاعتقادي؛ الأمر الذي يدفعها إلى تقديم التضحيات وبذل الغالي والنفيس في سبيلها، فما زالت رحلة الإسراء وعبق أنفاس النبي محمد ﷺ تملأ الأجواء هناك رغم غبار المعارك ودخان الراجمات والمدافع، وما زالت آيات القرآن تتلى منذ: (سبحان الذي أسرى).

وقد تباينت توجهات الإسلاميين في مذاهب شتى لكن هذه القضية العريقة أبت إلا أن تجمعهم فيها وتوحدهم في محرابها.

ومع تصاعد رد الفعل العدواني الإسرائيلي الذي يقوم بأفظع حملة قتل وإبادة ممنهجة، لا تفرق بين حجر وشجر وبشر؛ ولا بين مقاتل ومدني، أو صغير أو كبير أو رجل أو امرأة، بينما تظهر المقاومة الإسلامية بسالة منقطعة النظير مع توثيق خطواتها وعملياتها بشكل لم يحدث من قبل في المعارك الحديثة، حتى سبقت العدو دائمًا بخطوة في الحرب الدعائية، مما حدا بها لمحاولة مضاهاتها وبث أفلام بدت هزيلة ومشككة في قدراته.

وفي مصر بدا موقف الإسلاميين العام مخيبًا للآمال حتى الآن، فقد جاءت أغلب تحليلاتهم للموقف عاطفية حتى الآن، فقد كانت مرحبة ومؤيدة تبدي الفرحة الغامرة والسرور الطبيعي في مثل هذه المواقف التاريخية، التي تتبدى فيها أي بادرة للنصر والظهور وهذا من الناحية الشعورية الدينية؛ فرحة لم تتكرر لدى كثير من المستضعفين ربما منذ نحو عقدين، وربما تفوقت على غيرها لوضوح القضية والعدو والهدف وضعف الانتقادات الشرعية عليها، مع استدعاء وتنسم نسائم أحداث آخر الزمان بروحها المهدوية التي لا تغيب عن المخيال الإسلامي.

كما كانت سياسية في تصور قيمة الحدث وتوقيته وحصاره أو التواطؤ ضده، ومحاولة رسم أبعاده ومآلاته من الناحية الواقعية؛ وتكاد تكتفي عمليًّا بالبحث عن أي وسيلة للدعم المادي أو التبرعات المالية.

كما يتخندق البعض بقوة في خندق المقاطعة، وهي القضية التي تساعد على ترويجها بشدة وسائل التواصل الاجتماعي، كما تبناها العديد من القطاعات الشعبية من كافة الأعمار والطبقات، التي كانت بعيدة كل البعد عن قضية فلسطين لتغييبها عشرات السنين بل والتشكيك فيها وفي أهلها ومناضليها.

وقضية المقاطعة تحديدًا هي قضية مغذية للروح الإسلامية ولو لم تنطلق من هذا المنطلق، فهي انعكاس لقضية شرعية وهي الولاء والبراء، كما أنَّها استفراغ للجهد النفسي المتأزم لدى عموم المسلمين، أولئك الذين لا يجدون ما يفعلون لإيقاف شلال الدم الهادر في فلسطين من غزة إلى الضفة.

لكن هذه القضية تحديدًا عاطفية انفعالية أيضًا، كما أنَّها مؤقتة فلا تكاد تصمد العاطفة طويلًا أمام الغرائز والحاجات الإنسانية كالطعام والشراب واللباس في ظل الحياة الاستهلاكية التي فرضت على المصريين، فلا يؤمل كثيرًا في استمراريتها إلا لمن اعتنقها بشكل إيماني مبدئي، وكذلك لكون أغلب الاحتياجات الأساسية أو مكوناتها الأولية مستوردًا ومعبأ من الشاي إلى الصويا والماكينات اللازمة لكل شيء؛ من الدول الداعمة لدولة الكيان؛ فقد ارتهن النظام الحالي في مصر البلاد اقتصاديَّا بشكل شبه كامل للإرادة الأجنبية، حيث لو أرادوا هم شن حرب تجويع ضدنا لفعلوا.

ولا تخلو هذه الانفعالات الإسلامية من خلل في عدة جوانب:

 فهذه الظاهرة إيمانية بامتياز وليست سياسية من ناحية الأصل ولا يصلح أن تكون كذلك من ناحية التقييم، ولعل هذا من آثار وتوابع ما بعد ثورة يناير حين تسابقت قيادات التيار الإسلامي لجمع الغنائم وتركت أمر رسول الله باللوذ بجبل الرماة، فكانوا -أو بدوا كذلك- طلاب دنيا لا طلاب آخرة، وكان واجبًا أن تحدث اليقظة الحاليَّة لتسقط وثن المادية بينهم وبين الله.

وأما كون هذه القضية إيمانية فيرجع إلى تخلي الدنيا كلها عن هذه المقاومة الإسلامية في فلسطين إلا قليلًا من الدعم الإيراني، الذي استخدم من قبل الدول والطوائف نفسها التي خذلتهم في زيادة عزلتها والتشنيع عليها، وكان لا بُدَّ لهذا الخذلان أن يحدث لتتحقق النبؤات النبوية فيهم، مما جعل المقاومة تسلك ما يمكننا تسميته “خط الاستغناء الإيماني” الذي بدا جليًّا في عدم انقطاع آمالهم في إخوانهم العرب والمسلمين مع تجنب الهجوم الحاد عليهم، وترويج تلك الثقافة شعبيًّا ونخبويًّا

وكذلك فإنَّ كل هذا الإعداد وكل هذا الصمود والتضحيات، وكل تلك البطولات؛ لم تكن لتتحقق إلا بالصبر واليقين، فما كان لفئة محاصرة قليلة العدد والعدة أن تنشئ وتجهز مئات الكيلومترات من الأنفاق، أو تطور كل هذه الترسانة العسكرية المذهلة محليًّا، وبتصنيع وهندسة ذاتية، وهو الأمر الذي أفنت فيه حركة حماس وبقية حركات المقاومة ثلاثة أجيال متتالية من أعمارها، وهو أمر يحتاج إلى صبر لا مثيل له، كما يحتاج إلى يقين في تحقيق وعد الله وتحمل المسؤولية التاريخية.

وكان من المتوقع والمنتظر اجتماع قادة وعقول التيار الإسلامي لدراسة الظاهرة والبعد الإيماني وكيفية الوصول إليه، أو على الأقل إثارة هذه المحاور، ومحاولة الوصول لتجمهر فكري وتنظيري حولها للاستفادة وتدشين خط عملي يجاري تلك الأحداث في الواقع المصري خاصة.

لكن المفاجأة أنَّ العدوان قد جيَّش الأجيال الناشئة والمغيبة لقضية فلسطين بشكل غريب تدفعه تلك العاطفة نفسها لكنه ينتظر التوجيه، وهذا دور الحركة الإسلامية بمجموعها، إلا أنَّها ما زالت غائبة أو مغيبة حتى الآن كالتالي:

فقد بدت جماعة الإخوان المسلمين في مصر غائبة عن الصراع، ربما لرغبة الجماعة في عدم تحميل حماس إشكالاتها الحاليَّة على الصعيد الرسمي إعلاميًّا وسياسيًّا من جهة، وبسبب تغييب أغلب قطاعاتها القيادية وقواعدها الشبابية من جهة أخرى.

وفيما تبدو الأحداث وكأنها نفحة ربانية لترد الحياة لجماعة الإخوان وتعيدها الصدارة بعدما ظن الكثيرون توقيع شهادة وفاتها يوم الثالث من يوليو ٢٠١٣م، إلا أنَّه لا يبدو أنَّ هذا المنعطف قد أنتج حتى الآن أي تغيير استراتيجي أو حتى تكتيكي أو تطور تنظيري في خط الجماعة العام.

ورغم أنَّه من السابق لأوانه انتظار ذلك التغيير الجذري أو المرحلي، فإنَّ المستقرأ من شباب الجماعة في السجون والمهاجر؛ هو الانجذاب للنموذج الحمساوي المُعِد والمتربص والمواجه والمنتج، فيما يبدو أنَّه من بشائر التنزل عن النهج الاستعلائي للجماعة الأم، تحت وطأة المحنة المصرية وانكسارها، والفورة الفلسطينية وانتصارها.

بينما يتوقع أن تستمر القيادات التاريخية في السجون والمنافي في ركوب موجة النصر الحماسي/الإخواني لتكريس الخط القديم نفسه وتقديسه، رغم تحرر حماس قديمًا من النسبة للتنظيم الدولي، ثُمَّ تعديل ميثاقها لاحقًا.

ولعل هذه الاستمرارية للجماعة وما نتج عنها تابع لنشأتها على يد الإمام البنا كجبهة واقعية لمواجهة نازلة إسقاط الخلافة لكنها تفتقر إلى التنظير، وهو ما قام به الأستاذ سيد قطب لاحقًا في بلورة الرؤية العقائدية، ليتبعه محور الجماعة الثالث وهو الشيخ أحمد ياسين ليحدد وجهة الصراع جهاديًّا، وليقنع القوى المهيمنة العالمية بخطأ تراصها خلف صخرة الصهيونية، فاذا انكسرت انكسروا معها، وهو ما تبدو بشائره في طوفان الأقصى حيث يواجه المقاومون هناك الولايات المتحدة وأحلافها جميعًا قبل مواجهة دولة الكيان.

أما الحالة السلفية، فما زالت السلفية في مصر حائرة في قطاعاتها العريضة، فباستثناء المداخلة ودعوة الإسكندرية التي حسمت ولاءها للنظام الحالي في مصر مؤيدة لكل توجهاته، وهي فئات محدودة لا تمثل كل الواقع السلفي، وباعتبار السلفية الحديثة في مصر حركة مستوردة بالدرجة الأولى من بيئة المنشأ المعاصرة في الجزيرة العربية؛ حيث نشأت كحركة رافضة لما تعتبره شركيات وبدعًا، فقد توجه صراعها بالأصالة داخليًّا في الأمة المسلمة رغم اجتياح الاحتلال “الاستعمار” الغربي للعالم الإسلامي آنذاك، كما نشأت في ظل تحالف الدين مع السلطة.

وقد ظلت الحركة السلفية رهينة تلك النشأة إلى حد كبير، حتى أطاحت أحداث الثورة بمفاهيم أولياء الأمور وتبديع وتحريم كثير من الأمور كالمظاهرات وغيرها، فالتجارب كما أنَّها أسيرة نشأتها الواقعية فإنَّها تسقط بالواقع وقوانينه كذلك، ولذلك فقد غيبت الأحداث الجسيمة الأخيرة مفاهيم الطائفية حتى كادت أن تختفي أو تتوارى خلف واجهة الصراع الحالي الذي يبدو أنَّه -وللمفارقة- قد جمع شتات هذه الأمة، فنشوء حالة جهادية صحيحة فيها نحو هدف واضح لا ينبغي أن يختلف عليه؛ يوحد صفوف المسلمين ويؤكد الآصرة والرابطة بينهم وتصطف الأمة في مسار عملي قويم لأول مرة منذ عقود وقرون، إذ تجد نفسها مضطرة للخروج من صفين والجمل لمواجهة خطر وجودي حقيقي ومحدق!

وإذا أخذنا في الاعتبار مواكبة ذلك لتغيير النظام الملكي السعودي لجلده الوهابي واعتقال كل من قد يشتبه في رفضه لذلك، وانسياق من تبقى من علمائه رغبًا ورهبًا، مما أضعف أقوى جبهة تصدرت -بالحق أو بالباطل- لمواجهة المد الشيعي منذ الثورة الإيرانية، وبإنفاق خرافي يعادل ما أنفق في ترويج السلفية الوهابية نفسها، وما أنفق رشوة للإدارة الأمريكية السابقة لعلاج أخطاء الحكم هناك.

وهنا تختفي حالة الطائفية التي هي فراغية تدل على البطالة إذ تتناسى الواقع وتجتر التاريخ، كما أنَّها نتيجة للتجييش الذي أنفقت عليه بعض الحكومات المليارات لعقود -مع وجود ما يبررها تاريخيًّا واعتقاديًّا وسياسيًّا بطبيعة الحال- ثُمَّ كشفت الأحداث تطبيع وتواطؤ تلك الأنظمة.

وسبب اختفاء الظاهرة ليس الاصطفاف حول فريضة متفق عليها كالجهاد ضد الاحتلال، وهدف واضح للمسلمين كافة كالمقدسات فقط؛ وإنما لدعم بعض الدول الشيعية والجماعات الموالية لها والمدعومة منها؛ لهذه المقاومة وهذا الإطار الجهادي الذي تفوق حتى على داعميه في قوة المواجهة.

ومع ذلك فما زالت تنبعث بعض الفئات السلفية المتلبسة بهاجس الطائفية، التي تظهر عادة بشكل موسمي مع ظهور أي احتكاك بين دولة الكيان وحزب الله، أو بينها وبين المقاومة الفلسطينية -حماس والجهاد- المدعومة إيرانيًّا.

وتقوم دعوى أولئك على تصورات أبسطها وأقلها عبثية؛ هو اجترار الخلافات الطائفية المعقدة مذهبيًّا واعتقاديًّا للتذكير “بخطر” الشيعة، والتحذير من الانسياق وراء تلك المعتقدات بتأثير الانبهار الواقعي، بينما يغرق بعضها في الخيال والتسطيح ليسوق تصورات غير معقولة لتفسير أحداث الصراع المهولة والدامية على أنَّها مسرحية مختلقة بين الشيعة ودولة الكيان!

وكما غيبت ثورة يناير أغلب شيوخ ورموز الفضائيات الإسلامية التي ازدهرت أواخر عهد مبارك كسوق للمتعة الدينية، وأبرزت شخصيات أخرى؛ فقد اختفت أكثر تلك الشخصيات بشكل كامل في الأحداث الأخيرة، فهم بين نارين الشعور الشعبي والإسلامي الجارف والتربص الرسمي والأمني المتعسف، فآثر أغلبهم السلامة رغم كون السلامة في هذه المواقف مما يزهد الجماهير في أولئك الرموز في العادة، مما يجعل الساحة مؤهلة لمد جديد أكثر تحررًا من أطروحاتهم السابقة.

د. خالد سعيد

أحد أبناء الحركة الإسلامية - مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى