د. خالد سعيد يكتب: ذو الأريكتين.. أكبر من التاريخ
كان السنوار وهو جالس في مشهده المهيب الأخير يبدو كملك دخل الرعاع عرشه فجأة، أو كأسد -وهو موصوف بالملك- دخلت القردة عرينه، خائفة مرتعبة مهتزة، لا تدري ما حدود غضبته وهو لا محالة غضوب!
لم يكن ذلك الشخص المتربع على عرش الزعامة وقلوب الأمة اليوم؛ يريد أن يقول شيئاً لأي أحد غير ربه ونفسه، مكانة استحقها استحقاقاً بما من الله عليه وأمثاله ولم يمنحها لهم أحد غيره، من يوم أنزلت: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).
يذكرني الرجل في زهوه المتربع على أريكته -كما هو على قلوبنا- بارتجاز ابن رواحة على حافة الموت وقد صغرت في عينه الدنيا فراح يخاطب نفسه التي بين جنبيه فيقسم عليها أن تنزل ساح الوغى -أو ليكرهنها- لتذيق العدو صنوف العذاب أو لتكسر كبرها ومحاولتها العلو في الأرض من دون الله؛ فلا ينبغي للأنفس الكريمة والقامات العظيمة أن تتأخر عن مشهد كهذا وقد أستودعها الله إمامة أمته ومقدساته، وأولاها رسول الله ﷺ ثقته الغالية.
مثل أولئك الرجال العوالي يصلون في لحظة ما إلى حالة من العملقة التي يصيرون فيها أكبر كثيراً من كل الشخوص والمواقف والكيانات، فضلاً عن الأقزام واللئام وأبناء البغام.
نعم لقد كبروا عن كل ذلك وتعالوا عليه، فقد كشفت لهم الحقائق وتجلياتها؛ فرأوا ما رأي خبيب وهو مصلوبْ على خشبته، يرى العالم كله كشوكة!
نعم شوكة مؤذية تكاد أن تمس جناب رسول الله ﷺ قائده الأعظم ووالده الأقرب إذ خلقت روحه من عدم الجاهلية المظلم البغيض؛ إلى نور التوحيد وآفاقه الرحيبة، فانتفض ضد ذلك العالم وتصاغرت في عينه قريش كلها فصار فيها خطيباً، لا شهيداً على العيدان ترفع جثته، وإنما خطيب يلقي عليهم درسه الأخير وموعظته الأخيرة؛ اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً.
لم يعنه ولم يعن ابن رواحة ولا السنو ار أن يكتب ذلك أحد أو يراه أحد، فلا يشهد إلا مشهد الربوبية الرهيب، ومشهد الرسول المهيب، فيدعو الرب في عليائه وقد تجلى عليه بفيوضاته العميمة المهولة؛ أن يبلغ ذلك المشهد إليه ﷺ.
هؤلاء يا ابن الإسلام ويا بني وابن أخي وابن كل حرة في الأعصر القادمة؛ قوم اصطنعهم الله على عينه، وكأنهم خلقوا في زمن آخر؛ زمن نُحت فيه الرجال نحتاً من معادن غير معادن الناس وأنفس منها، وكأنهم سبكوا من نفس الذهب الذي تلألأ في بدر، أو حبات الجمان التي تحدرت في أحد، أو جلامد الحديد التي زحفت يوم الفتح.
هؤلاء الشخوص أكبر من التاريخ أن يكتب عنهم أن قتلهم كان يوم عيد للمشركين والمنافقين على اختلاف مللهم وأعراقهم، وأكبر من الجغرافيا إذ أحنت لهم شعوب الأرض رؤوسها لقداسة مواقفهم؛ متجاوزة الحدود والتخوم.