كان الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره بعد أن يثبت معنى اللفظ من كلام الله سبحانه وتعالى، أو يذكر تفسير الآية؛ يروي عشرات الأسانيد عن السلف في المعنى الذي يثبته؛ ثم يقول: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وكان ربما قال: وبنحو الذي قلنا قال بعض أهل التأويل.
وكان إذا ذكر أكثر من معنى للفظ وأكثر من تفسير للآية، وبعد أن يروي في كل قول منها -ربما- عشرات الأسانيد عن السلف؛ يقول: والصواب عندي -أو الذي أراه- كذا وكذا من أجل كذا وكذا.. ويثبت حجته ويبرّر اختياره ومذهبه، ويوضح لماذا اختاره.. يفعل ذلك في كل آيات القرآن الكريم؛ آيةً آية..
لذلك يرى العبد الفقير أن لا تفسير يفوق تفسيره هذا ولا يقترب منه؛ فتفسيره موسوعة علمية ضخمة، وكتاب حديث جبّار فيه آلاف الأحاديث، وموسوعة لغوية فيها آلاف الأقوال والوجوه من لغة العرب، وكتاب تراجم كبير فيه عشرات الآلاف ممن ذُكروا فيه، ولا يرقى إليه تفسير.. فضلًا عن تقدّمه وسَبْقِه..
فلا يكاد -رحمه الله- يثبت فيه رأيًا أو يذكر حكمًا إلا بأثرٍ وبسندٍ متصلٍ.. ولولا خشية أن يطول المقام بما لا يسمح به وقت الكرام؛ لذكرت وجوهًا أخرى من جليل ما بهرني، وعظيم ما شدّني، ولطيف ما هزّني في هذه الموسوعة العلميّة والتحفة السَّنيّة ودائرة المعارف العليّة..
ولربما تنتهي الحياة ولا تنتهي الدراسات العلمية والرسائل الأكاديمية في شتى التخصّصات التي يمكن للباحثين استخراجها منه؛ ولا عَجَب ولا غَرْو في ذلك؛ فهو يتعلق بكتاب الله الذي لا تنتهي عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا يخلق عن كثرة الردّ..
وقد تفكّرت في ذلك أوقاتًا طويلة وتكلّمت فيه مع جماعة من الأساتذة المتخصصين الفضلاء، فخطر لي -على ضعفي وقلّة علمي- ما يزيد عن ١٠٠ عنوانٍ يصلح كل منها لرسالة تخصّص (ماجستير) في التفسير وعلوم القرآن، وأكثر من ١٠٠ عنوانٍ يصلح لرسالة العالِمية (دكتوراه) في التفسير وعلوم القرآن، وأكثر ٢٠٠ بحثٍ علميٍ تصلح للترقية لدرجة الأستاذية في نفس التخصّص، فضلًا عن مثل ذلك كله في القراءات، واللغة، والحديث، والتراجم.. إلخ.
وودتُّ لو فسح الله في العمر وأتيحت لي الفرصة قبل أن أودع هذه الحياة أن أجمعها في كتاب وأتركها للأجيال القادمة؛ من غير أن أنظر فيما سبق من جهود؛ قطعًا سبقني إليها من هُم أجلّ قدرًا وأكثر علمًا.. والله وحده ولي كل فضل وصاحب كل نعمة.
وكنت قد قلت عنه في مقدمة كتاب فرائد القرآن مبرّرًا انحيازي لرأيه وتقديمي له على غيره ومثنيًا عليه رحمه الله بما أثنى به أهل العلم من الأئمة رحمهم الله فقلت فيما نقلت عنهم فيه:
تفسير الطّبريّ رحمه الله (٢٢٤ – ٣١٠) هـ المسمى: جامع البيان عن تأويل آي القرآن؛ من أقدم التفاسير، وقد حاز القبول والإجلال عند العلماء على مرّ العصور في القديم والحديث، وحظي بالرعاية والعناية، وأثنى عليه الأئمة والعلماء والمؤرخون والمفسرون، وسطّروا الجمل المذهّبة حوله، وعلّقوا عليه أوسمة الفخار.
قال عنه الإمام_النووي رحمه الله: لم يُصنِّف أحد مثله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وتفسير محمد بن جرير الطّبريّ هو من أجلِّ التفاسير وأعظمها قدرًا. وقال أيضًا: وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطّبريّ، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي.
وقال الإمام الذهبي رحمه الله عنه: وله كتاب التفسير، لم يصنف أحد مثله.
وقال عنه القفطي: وصنف التصانيف الكبار، منها تفسير القرآن الذي لم يُرَ أكبر منه، ولا أكثر فوائد.
وقال السيوطي في الإتقان: وكتابه أجلُّ التفاسير وأعظمها… فإنه يتعرّض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط، فهو يفوقها بذلك.
وقال أبو حامد الإسفراييني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصِّل تفسير ابن جرير، لم يكن كثيرًا.
وقال الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور: فكان جديرًا بالتفسير حين تناوله الطّبريّ بتلك المشاركة الواسعة، وذلك التفنُّن العجيب أن يبلغ به أوجه، وأن يستقر على الصورة الكاملة التي تجلت فيها منهجيته، وبرزت بها خصائصه مسيطرة على كل ما ظهر من بعده من تآليف لا تحصى في التفسير.
رحم الله الإمام الطبري؛ العالم الموسوعي، وأئمتنا، وعلماءنا؛ الذين جلّوا لنا كتاب ربنا وكلامه المبين، وألحقنا بهم في ركب الصالحين، في جنات النعيم..