بحوث ودراسات

د. عبد الرحمن بشير يكتب: الإنسان بين العجز الحضاري والفعل الحضاري.

في سورة العصر معنى عميق، وفكر راق، ورؤية ثاقبة، فيها المنهج الذي يصنع الحضارة، ويصيغ النهضة من جديد، ولكن المشكلة ليست في المنهج، بل في الإنسان الذي يقرأ القرآن، وهنا نطرح السؤال التالي، لماذا نقرأ كتاب الله؟

هناك مسلم يقرأ كتاب الله لأجل التبرك به فقط، ولهذا فهو لا ينتفع به في عمله، وحركته، وسعيه نحو البناء والمجد، بينما واحد آخر يقرأ كتاب الله، لأن يجد فيه معلومات ضخمة من حيث اللغة، أو من حيث المفاهيم التشريعية، وغيرهما، ولهذا فهو لا يعيش لأجل النهضة، بل يعيش لأجل أن يستمتع به، وهناك من يقرأ كتاب الله لأجل التسلية، لأنه يريد أن يخرج من عالم القلق إلى عالم الهدوء، وهذا أيضا لن يستفيد من كتاب الله سوى الهدوء، والابتعاد عن القلق النفسي، ولكن لدينا قلة متسائلة، وهؤلاء القلة يبحثون عن ما وراء هذه الأمور، لأننا علمنا أن الله تبارك وتعالي قال في بداية الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، ما هو هذا القول الثقيل؟ ولماذا هو قول ثقيل؟ إنه الوحي المتمثل بالقرآن، وقد عرفنا من خلال كتاب الله أن القرآن من حيث القراءة والحفظ ليس ثقيلا، بل هو سهل وميسور، فقال تعالي: (ولقد يسّرنا القرآن للذكر، فهل من مدّكر؟)، فالقرآن ليس صعبا في مفاهيمه الكبرى، وفي معرفته الكلية، بل هو ميسّر من الله العليم اللطيف ليفهمه الناس، وليطبقوه، ولكن المشكلة ليست في ذلك، بل هي في الإنسان.

في بداية الدعوة كذلك وجدنا قوله تعالي (ورتّل القرآن ترتيلا) في سورة المزمّل، وللترتيل معنيان، المعنى المعهود عندنا، ويعنى القراءة المجوّدة، ولكن هناك معنى آخر لم يلتفت إليه المسلمون، وهو الترتيب، والتصنيف، والتبويب المفاهيمي لهذا الكتاب حتى نحسن قراءته بشكل أعمق، ونتفنن في تجويده بشكل أجود، ولكن إلى جانب ذلك فلا بد من طرح المعنى الثاني، وهو المعنى الذى يؤدى إلى بناء الحضارة، وصناعة النهضة من خلال كتاب الله.

في هذه السورة العجيبة، وهي قصيرة جدا، وآياتها ثلاث، وكلماتها قصيرة جدا، ولكن الإمام الشافعي رحمه الله قال في حقها: (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم)، والشافعي ليس رجلا عاديا حتى يقول كلمة عفوية، بل قال هذه الكلمة بعد دراسة جادة، وتأمل عميق، وفهم ثاقب، ومراجعات متكررة، ونظرات معمقة عليها وعلى غيرها من الآيات في كتاب الله، فكانت هذه الكلمة التى انطلقت من الإمام الشافعي حقيقة من حقائق التاريخ، ومن هنا يجب علينا أن ندرس ماذا في هذه السورة من جديد؟

إن المهندس الحضاري مالك بن نبي رحمه الله تحدث في بعض كتبه، أن تفعيل الحضارة بحاجة إلى وجود ثلاثة أمور، الإنسان، التراب، والوقت، وهذا كلام خطير، فلا حضارة إلا بهذه المعادلات الثلاثة، الحضارة تساوى =. الإنسان + التراب + الوقت، وهذا هو الذى جعلنى أطيل الفكرة في هذه السورة منذ أمد بعيد، هل تحمل سورة (العصر) معنى حضاريا؟ لأن الهدف الأخير للرسالة المحمدية هو الشهود الحضاري، وليس فقط العبادة، فالقرآن ذكر بأن الهدف العام من إيجاد الإنسان في المعمورة تكمن في ثلاثية مركبة، وليس في بعد واحد كما يشير بعض الوعاظ في كلامهم (الاستخلاف، والعمران، والعبادة)، لا استخلاف بدون تسخير، ولهذا لدينا في الكتاب العزيز مفهوم (التسخير)، ولا عمران بدون فهم للسنن الكونية (القوانين المركزية) الموجودة في الكون، والمبثوثة في عوالم الإنسان، ولا عبادة بدون نص (الوحي)، ومن هنا فلا بد من فقه الشريعة، وفقه العلوم الإنسانية، وفقه العلوم المادية، وبهذا تتكامل العلوم عند الإنسان المسلم.

إن عالم الإسلام اليوم يشكو من فساد سياسي جعل الأمة بلا ميزان، ومن فساد أخلاقي جعل الأمة بلا ثقل تاريخي، ومن فساد علمي جعل الأمة بلا مكانة حضارية، ومن فساد مالي جعل الأمة بلا موقع اقتصادي، ومن فساد حضاري جعل الأمة بلا إنتاج معرفي، بل هي أمة تعيش اليوم في التخلف الشامل فكرا وعقيدة، منهجا وسلوكا، سياسة واقتصادا، وهي كما وصفها النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث (أمة الوهن)، ومن أعراض الوهن (الغثائية)، ومن نتائج ذلك المرض (حب الدنيا وكراهية الموت)، أي حب الحياة كما هي بلا تساؤل، وكراهية الموت على كل حال، ومن هنا فلا بد من طرح السورة من جديد، لنسأل، هل من شأن كتاب الله صناعة الأمة المتحضرة؟

يؤكد الدكتور محمد الطلابي، المفكر المغربي، والذى خرج من عالم الماركسية، وانتهى به المطاف في ساحل الفكر الإسلامي، وهو يبحث عن نهضة ممكنة للأمة المسلمة في هذا الزمن الصعب، فيقول: إن النهضة بحاجة إلى ستة أمور، إلى الدولة التى تحكم، والوطن الذى يستوعب الناس جميعا، والأمة المتنوعة في أفكارها، والمجتمعة في أهدافها وقيمها، والوعي التاريخي الذى يغير الامة من مرحلة التبعية إلى مرحلة الاستقلالية، ومنها إلى مرحلة النهضة، وحماية الدولة بآية السيف، أو المشروع، فلا دولة بدون جيش، ولا جيش بدون قوة، ثم التمدد الثقافي والفكري والجغرافي، فهذا النوع من التفكير التوليدي القرآني ينطلق من فهم الوحي، وفهم الواقع، والإلمام بعلوم الكون، هل لدينا ما يشير إلى ذلك في سورة العصر؟

في سورة العصر مفاهيم ستة في البناء الأخلاقي، والحضاري، وهي واضحة جدا، ولكن العيون التى تقرأ الوحي عليلة كما ذكر روجيه جارودي، الفيلسوف الفرنسي رحمه الله، ماذا تقول السورة؟

أولا: في البداية قسم من الله على الزمن، والزمن له أهميته في البناء الحضاري كما ذكر مالك بن نبي رحمه الله، وكما تناول محمد الطلابي كذلك في حديثه عن (الوعي التاريخي)، ولولا الهجرة النبوية، وهو عمل في الزمن، لم تقم الدولة الإسلامية، ولهذا اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يكون التقويم الحضاري للأمة منطلقا من الهجرة، وليس من بداية النبوة، ولا من ميلاد الرسول القائد عليه الصلاة والسلام، ولا من وفاته، ولاحتى من فتح مكة، فهذه اللحظة غير عادية، وهي لحظة استثنائية، ولكل أمة لحظة استثنائية، وهي التى تسمى باللحظة (الذهبية) كما يقول الدكتور جاسم سلطان.

ثانيا: تحدثت السورة عن (الإنسان)، والإنسان في هذه السورة نوعان، فاشل، وناجح، والفاشل هو الذى لم يفهم الرسالة، ولم يوظف طاقاته في البناء الحضاري وفقا لرسالته، والناجح هو ذاك الذى فهم الرسالة، ووظف الطاقات في تنزيل الرسالة في الواقع ليصنع حضارة، فالأول يوصف (بالخاسر)، بينما الثانى يوصف (بالفائز)، أو (المفلح).

ثالثا: لا نجاح للإنسان بدون تصور صحيح، وبدون خريطة فكرية سليمة مبنية على الإيمان، والإيمان في التصور الإسلامي ليس مشروعا خرافيا، أو فلسفة باردة، بل هو مشروع يملأ وجدان الإنسان، ليحول ذلك الإنسان إلى مشروع حضاري (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر).

لا يمكن للإنسان المسلم أن ينطلق بدون مرجعية، والمرجعية هنا تحددت في الوحي، والوحي من الله العليم الخبير.

رابعا: إن البناء الحضاري لا يكون إلا من خلال مشروع، والمشروع لن يتحرك من موقعه إلا بالحركة، والحركة يحب أن تكون هادفة، ومن هنا وجدنا السورة تتحدث عن (العمل)، وليس عن كل عمل، بل هو عمل محدَد، ومعين، وهو (العمل الصالح)، ووردت كلمة (العمل) في كتاب الله أكثر من (350) موقعا، ووردت كلمة (الفعل) أكثر من (190) آية، وفي بعض الأحيان نجد كلمات أخرى تمثل كلمة العمل، ولكنها تؤدى معنى أعمق (الانتشار) في الأرض، و (السير) في الكون، و (المشي) في جنبات الأرض، و (الابتغاء) من فضل الله، و (الكسب) من رزق الله، وكل ذلك يصنع من المسلم كتلة من الطاقة الحركية، والسرعة، والقوة في التنافس، وعدم الجلوس، وأن لا يقبل الخروج من التاريخ، ومن هنا كانت كلمة (وعملوا الصالحات) ذات دلالة عميقة في صناعة النهضة.

خامسا: هناك قيمة كبرى في الحضارة الإسلامية وهي قيمة (التمسك بالحق)، فالحق لا يتعدد عندنا، ولكن الصواب قد يتعدد، وهذا بحث في علم أصول الفقه، ولكن الحق أحق أن يتبع، ومن هنا تكون حماية الحق مهمة مجتمعية، وليست مهمة سلطوية فقط، أو مهمة علمائية، فلا نهضة بدون دفاع عن النهضة، ولا دولة بدون دفاع عنها، ولهذا كانت كلمة (التواصي بالحق) فعلا، وليس مجرد رأي، أو كلام يقال، والتواصي عملية تفاعلية من القمة إلى القاع، ومن القاع إلى القمة، ومن كل الجهات، وإلى كل الجهات، ذلك لأن الدين النصيحة، وهي مسألة عامة لا تخص فئة دون فئة.

سادسا: لا يمكن أن يصبر على البناء الكامل إلا الرواحل، والرواحل هم الأكفاء الأمناء، أصحاب النفوس الأبية، والقدوات الربانية، هم أهل الثقات، وهم أهل العمل والإنجاز الذىن لا يتوقفون، وهم الذين يداومون العمل، ولا ينقطعون، والذين لا يسأمون ولا يملّون، ويرون الخلل، ويصحّحون، ويحبون التوازن والوسطية، ولا يميلون عن ذلك أبدا، ولديهم الميزان الدقيق، ويمنحون لأصحاب الحقوق حقوقهم، ويؤدون الواجبات التى عليهم، وكل ذلك بحاجة إلى الصبر، بل وبحاجة إلى المصابرة، والمرابطة.

هذه هي سورة العصر، وقد وضعت أمامنا إنسان (العجز) وإنسان (الفعل) ومن خلال هذه السورة نعرف لماذا عجزنا عن الفعل الحضاري؟ ومن خلالها يمكن لنا أن نفهم كيف يمكن لنا العودة إلى التاريخ من جديد؟ والسلام

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى