بحوث ودراسات

د. عبد الرحمن بشير يكتب: الفساد السياسي في العالم العربي والإسلامي

لدينا فقه تقرر في كتب السياسة الشرعية، وهو ما يسمى بالسياسة الشرعية، ولكن الطغاة تخلصوا فقها كاملا تقرر في عهد الصحابة، والسلف (الشرعية السياسية)، والسبب أن السلطة الحاكمة منذ زمن سحيق ليست شرعية، وإنما جاءت عن طريق التغلب، وبقيت حتى الْيَوْم هي السياسة الشرعية وبدون طرح أسئلة عميقة وحقيقية عليها، واستغلت بشكل رهيب النصوص الشرعية التي تتناول بشكل معمق (الطاعة) لأولى الامر، ولكنها لم تتناول هذا العلم من الشق الآخر من المعادلة (حق الشعب)، فالحديث عن حق السلطة فقط هو حديث أعور، ذلك لأنه يتجاوز حق الشعب بشكل متعمد، وهو الأصل، ولأن كثيرا من العلماء يعتقدون بأن الحاكم وكيل عن الأمة في تنفيذ الشريعة، والدفاع عن المصالح العليا للأمة، والأمة هي الأصل في هده الوكالة، وهذا هو الصواب.

نحن دائما ننحاز إلى الفقه البسيط، والذى يتحدث عن حق الوالدين، ولا يتحدث بشكل مفصل عن حقوق الأبناء، فهناك توازن عجيب في النصوص بين حقوق الوالدين، وهم الأصل، وحقوق الأبناء وهم الفرع، وكذلك نجد مثل هذا في حديث بعضنا عن حقوق الزوج الكثيرة، وعن حقوق الزوجة القليلة، ومع ذلك تتحدث النصوص الشرعية عن حقوق متكافئة بينهما، وهي التي تسمى بالحقوق المشتركة، ولكن هناك حقوق خاصة للزوج، وأخرى للزوجة، والقاعدة القرآنية تقول (ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف) ومن هذا الباب وجدنا حديثا يطول عن حقوق السلطة، وحديث لا يتجاوز السطور القلائل عن حقوق الشعب، ولكننا نجد في الوحي حديثا عجيبا عن السياسة، وهو حديث علمي، ولكنه يغيب عن علماء السلاطين، وفقهاء البلاط، ووعاظ المنابر الرسمية.

إن الواقع العربي والإسلامي الْيَوْم يمر بمرحلة دقيقة، فجلّ الشعوب المسلمة تعيش تحت القهر السياسي، والاجتماعي، ويتحكم في أمرها الصبيان، والصبي هنا، لا نعنى به مرحلة عمرية، بل مرحلة فكرية، فهناك مراهقون سياسيون يتحكمون في مصير الأمة، ويعيش العقلاء والحكماء معا، إما في السجون أو المنافي، ولهذا نلاحظ التدهور الكبير في أوضاع الأمة سياسيا، بل ونجد انبطاحا أمام المشاريع السياسية كصفقة القرن بلا حدود، والتطبيع بلا مقابل حقيقي، وغياب التكافل السياسي (غزة) نموذجا، ولدينا من يتحدث عن عالم عربي يجتمع مع الصين لأجل بناء شراكة سياسية واقتصادية مع هذه الدولة العملاقة التي يقودها عقول كبيرة، ولديها استراتيجية التنافس مع الغرب، وعندها طموح حضاري مبني على الثقافة الصينية والحداثة معا، كما أنني أضحك من قلبي حين ألاحظ اجتماعا آخر في روسيا بين الدول العربية وروسيا لأجل بناء شراكة اقتصادية معها، وكل ذلك لا يحمل في طياته عندي معنى، بل هو سباق بين القوى الكبرى في تقسيم القصعة الكبيرة قبل أن يستيقظ العملاق الإسلامي.

أليس من المضحك أن نسمع سابقا من الرئيس الأمريكي (ترامب) كلاما غريبا عن السعودية، وهي كدولة لا تستطيع أن ترد بشكل عادي فضلا عن أن يكون لها موقفا سياسيا وواضحا من هذه البيانات الرئاسية، والخطابات أمام وسائل الإعلام، كيف قبلت السعودية أن يقول عنها الرئيس الأمريكي بأنها دولة محمية؟ وأن آل سعود ليس من الامكان أن يبقوا أسبوعا واحدا بدون حماية أمريكا؟ أين علماء السعودية الذين تحدثوا عن قطبية سعودية تتحالف مع القطب الامريكي؟ هل هذا هو التحالف الذى تحدث به الشيخ عبد الرحمن السديسي إمام الحرم المكي؟ صاحب الدعاء العريض لآل سعود.

إن الوضع في العالم العربي كاد أن يشيخ، والدولة إذا شاخت لا حل لها كما قال العلامة ابن خلدون في مقدمته، فسقوطها، بل وزوالها حتمي، وليس من الحكمة أن يحافظ وجودها الفيزيولوجي الجيش كما هو الأمر في مصر، أو الجزائر، فلا مستقبل لنظام شاخ، فليس بعد الشيخوخة سوى الموت والفناء، ولكن السؤال هو هل من الممكن أن نحافظ على الدولة، ويذهب النظام السياسي؟

لدينا من الخبراء من يقول: إن الفناء الحتمي ليس على النظام فقط، بل هو على الدولة والنظام معا، ولكن هناك من يرى أنه من الممكن إصلاح الدولة، ومعالجة قضاياها من الداخل، ولكن من خلال تغيير السنن التى تحكم الحياة، وليس من خلال تغيير النظام الفاسد بالنظام الفاسد، فهذا يعجل الفناء، وهو ما يسمى بمعالجة الأمراض بالأمراض.

كيف يشخص الوحي الواقع؟ وماذا يقدم من علاج؟

قال تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام: (إني جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين)، استحق نبي الله إبراهيم عليه السلام الإمامة عن جدارة واستحقاق، ولكن كبشر أراد لهذا المنصب الخطير في تاريخ الرسل والبشرية لذريته، ومن هنا جاء الجواب الإلهي قاطعا وحاسما (لا ينال عهدي الظالمين).

قال سفيان بن عينة رحمه الله: لا يكون الظالم إماما، وقال ابن خويز منداد: لا يكون الظالم حاكما، ولا خليفة.

إن الفقه السياسي في عهد الانحطاط السياسي قرر بلا ريب ما يسمى (الحاكم المتغلب) وجعله من أبجديات الفقه السياسي، وقبل الفقهاء ذلك من باب الضرورة، ولكن الضرورة تحولت عندنا أصلا، والأصل هو الضرورة، ولكن من العجب أن يكون مقبولا لدى الناس الحاكم المتغلب، وهو ظالم يغتصب حق الأمة في الشورى والبيعة، وهذا من أهم الحقوق السياسية للأمة.

كيف يكون الحاكم الظالم مقبولا عند الأمة في عشرة قرون؟ وكيف يتقرر هذا الفقه في أمة لديها أبجديات لا تقبل هذه الأحكام؟ وكيف تسلل إلى عقول الأمة النظام الساساني الفارسي؟ وكيف انهزمت الأمة الفارسية أمام الخطاب المحمدي في العصر الأول حين سمعت: ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها والدار الآخرة؟ ويتسلل فكرها الوثني إلى الأمة ذات الثراء في القيم السياسية، ويصبح فكرها السياسي بعد ذلك تابعا لفكرة الدولة المنهزمة؟

قال تعالى: ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، في هذا المقطع العجيب من كتاب الله مسألتان في غاية الأهمية وهما، عدم الطغيان السياسي، وعدم الركون إلى الظلم واهله، وكأن الوحي يصور الواقع كما هو بلا غلو ولا شطط، هناك طغيان سياسي من الحكام على حقوق الشعب، وهناك طغيان سياسي آخر من بعض الشعوب على الدولة، وليس على الحاكم، فالطغيان هو تجاوز الحد الشرعي والعقلي والمصلحي، ومن هنا نجد أن من أسباب انهيار الدول الاحتراب الداخلي، ومن الأسباب التي تؤدى إلى الاحتراب الداخلي هو الاستبداد، والظلم السياسي، ومن هنا يخطط الجميع فكرة (الاقصاء)، وهذه هي بداية التحلل الاجتماعي للدولة والحضارة.

في المقطع قراءة أخرى، وهي عدم الركون إلى النظام الظالم، والركون هو العمل معه، ومساعدته في البقاء على الحكم، ولهذا حذرت الآية (الركون) لأنها طريق إلى النار في الدنيا والآخرة، ولدينا آيات كثيرة في هذا الباب، ومنها قوله تعالى: (ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون).

نجد هنا أمرا صريحا لا يحتاج إلى التأويل، والبحث عن معانى غامضة، فالأمر هنا واضح، عدم طاعة الحكام المسرفين، أي الذين يتجاوزون الحد الشرعي والعقلي، بل ويقومون الفساد، وينشرون ثقافة الفساد في المجتمع (الذين يفسدون في الأرض)، ولديهم مشروع كامل اسمه (تجفيف منابع صحوة الأمة)، أي يجب أن تبقى الأمة نائمة، فلا تعي حقها في المشاركة السياسية، ومن هنا تسمع في بعض الأحيان عالما دعويا من أهل السلطان يقول: أنا لست سياسيا، أنا أقول ما قال الله، وما قال الرسول فقط، وهو بهذا يكذب بلا شك، فالله ليس حديثه فقط عن أحكام البول والحيض، وعن شرك المقابر، فهناك نصوص لا عدّ لها حول الشرك السياسي (شرك القصور) والفساد المالي والسياسي، ولكن هؤلاء في هذا الباب صُم بكم عمي فهم لا ينطقون.

إن الإسلام يقرر بأن عدم تصحيح الوضع السياسي المنحرف، وإبقاءه كما هو سيكون كارثة على الشعوب الصامتة، والخائفة، فقال تعالى (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة، وأنشأنا بعدها قوما آخرين)، وفي آية أخرى (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)، وفي آية ثالثة: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا).

إن هذه الآيات وغيرها تتحدث عن سنن ثابتة في الحياة غير قابلة للتعديل والتغيير، وتعمل عملها في كل المجتمعات، فهي التي دمرت الدول الإسلامية في الأندلس، فجعلت أثرا بعد عين، وتاريخا للدراسة وأخذ العبرة (فاعتبروا يا أولى الأبصار).

نحن نسأل لماذا الثورات في العالم العربي؟ ولماذا ثار الشعب السوداني على عمر البشير يوما ما؟ ولماذا ثار الشعب الجزائري على بوتفليقة ونظامه لحظة ما؟ وما العلاقة بين النظامين؟ هناك علاقة مشتركة بين النظامين مع أنهما أيديولوجيا مختلفين، فالنظام السوداني كما يعبر عن نفسه كان إسلاميا، والنظام الجزائري كما يعبر عن نفسه فهو علماني إسلامي، ولكن المشترك بينهما هو (الاستبداد)، أي الظلم السياسي، والفساد المالي، ومن قبل، ثارت الشعوب في مصر وسوريا وليبيا واليمن وتونس، وهناك شعوب في المنطقة تعدّ العدة للقيام بهذه المهمة، ولكن البعض من جهلة الفقه الحضاري والاجتماعي يحسبون أن وراء الثورات رجال، وتيارات معينة، وما الأمر بذلك، فالموضوع متسق مع السنن الكونية ذات الصِّلة بالموضوع.

يقول ابن خلدون: أن من طبيعة الدولة الملك، والانفراد بالمجد، والخنوع للترف، والدعة والسكون، وإذا استحكمت طبيعة الملك بالمجد وحصول الترف، أقبلت الدولة على الهرم.

والهرم هو مرحلة الشيخوخة، والشيخوخة مرحلة متقدمة إذا وصلت الدولة إليها، لا يمكن الرجوع منها بسهولة، ولهذا قال ابن خلدون: أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع، وهذه مسألة خطيرة في سقوط الدول، ولكن السؤال، هل يمكن للدولة انقاذها من مرض الشيخوخة، أو تطويل عمرها، وتأخير الشيخوخة منها؟ لابن خلدون جواب، ولكن الجواب هو حديث عن ما يجرى الْيَوْم من حراك سياسي، فيرى ابن خلدون كما يروى عنه الجابري: أن الأحوال إذا تبدلت جملة، فكأنما تتبدل الخلق من أصله، وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث (كلام غير عادي) من شخصية غير عادية، ولكن الناس عندنا لا يرون إلا ما كان عاديا، أو فوق العادة.

إن هذا الكلام الدقيق المبني على دراسات الأوضاع المختلفة، والمتباينة هو حديث الثورة كما يقول الجابري، فهناك حل أوحد من انقاذ الدولة من الهرم عند ابن خلدون كما يقول الجابري، وهي الثورة.

يروى الدكتور محمد العبد الكريم في كتابه القيم (تفكيك الاستبداد)، وهو دراسة مقاصدية في فقه التحرر من التغلب: بأن ابن رشد الفقيه يرى أن إصلاح الدولة ممكن، لأن الإصلاح مسألة سياسية، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى قرار سياسي، ولكن لا بد من بنية فكر فلسفي يحلّ محل العقلية الجامدة على التقليد.

يقرر الجابري بأن الانتقال إلى الحياة الديمقراطية يعنى مواجهة الحتمية الخلدونية بالمشروع الرشدي، وعندي أن زمن الدولة الكبيرة، والوصية على الشعوب انتهت، كما أن الفرد الطاغية انتهى، ولكن بسبب الغشاوة السياسية، والغباء المنهجي عند أغلب الحكام في منطقتنا يعيشون في تيه سياسي، ولهذا نجد الْيَوْم أن السيسي يخطط البقاء في الحكم حتى عام ٢٠٣٢م، ويخطط حيلة الحاكم في جيبوتي الصغيرة لمدد لا نهاية لها حتى الموت دون ان يحيطوا علما ما جرى، وما يجرى من حراك يهدد الظالمين، ويهدد البلاد.

أذهلني حديث ورد مرفوعا، وموقوفا، وهو في مسند الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لكعب بن عجرة، أعاذك الله من إمارة السفهاء، قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدى لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي) وهناك رواية اخرى لأبى هُريرة رضي الله عنه أنه قال: أعوذ بالله من إمارة الصبيان، قالوا: وما إمارة الصبيان؟ قال: إن أطعتموهم هلكتم، وإن عصيتم أهلكوكم.

لقد أهلك الصبيان الدولة، وأهلكوا الشعب، ودمروا القيم، وأفسدوا المجتمع، (فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا).

إن الحل كما يقول محمد العبد الكريم في تفكيك الاستبداد، وذلك يحتاج إلى فقه سياسي، يستنبط من جديد في الدين المنزل، وليس في الدين المؤول، أو المبدل، وهذا أيضا يتطلب إلى ثورة فكرية تتمرد على الوعظ الفارغ من المحتوى، ومن التناقضات الفقهية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف، وليس في المعصية، فكيف يتسق هذا ما ما يشاع من السمع والطاعة حتى ولو أخذ الحاكم أموال الناس بلا حق، وضرب ظهور الناس بلا حق، ونحن نسأل من جانبنا، هل هذا هو دين محمد عليه الصلاة والسلام الذى كانت شريعته كما قال ابن القيم رحمه الله عدل كلها، رحمة كلها، حكمة كلها، مصلحة كلها؟

يقول جاك روسو صاحب العقد الاجتماعي: الحرية هي الخضوع للقوانين، والشعب الحر يخضع للقانون، لا للشخص، ولا يستعبده الناس كأسياد، ولكنه يخضع للقوانين لا للأفراد، ذلك أنه بقوة القوانين لا يخضع للأفراد.

لقد كانت هذه الكلمات ملهمة للثوار في أوربا حين تحرروا من الاستبداد الديني والسياسي معا، ولكن نحن لدينا خطاب أروع منه وأعمق، وهو حديث الصديق رضي الله عنه حين تم اختياره، وخاطب الأمة قائلا: (أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، وإن القوي فيكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق له، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له).

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى