د. عبد الرحمن بشير يكتب: القراءة المقلوبة للحياة

لدينا فى بلادنا من يجعل الوحي تاريخا (العلمانيون) نموذجا، ومن يجعل التراث وحيا ودينا (السلفية الجديدة)، ومن هنا نجد الصراع محتدما ما بين من يحاول إخراج الأمة من الدين باسم المعاصرة، والحداثة، ومحاربة الذات، واستنساخ أفكار الآخرين من خارج الذات، وفرضها على الأمة، ويرى أن ذلك هو طريقنا إلى النهضة، وإلى جانب هذا الفريق جماعات دينية تناضل في نقل التراث كما هو إلى الواقع، وفرض هذا التراث على الأمة، وهي تواجه مشكلات جديدة، لم يعرفها السلف، ولن يستطيع معرفتها بحال من الأحوال، لأنها مشكلات مستجدة، ومن هنا يحاول هذا الفريق تحويل التراث إلى (وحي) معصوم كما يقول المفكر السياسي الشنقيطي، والحقيقة تضيع بين الفريقين، وتتيه الأمة بين القراءتين، فالجماعة الأولى ترى بأن الجماعة الثانية متخلفة، وتعيش في التاريخ، بينما ترى الجماعة الثانية بأن الأولى تعيش فى خارج الدين، ولكن الذي لا نشك فيه أنهما في خطأ استراتيجي، ولكن كيف؟

نحن نعرف أن الوحي ليس تاريخا، لأن الله الذي أنزل الوحي ليس جزءا من التاريخ، وأنه سبحانه اختار الكتاب الأخير (القرآن) ليكون فوق التاريخ، ولن يكون يوما ما جزءا من التاريخ، ولن يمكن للتاريخ تجاوز الوحي الأخير، ومن هنا يقع هذا الفريق تلك الخطيئة الإستراتيجية فى القراءة، بينما يقع الفريق الثاني القراءة الخاطئة ما بين النص والفهم الناتج من النص فى مرحلة ما، فالفهم للنص بشري، ولكن النص ليس بشريا، ومن هنا يكون من الخطأ الإستراتيجي الربط ما بين النص الرباني، والفهم للنص البشري، فالنص الرباني معصوم من الخطأ، ومحفوظ من الله، ومهيمن لجميع الشرائع السابقة، ومبين للأحكام السابقة واللاحقة، وشامل للحياة، وكامل كمالا مطلقا، ومتوازن بشكل غير عادي، ولكن الفهم ينطلق من منهجية بناها العلماء في فهم النص، وفعلها الصحابة، وأتقنها علماء المذاهب، وهذا مذكور في كتاب (الرسالة) للشافعي  نموذجا.

نحن اليوم نمرّ في مرحلة مهمة تكمن في (الإلهاء الحضاري) ونشكو من ترهّل فكري، كما نشكو كذلك من المراهقة الفكرية، ونتعامل مع حضارة الغرب التي تعيش هي الأخرى فى مرحلة ما قبل (السقوط)، وهي المرحلة التي يسميها علماء الحضارة مرحلة (الغريزة) أي مرحلة التعامل مع الجنس البشري في السطح وليس من العمق، ومن هنا نجد أن القراءة العلمية للمنتوج الغربي غائبة، وكذلك القراءة الفنية المنتوج الفقهي للإسلام شحيحة، ولهذا يغيب من الواقع (الوهج الفكري) والسبب هو وجود علل فكرية عميقة في الذات، ومنها، الشعور بالانهزامية أمام الآخر، أو الدونية أمام التاريخ، فالذهاب إلى الحضارة ليس تبعية للآخر، كما أنه ليس تلمذة أبدية للتاريخ.

فى كتاب الله آية عجيبة غاية في الطرح العلمي، ومهمة في التكوين التربوي، وهي فى سورة البقرة، وهي الآية المائة والرابعة والثلاثين (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم، ولا تُسالون عمّا كانوا يعملون)، يقول السعدي رحمه الله في تفسير الآية : تلك أمة قد خلت أي مضت، (لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم) أي: كل له عمله، وكل سيجازي بما فعله،لا يؤخذ أحد بذنب أحد، ولا ينفع أحدًا إلا إيمانه وتقواه.

في هذه الآية التي تكررت مرتين فى هذه السورة، ترسّخ معنى دقيقا في حياة المسلمين، وتطرح مفهوما حضاريا من شأنه صناعة (الوهج الفكري)، ورفع المستوى العلمي، وتوجيه الطاقات نحو (الألق الحضاري)، وليس فقط على العيش في مربع التلمذة، أو التبعية، بل تصنع الآية (الاستقلال الفكري، والسلوكي) لأجل الفعل الحضاري، وتطرح لتحقيق ذلك ما يلي:

أولا : أن التاريخ يصنع، ولا يستنسخ، فالناس الذين يصنعون التاريخ لا يعيشون فى موائد الناس، سواء كان هؤلاء من الأسلاف، أو من خارج الأسوار.

ثانيا : أن الأمة التي تصنع التاريخ، تحقق في الواقع أفعالا، وليس فقط آماني، ومن هنا، فهي تسعى للكسب الحضاري، ولا تعيش في فقط في المنتوج السابق.

ثالثا : إن الأمة العظيمة مسئولة عن مكتسباتها، وليست مسئولة عن مكتسبات الأمم السابقة، فالشعوب الحية تنظر إلى المستقبل، ولا تعيش في آلام الماضي.

هذه حقيقة تاريخية، ولكن نحن المسلمين نعيش في علّة فكرية خطيرة بحاجة إلى فهم متطور، فهذه العلة تكمن في (عبء التاريخ) وفى (عبء المكان)، فكثير منا يفكرون ويخططون فى العودة إلى التاريخ، وهذا أمر غير واقعي، كما يفكر ويخطط كثير منا الخروج من التاريخ ولكنهم يريدون منا الذهاب إلى مربع مخطط لنا من قبل الآخرين، وكأنه لا مكان لنا فى هذا الوجود إلا أن نعيش في عبء المكان، أو في عبء التاريخ، ولكن الوحي يقدم لنا منهجية أخرى تصحح لنا القراءة المقلوبة، وهي أن نتعامل مع التاريخ بفقه، ومع ثقل المكان بمنهجية صارمة.

يشير القرآن إلى فقه التعامل مع التاريخ من خلال آية كريمة أخرى من سورة آل عمران، وهي الآية المائة والسابعة والثلاثين (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)، هذه الآية نزلت بعد واقعة أحد، وبعد أن كثر اللغط والحديث عن سبب الهزيمة، فكانت هذه الآية التي صارت دستورا للأمة في التعامل مع التاريخ، ومع الأحداث، وفيها ما يلي:

أولا: إن الزمن يمضى، ولا يتوقف، وأن الأحداث تجري فيه بلا توقف، وأن البشر يمضون مع الزمن، وفى كل لحظة من يمثل الخير، ومن يرفع راية الشر، ولا يتوقف الزمن للمتفرجين، ولا للمنتظرين، وكذلك الزمن لا يعمل ذاتيا، في داخله تناقضات، وتدافع، وتخاصم.

ثانيا : فى التاريخ سنن، هناك سنن النصر، ولدينا سنن الهزيمة، بل وفى التاريخ سنن الصعود والهبوط، وسنن الانكسارات والارتفاعات، ولكن هذه السنن بحاجة إلى كشف، ومعرفة، وهي سنن لا تحابي أحدا، ولا تعمل في مصلحة أحد.

ثالثا : هناك طريق واحد يؤدى إلى معرفة السنن، وهو طريق الكشف، وهذا الطريق يكون فقط فى القراءة الشاملة للتاريخ البشري، وحينها نعرف كيف تنهض أمة، ولماذا تسقط أمة أخرى؟ ومن هنا قال تعالى (فسيروا في الأرض)، والأرض هنا شامل للكرة الأرضية مكانا وزمانا.

رابعا : لا تكفى القراءة وحدها (فسيروا) نحن نعرف أن قراءة التاريخ مهمة جدا فى الفهم، والقراءة الشاملة أهم من القراءة الجزئية، ولكن القراءة بدون فهم ونظر تيه وضياع، قد نفهم كيف؟ ولكن لا يمكن أن نفهم لماذا؟ إلا بعد النظر العميق (فانظروا).

يقول حسن البنا رحمه الله : ألجموا  نزوات العواطف بنظرات العقول، ولا تصادموا نواميس الكون، فإنها غلّابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحوّلوا تيّارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقّبوا ساعة النصر، وما هو منكم ببعيد).

في هذا النص الذي أنتجه حسن البنا رحمه الله رؤية عامة في التعامل مع النواميس الكونية (السنن الربانية)، وبه علم غزير، ولكن في كلمات قليلة، ويحتاج  إلى وقفات لأجل فهم السنن، والوصول إلى منهج محكم في التعامل معها، ويجب علينا أن نملك أدوات فكرية للفهم المناسب، والبعد عن المصادمة مع تلك السنن، وهو ما يؤدى دوما إلى الفشل المتكرر.

هناك مفردة قرآنية عجيبة من سورة الحشر، وهي جزء من الثانية من آياتها، فقال تعالي: (فاعتبروا يا أولى الأبصار)، فهذه الآية تعنى وجوب الاستفادة من الخبرة البشرية التراكمية، ومن فهم الظاهرة البشرية في عالم أفكارها وأحداثها وأشيائها وعلاقاتها،

والمحاولة الدقيقة في أخذ العظة والعبر منها، سواء كانت تلك الأمم سابقة أو معاصرة، وهذا يوفّر على النخب الجهد، ويختصر لهم الطريق، ومن هنا يجب على النخب الفكرية قراءة التاريخ، وقراءة ما وراء الجغرافيا لمعرفة السنن التي تحكم الحياة،

ولهذا يمكن للأمة الخروج من القراءة المقلوبة.

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights