د. عبد الرحمن بشير يكتب: القراءة بين الزمان والمكان
القراءة بين الزمان والمكان «الأفكار بين الكتب والواقع» نموذجا
يجرى الزمان بسرعة، ويتغير الإنسان من موقع إلى آخر (التحول المكاني)، ومن خلالهما تتعدد التجارب، وتتنوع الخبرات، ويعيش الإنسان في كل مرحلة مع جيل من الناس لهم همومهم وآلامهم وآمالهم، ويقابل علماء ومفكرين لديهم شعور مختلف، وأفكار متباينة، ويسمع منهم آراء متنوعة ومتعددة في الإصلاح والتغيير، وتتعدّل القراءة من خلال هذه الخرائط المتنوعة، ويكون السكون مرضا حينئذ، ويجب على الباحث النظر في هذه الأحوال، ومن زوايا مختلفة، ولكن لا يجب أن يفقد الإنسان البوصلة، والمرجعية، وإلا يصير عدما، وتصبح أفكاره قريبة من العبثية.
الزمان نتيجة تفاعلات عدة، فالثقافة تتغير، والأفكار تتعدّل، والآراء تنضج أكثر، والقراءات تتفاعل مع الواقع المستجد، والحياة تستمر بلا توقف، والمشكلات تتعقد، والكتب والإصدارات تخرج من المطابع بوفرة، والعلم يتقدم، والفكر لا يستقر على حالة واحدة، كل ذلك يؤثر على الباحث والمفكر والمثقف، ومن لا يلاحظ ذلك فهو يسقط من القطار، ويصبح من الماضي، ويعيش فكريا في الهامش، ويبحث في آلام الماضي أكثر من مشكلات الحاضر، ولا يهتم بمصائب المستقبل، ولا يطرح من خلالها الأمل.
إن القراءة النوعية تقوم على ركنين، على الكتاب النوعي، وعلى قراءة الحياة بشمولية، فالكتاب النوعي يحتاج إلى معرفة دقيقة لكيفية البحث للكتاب، فليس كل كتاب قابلا للقراءة والمطالعة، فالوقت أثمن ما يملكه الإنسان، والعقل أفضل ما يملكه الإنسان كذلك، ولذلك لا يجب أن تقرأ كل شيئ، فلا بد من البحث للكتاب النوعي، والكتاب النوعي هو الكتاب المفيد، والكتاب المفيد هو الكتاب الذى يحاول أن يقدم إجابة عن الأسئلة الناتجة من الواقع المرّ، وهو كذلك الكتاب الذي يضيف إلى مخزونك المعرفي جديدا، ومفيدا، فهذا هو الكتاب النوعي.
فإذا سألت عن القراءة النوعية للحياة، فهي أن تحاول فهم الواقع من زوايا متعددة، فالحياة ليست مادة فقط كما يقول ماركس، وليست كذلك روحا كما يقول الدراويش، وليست كذلك أبحاثا عقلية كما يقول أتباع مدرسة هيغل، كما أنها ليست مدرسة سياسية كما يقول مايكافيلي، بل هي شاملة شمول الحياة، ولكن فلا بد من التنبه لمسألة مهمة، وهي الجمع بين القراءة التخصصية، والقراءة الشمولية، وحينها تكون ناجحا في القراءة النوعية.
يحاول الباحث أن يجد لنفسه تخصصا فكريا، فقد يكون الباحث مفكرا سياسيا، أو دارسا دعويا، أو قارئا اجتماعيا، ولكن المهم أن لا تكون متخصصا حتى النخاع، لا يدرى عن عالم الأفكار شيئا، ومن هنا يجب أن تكون قراءتك النوعية على ٣٥% في القراءة الشاملة، وعلى ٦٥% في التخصص، وحينها تجمع بين التألق والشمولية، وبين العمق والطرح الفكري الواسع، ويكون لقراءتك معنى، ولأطروحاتك عمق.
من القراءة الشمولية السفر نحو البلاد المختلفة، والتحدث إلى الناس الذين يختلفون عنك، والعيش في عوالم مختلفة ومتباينة، والاستماع إلى أناس لديهم عقول مختلفة وأفكار متباينة، وقراءة الكتب الجديدة، والعودة إلى القديمة للبحث عن جديد لم تقرأه سابقا، ولم تتنبّه له في السابق، ومن القراءة النوعية، والشمولية كذلك، أن لا ترفض للفكرة، لأنها ليست من مدرستك، ولا من جيلك، ولا من بلدك، بل ولا من ذوقك، فهذا تسطيح للعقل، وتبسيط للحياة، وهروب من الواقع.
من القراءة النوعية، أن تقرأ للمجلات العلمية، والجرائد اليومية، وكذلك الأسبوعية، تقرأ للاقتصاديين في تحليلاتهم اليومية، والأسبوعية، وتحاول فهم ما يكتب علماء الاقتصاد اليوم في مستقبل الدولار، وفي مستقبل العملات الدولية، وفي عودة الذهب، واقرأ ما كتبه الشيخ الغزالي في معيار الذهب وغيره من علماء الفكر الاقتصادي الإسلامي، وخاصة علماؤنا الكبار رحمهم الله، ومن القراءة النوعية قراءة الأفكار الكبيرة المؤثرة للحياة، أفكار ماركس وماكس فيبر، وقراءة أطروحات توينبي وابن خلدون، وأفكار هيغل ومالك بن نبي، وأفكار هيكل وكيسنجر، وآراء ابن تيمية ومايكافيلي، ودراسات الجويني وفوكوياما، ولا تنس قراءة المسيري وعلى عزت، فهما بحران عظيمان من الفكر والتحليل، قد يقل مثيل لهما في هذا الزمن.
من القراءة النوعية والشمولية، عدم التسرع في القراءة، والتحول من دراسة كتاب إلى كتاب آخر، والابتعاد عن الحماس الزائد، فالقراءة بحاجة إلى قناعة، والقناعة تُخلق، ولا تستورد، وتُصنع، ولا تستنسخ، ولهذا فلا بد من إيجاد قناعة ذاتية لأهمية القراءة، فقد زرت أكثر من مرة الأسواق الغربية، فرأيت المكتبات بصورة جميلة ولائقة، وبها كتب نوعية، ولكنى لاحظت في مكتبات بلادنا، وكأن قنبلة وقعت فيها، والغريب، أن الكتب فيها غير مرتبة، وعلمت بعد ذلك أن الزوار قلائل، وأن الزبون للمكتبات صاروا عندنا أقل،وفي الغرب حين يظهر كتاب جديد، تجد أنه ينسخ منه الملايين من الطبعات، ويترجم إلى العشرات من اللغات، لأن الكتاب في بلادهم إضافة عقلية، والناس هنا يخططون لعقولهم كما يفكرون لبطونهم.
عشت في بلادنا في القرن الأفريقي مع من لا يقرأ أبدا، ومع هذا يقود عملا إسلاميا، ورأيت في بلادنا من يقرأ كتابا في حقل علمي، ويحسب أن العلم في هذا الكتاب فقط، ثم يزور البلاد ليحاضر، ويخطب، ويطرح أفكار الكتاب الذي قرأه، ثم يتوقف عن القراءة حتى يجد كتابا آخر يحاضر فيه، إنها أزمة العقل المسلم المعاصر، شحّة في الأفكار، وسطحية في القراءة، وتبسيط للقضايا، كما رأيت في الغرب مسلمين لا يقرؤون أبدا، ومع هذا، يبحثون عن قضايا معقدة، ويناقشون مسائل عويصة، والناس من وراءهم يضحكون، أو يجعلون أفكارهم الضحلة مادة دسمة للسخرية.
من القراءة الشمولية والنوعية، قراءة كتاب الله يوميا، فهو الزاد الذي لا ينقطع، والعين الذي لا ينضب، والرافد الذي لا يتوقف، والبحر الذي لا ينتهي، والشمس التي لا تغيب، والنور الذي لا ينطفئ، فهو لا يتأثر بالزمن وإنما يؤثره، ولا يحدده المكان، وإنما يتجاوز المكان بقوة ذاتية، ولا توقفه الثقافات، بل يأخذ من كل ثقافة النافع، ويضيف إليها المعنى الوجودي والحضاري، فمن لا يقرأ كتاب الله فهو يتيم الفكر، وهذا الكتاب يمنح الحياة معنى الوجود، ويضيف إلى العقل المعنى (الحضاري والرسالي)، ولهذا يصبح هذا الكتاب للباحث المسلم المرجعي النهائية له.
من القراءة الشمولية والنوعية، قراءة السنة النبوية، فلا فهم لدين الله بدونها، ولا تعامل حقيقي مع كتاب الله بدون السنة، ولكن كيف نقرأ السنة؟ هل نعيد قراءتها؟ ونحفظ نصوصها؟ أم نقرؤها بعيون جديدة، نبحث فيها الحلول النبوية للمشكلات الحياتية، وبناء الحضارة وفق الفلسفة المحمدية (الوحي وتطبيقاته النبوية)، هنا المشكلة.
لدينا من يرفض السنة جملة وتفصيلا، وهؤلاء يمثلون طابورا خامسا في الأمة، ولدينا كذلك من يكرر في الحفظ والدراسة فقط حسب قانون التاريخ، وهؤلاء لا يأتون بجديد في عالم الحياة، ولهذا نحن بحاجة إلى قراءة نوعية للسنة، قراءة شاملة للسنة، وقراءة سننية للسنة، ويومها تخرج السنة من التاريخ إلى الواقع.
من القراءة الشمولية والنوعية الجمع بين التراث والعصر، بين القديم والجديد، بين الفقه والفكر، بين التصوف والسلفية، بين الحركية والقراءة العميقة، بين التجديد والتأصيل، بين المحلية والإقليمية والعالمية، وكل ذلك مهم في عالم القراءات النوعية والشمولية.