د. عبد الرحمن بشير يكتب: الكتاب كنز.. ومفتاحه القراءة
كلما أبحث عن الحقيقة أفزع إلى الكتاب، وأستشير العلماء والمفكرين في المسألة، وأقرأ كثيرا، وأتأمل في النصوص التي أقرأها، وأكثَف الأسئلة، وأطرح الإشكاليات عليها، وأطوّل النظر في المسائل، وأكثر الطواف على الكتب، وأراجع الوحي، وأطرح عليه أسئلة جديدة، وأنظر حولي، وأرفع بصري نحو السماء مرات عدة، ولا أتوقف عن هذه الحركة حتى أجد ما يشفي غليلي، أو يظمأ عطشي، أو يسدّ جوعي الفكري، ومع ذلك، فيبقى في النفس شيئا حتى أستزيد من البحث، فالحياة سفر طويل نحو الحقيقة، وعميق نحو ما وراء الحقيقة.
الكتاب كنز معرفي، ولكنه لا ينفتح إلا لقلة من الناس، فأغلب الناس يقرؤون الكتاب، ولكن هناك قلة يفهمون ما في الكتاب، وهناك أقل من القليل يأخذون من الكتاب إضافات كمية نوعية، ويطرحون عليه أسئلة جديدة لاستخراج الجديد من الكتاب، وهذه مهمة النخب، فالكتاب رحم بين أهل الفكر والعلم.
يمكن أن أعيش بلا مال، ولكن لا يمكن أن أعيش بلا كتاب، فالمال يذهب ويجيئ، ولكن الكتاب ليس كذلك، هناك كتاب يجب أن تقرأه في الوقت المناسب، وإن لم تقرأه في الوقت المناسب، قد لا يجدي من الكتاب نفعا في وقت آخر، ومع هذا، فالقراءة مهمة في كل وقت، ولكن لكل وقت كتاب، ولكل مرحلة فكرة، ولكل لحظة رأي، ومن هنا يجب أن تهتم الكتاب المهم، وأن تقرأ الكتاب في لحظته، واللحظة تنبثق من الأسئلة، ومن الحاجة، ومن فقه اللحظة، فالقراءة كالدواء، لا يمكن أن يكون الدواء مفيدا إلا عند الوقت المناسب، وفي علاج المرض الخاص، ومن الطبيب المختص، هكذا يكون الكتاب مفيدا في اللحظة المناسبة.
لا تقرأ كتابا لا تعرف كاتبه، ولا تتعامل مع نص لا تعرف ماذا يريد صاحبه ؟ ولا تتعب نفسك بأن تقرأ الكتب لتكون مثقفا فقط، ولكن اقرأ الكتاب لأجل ما فيه من فكر وعلم، فالحياة تبدأ من بناء العقل، وبناء العقل يبدأ من القراءة وحسن التعليم، والقراءة تحتاج إلى منهجية، فالإنسان الناجح يخطط لقراءته، وينوّعها، ويعمّقها، ويحسّنها، ويرفع درجتها، ويقوّمها، ثم يتعامل مع الكتاب ككنز لا يفنى، وجوهرة لا تضيع، وثروة لا تستغنى منها.
لا تفكر في البحث عن الوقت المناسب للقراءة، فليس لها وقت مناسب، بل هي مناسبة لكل وقت، اقرأ وأنت تأكل، واقرأ وأنت تعتكف في المسجد، واقرأ وأنت جالس بين الناس، واقرأ وأنت في الحافلة، بل واقرأ وأنت تنتظر الطبيب في غرفة الانتظار، بل واقرأ وأنت تستعد للنوم في الفراش، اجعل الكتاب أهم أستاذ في حياتك، وأفضل صديق في مسيرتك، حينها تعرف قيمة المعلومة، وقيمة الفكر، وقيمة الحياة، بل وقيمة وجودك في الكون.
لدينا من يبحث من أين يبدأ؟ ولدينا من يشكو حالة العوز التي يعيشها، والتي تعيقه عن القراءة، ولكنى أعرف أن كل ذلك ليس عقبات أمام القارئ الحصيف، لقد بدأت القراءة في مسكن كنا نسكنه كعائلة في جيبوتي في صغرى، ولم يكن في البيت كهرباء، وكنت أقرأ الكتب تحت ضوء الفانوس مع حرارة جيبوتي المرتفعة، وكنت أبحث الكتب في مكتبات الناس، وأستدين منها، ثم حين أتم قراءتها، كنت أعيدها إلى أهلها، وفي بعض الأحيان تبقى معي طويلا، وخاصة إذا كان الكتاب مهما، وصعبا، وقد ينسى صاحب الكتاب، وأنسى أنا كذلك إعادته، فيبقى الكتاب عندي طويلا، ولكنه يفيد عقلي، ويرفع وعيي، ويقوّم لساني، ويصحح مفاهيمي، ويخلق في ذاتي أسئلة جديدة.