بحوث ودراسات

د. عبد الرحمن بشير يكتب: تأملات قرآنية في لحظة العنفوان الروحي

بحثت عن جديد في الكتاب، وفي الكون، وفي الحياة، فالبحث عن الجديد سعادة، ولكن هل يمكن أن أجد ذلك، ممكن، ويمكن أن لا أحصل على ذلك، ومع هذا فالمشكلة تكمن في عدم البحث، وليس في عدم الحصول على ما تريد وتبحث، أو الوصول إلى الجديد في عالم الأفكار، فالحصول أو الوصول هو الهدف، ومن وراء ذلك تحسين الحياة، ورفع الوعي بعالم الأفكار، وليس فقط الوصول إلى ذلك العالم.

أحب أن أعيش مع عالم الأفكار طويلا، ولهذا أحاول قراءة كتاب الله باحثا فيه عن جديد، ولا أقرأ كتاب ربي للبركة فقط، أجد فيه كل يوم جديدا، ثم أعرف أن كنوزا ربانية مكنونة في هذا الكتاب، في صباح اليوم كنت أقرأ سورة التكاثر، وسورة الهمزة ووجدت فيهما أن سبب الهلاك البشري يكمن في المال، وأن سبب النجاح يكمن في المال كذلك، وعرفت أن المال ليس هو العلة النهائية في السقوط، أوفي الصعود، هناك سرّ آخر، ولا بد من البحث في ذلك. من خلال هذه القراءة الصباحية، تساءلت بعمق وأنا أعيش مع هاتين السورتين من جزء عم، ما علاقة المال بالإنسان؟ وما علاقة الإنسان بالمال؟ هل هي علاقة جدلية؟ أم هناك علاقة أخرى ربانية وإنسانية؟

هل الإنسان يخدم المال؟ أم المال يخدم الإنسان؟ هل أصبح المال وسيلة كما تشير كثير من الآيات؟ أم الإنسان صار وسيلة للمال؟ لماذا يلعب المال دورا تكديسيا في الحياة؟ ولا يلعب دورا وظيفيا في الحياة؟ إنه الإنسان، وليس غير الإنسان.

قد ينظر الإنسان إلى المال كهدف، وليس كوسيلة، وقد ينظر إليه كوسيلة، وليس كهدف، هنا فقط يتغير دور المال في الحياة من خلال تغيير النظرة، ولهذا يعمل الوحي في التغيير الداخلي، وصناعة القناعة، هناك من يجمع المال لهدف أساسي (الشهوة)، ولدينا مرض عضال اسمه (جمع المال لأجل المال)، والإنسان الذي يجمع المال، ولكنه لا يدرى لماذا؟ هو سبب الفشل والهلاك، فهذا الذى يحب أن يجمع المال لذات المال (وتحبون المال حبّا جمّا) هو حقيقة من حقائق هذا العصر، بل وأشار الكتاب العزيز إلى حقيقة أخرى من حقائق الحياة، وهي حب المال الشديد من قبل الإنسان كفطرة (إنه لحبّ الخير لشديد)، من طبيعة البشر حب التملك، وحب البقاء، فهما غريزتان فطريتان، وهما كذلك موجودتان في عمق الإنسان، ولكن كتاب الله العزيز يقلب هذه الغريزة من عالم السطح إلى عالم العمق، ويطرح فلسفة جديدة للحياة، لماذا التملك؟ ومن هنا فهو يبحث بعمق عن ظاهرة البحث والجمع للمال في الحياة الإنسانية.

الإنسان يجمع المال، ولكنه لا يمكن له جمع المال إلا إذا قام في حصره،بل في عدّه بشكل مستمر (الذى جمع مالا وعدّده)، يجمع المال، ثم يعدّده، ويحصيه بشكل دائم، ولكن السؤال، لماذا يجمع المال؟ فالجواب في الآية التالية (يحسب أن ماله أخلده) هو يعمل لأجل المال، فلا هدف من وراء المال سوى المال، فالمال بالنسبة لهذا الإنسان هدف أساسي، ولهذا فهو يجمع المال، ولا يوظفه في خدمة الناس، ولا في خدمة الأفكار والمبادئ، إنه يرى الحياة من خلال المال، وليس من خلال ما وراء المال.

الانسان يسعى ليجمع، ولكن لماذا يجمع؟ لأجل شهوة الجمع (الذى جمع مالا وعدّده)، ولأجل أن يفرح بوجود المال عنده بلا حدود (يحسب أن ماله أخلده)، هذه هي أزمة الإنسان الرأسمالي، فالناس يخدمون للمال، وليس العكس، هناك من يفرح حين يكون جيبه كبيرا، ولكنه لو نقص قليلا، فتصبح حياته كارثة، ومن هنا فهو لا يعمل للجمع فقط، بل للتكاثر إلى ما لا نهاية، ولكن ماذا بعد التكاثر؟ هنا السؤال.

إن المشكلة ليست في المال، بل في النظرة إلى المال، وليست كذلك في الجمع، بل فيما بعد الجمع، وليست المشكلة في المناصب، بل المشكلة في ما وراء المناصب، المشكلة ليست في الذكاء (smart)، ولكن المشكلة في الفلسفة، هناك سؤالان، كيف أجمع مالا؟ ولماذا أجمع المال؟ فالإجابة عن السؤال الأول بحاجة إلى فن وذكاء، أما الإجابة عن السؤال الثاني، فيحتاج إلى فهم لفلسفة الوجود، وفلسفة موقع المال في الحياة، ومن هنا، لا بد من قراءة عميقة للوحي وموقفه من المال، ومن هنا افترق عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما عن قارون.

لدينا نظرية تزدري المال، وتقدس الفقر، وتدعو الناس إلى الزهد، فهذه النظرية لا تصنع حضارة، ولا تقدم للبشرية حلولا واقعية، فهي دعوة إلى التطهير الذاتي، والخلاص الفردي، وهناك نظرية تقدس المال، وتزدري الإنسان، وترى من الإنسان سطحه، ولا تحاول رؤية العمق منه، فهي دعوة مادية تحوّل الإنسان إلى شيئ، وإلى سلعة، بل إلى مجرد رقم، وتلحّ في تحويله إلى مال، فهو أيضا مال من الأموال، وليس غير ذلك، فهو يعيش لأن يعيش، ويوم يفشل في العيش المادي، ينتحر، ويذهب من الدنيا. (ألهاكم التكاثر).

الإنسان يعيش اليوم في النظرية المادية، وفشلت النظريات الروحية أمام المدّ المادي الكبير، ولكن النظرية القرآنية لم تطرح بعد كما هي في توازنها، وثباتها، وأخلاقياتها، وقيمها، وقوتها، فالمسلم يجب أن يتحرك في الكون بلا توقف (هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه، وإليه النشور)، من خلال هذه الآية نعرف أن الكون وما فيه من كنوز وخيرات خلقت للإنسان، وسخرت له، بل وذللت لأجل الإنسان، فالكون معدً لخدمة الإنسان، إذا ما العمل؟

هناك منهج رباني في التعامل مع مفردات الكون، لا بد من الفهم كيف يعمل هذا الكون؟ وماذا في فيه من كنوز وخيرات؟ وهذا يحتاج إلى دراسات وتقديم مشاريع علمية حول الكون وخيراته (قل سيروا في الأرض فانظروا) ثم نحتاج إلى العمل، والعمل يجب أن يكون صالحا، ومتقنا، فالعمل الصالح ليس فقط هو العمل الديني، بل هو العمل لأجل إرضاء الرب، وإسعاد الذات، ونهضة الامة (فامشوا في مناكبها)، والأمر الثالث هو الاستفادة من النتائج (وكلوا من رزقه)، ونجد أن الله يطالب عباده المشي في الأرض، وكذلك أن يستفيدوا من رزق الله المبثوثة في الكون.

في سورة الجمعة، نجد آيات في غاية الجمال والكمال والتوازن، وفي غاية من العلم والحكمة (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة، فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا، لعلكم تفلحون).

إن المسلم هنا مطالب للعمل المزدوج، العمل الروحي، والعمل الدنيوي، وهما من أمر الله، عند إقامة صلاة الجمعة، يصبح البيع، والعمل الدنيوي حراما بنص الكتاب، ولكن بعد أداء صلاة الجمعة، يصبح البيع، والعمل الدنيوي أمرا ربانيا (فانتشروا في الأرض) ولماذا (وابتغوا من فضل الله).

لا يشكو المسلم من تصحّر روحي، ولا من جفاف إيماني تجاه المادة حين يتعامل مع الدرهم والدينار، ذلك لأن القرآن قال (وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا)، ولاحظ من كتاب الله الأمر (واذكروا الله كثيرا) متى؟ وأين؟ في داخل العمل الدنيوي، هنا نجد المسلم يجمع المال، ولكن ليس لأجل المال، بل لأجل ما وراء المال.

لا يعيش المسلم لأجل المال، بل يجعل المال خادما لأهدافه الكبيرة، ومن أهدافه الكبيرة السعي إلى إسعاد الناس، وتحريرهم من العوز والفقر، ولهذا نجد في كتاب الله، وفي السور القصار، بل وفي بداية الدعوة المحمدية دعوة صارخة في تحرير الناس من الفقر ومن العبودية استخداما للمال الراشد (فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة.يتيما ذا مقربة. أو مسكينا ذا متربة.)

إن هذه العملية تحتاج إلى قوة روحية، وإلى وجود تجمع بشري يؤمن هذا النهج الفريد، ولهذا قال تعالي (ثم كان من الذين آمنوا، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة) لو قرأنا الآيات مع سياقاتها نجد العجب، نجد المجتمع التراحمي، وليس فقط التعاقدي، كما نجد كذلك وجود الفرد الصالح كضرورة، لأنه يخدم أمته بماله، ولكن هذا الفرد بحاجة إلى قوة مجتمعية (كان من الذين آمنوا) فهو ليس فردا يعيش لذاته، بل هو عضو في تجمع مؤمن، وليس في مجتمع مادي، ثم يستمد قوة إنفاقه من المجتمع التراحمي (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)، والتواصي عملية تفاعلية، وليست عملية فوقية بحاجة إلى قوة الدولة فقط (إرادة عليا)، وليست كذلك بحاجة إلى وصايا روحية فقط من العلماء (الوعظ والإرشاد)، بل هي من الجميع، فالجميع للجميع، إنها خطوة متقدمة لا تجدونها إلا في مجتمعات القرآن.

حين أتممت التأمل، سال قلمي ليكتب هذه الكلمات، فالحمد لله الذى منح أمة الإسلام هذا الكتاب المعجز الذى لا تنتهي عحائبه، ولا تنقضي عبره، فهو كتاب بحاجة فقط إلى قراءة منهجية وعلمية،وحينها نتعرف إلى بعض كنوزه.

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights