د. عبد الرحمن بشير يكتب: محاولات أولية في الفهم
حاولت كثيرا قبل عقد من الآن فهم ولدي لأجل التواصل الإيجابي معه، بل جاهدت أن أغوص في عمقه، وأعرف من هو؟ وماذا يريد؟ ولكنى فشلت في ذلك مرات عديدة، وحاولت مرة أخرى أن أقترب منه كثيرا، ولكنه ابتعد منى أكثر، وجاهدت في فهم طموحه، ولكنه رفض أن يفتح لي هذا الباب المغلق، حينها عرفت أن السر ليس هو، بل السر يكمن في نوعية تربيتي، وتواصلي معه، وكيفية الحديث معه، كل ذلك، يجعل ولدي بعيدا عني، بل ويبتعد عني لأجل أن يصنع ثورة في المنزل، ولكنها كانت هادئة، وغير مرئية، حينها عرفت أن الطريقة التلقينية، والأسلوب الفوقي، والتربية الاستعلائية، كل هذه الأمور يجعل الولد عنيدا، وغير قابل للقبول بما تقول، هنا قررت أن أتغير، وأن أغير، أتغير فكرة وسلوكا، وأغير أسلوبا ومنهجا.
بعد أن غيرت كل ذلك، بدأت الحوار مع ولدي، وناقشت أفكاره، وحججه، وأدلته، ورؤيته بهدوء حينا، وبعنف حينا آخر، وصاحبته، وصاحبت أصحابه، وناقشت جميعهم، هنا لاحظت تغييرا يظهر في الأفق، وتعديلا للسلوك يتحقق، وتقييما متواصلا للحياة، فالولد بدأ يتغير، ولكنه ببطء، وبدأ يناقش معي أفكاره العميقة بدون خوف، وطرح تساؤلاته العميقة حول الدين بلا خجل، وناقش مسائل كثيرة منها مسألة السنة ومدى حجيتها في التشريع، وأحاديث كثيرة تفيد وجود حياة ما في القبر، وكيف يقبل العقل العلمي هذه المسائل؟ ومسألة وجود الإعجاز العلمي في الوحي، ولماذا ظهر هذا في العصر الحديث؟ كل هذه المسائل ناقشناها بهدوء، ومن خلال الكتب العلمية، والموضوعية، وبدأ الولد يقترب منى أكثر، ويطرح تساؤلاته علي، ويناقش بعمق معي، ولا يتردد أن يسأل ما يريد.
لقد كانت الرحلة طويلة وعميقة، طويلة من حيث المساحة، ولكنها عميقة من حيث الذات، فقد أخذت منا الرحلة سنوات عديدة، ولكنى كنت أراها رائعة، وأخذت منى زمنا عميقا في الذات، فقد قرأت كثيرا، وناقشت أفكارًا، وراجعت المسلمات عندي، وجمعت نفسي على قراءة بعض الكتب، وحينها بدأت أفهم أن التربية ليست تلقينا، ولا حتى دراسة وتدريسا، بل هي فهم وعلم، فن وذكاء، حب وعشق، تفاعل وتكامل، ولولا التحدي لما نجحت في فهم ولدي، ولولا الرفض المستمر منه لما فهمت الإشكالية، ليس من المهم أن تعيش مع ولدك، أو بنتك في منزل واحد، ذاك ضرورة من ضرورات الحياة، ولكن المهم في التربية أن تعيش في داخل الولد، وهذه تتطلب رحلة علمية وتربوية نحو العمق، والعمق ليس مفتوحا لك، بل هو مغلق، لأن الولد يمثل عالما، والإنسان عالم كامل كما قال الكسيس كاريل، ولكنه مجهول، وليس معلوما، والحديث عن التربية عند بعض علماءنا حديث سطحي، وكلامهم في التربية ليس عميقا، بل هو كلام في كلام.
كنت مع ولدي مرة في السفر، فسألني، لماذا روي أبو هريرة رضي الله عنه أكثر من خمسة آلاف حديث، وصار أكثر الصحابة رواية، مع أنه جاء إلى رسول الله عليه أفضل الصلاة واتم التسليم في العام السابع من الهجرة؟ هنا كلام عقلاني، ولكنه غير علمي، ولديه شبهة مقبولة، ولكن الرد عليها بحاجة إلى هدوء، ونقاش، وإحاطة، حينها بدأنا نقرأ كتبا عدة تتحدث في حجية السنة، وناقشنا المسائل علميا، ودرسنا بعض الكتب المهمة، ودون أن أسأل، تحدث إلي مرة أخرى، فقال لي: هذه الكتب فتحت لي نوافذ مهمة في التعامل مع النص النبوي، وعرفت أسرارا لم أكن أعرف بها.
لقد ناقشت معي مرة ابنة لأحد الدعاة في مسألة خطيرة، وهي مسألة (القوامة)، لماذا الرجل يكون مسئولا عن المرأة؟ ولماذا تصبح الطبيبة تحت الأمي لكونه رجلا؟ ولماذا شهادة المرأة على النصف، وكذلك الميراث؟ هذه الفتاة تملك عقلا جبارا، ولكنها متمردة، ولديها عقل ناقد، ولكنها لا تقتنع بسهولة، وعندها شبهات كثيرة، ولكنها تنتظر من الدعاة إقناعا، وليس كلاما عاديا، هنا، رأيت أن هذه الفتاة تطرح أسئلة العصر بلغة أنثوية، وتناقش الأفكار، ولكن بلغة نسوية، فلا بد من مناقشتها بهدوء، فبدأت أنا ووالدها نناقش معها بهدوء، فرأيت في وقت ليس بعيدا، وهي تناقش الموضوعات بهدوء، ولكن من خلال أفكار إنسانية.
رأيت أن أفضل أسلوب تربوي مع الولد هو النقاش العلمي، والهادئ، لا تكن مع الولد متكبرا، ولا متعاليا، كما أنه ليس من التربية الإدعاء بأنك تعلم كل شيء، ولكن احذر من السقوط في الفخ، لا تجعل ذاتك مقدسا، ولكن امنح الطفل مساحة راحة وأمن، اجعله يناقش ما يريد بعلم، قدّم له الأسلوب الناجح، ولا تقدم له الأفكار الطازجة، حينها علمت لماذا قدم لقمان المشروع التربوي لولده؟ ولم يقدم له المسائل العلمية، ولماذا ناقش لقمان القضايا الأساسية والكبيرة، ولم يناقش القضايا الثانوية؟ بل ولماذا طرح يعقوب النبي عليه السلام السؤال على أولاده، ولم يقدم له البرنامج؟ ما تعبدون من بعدى؟ فانتظر الإجابة منهم، ولم يقدم هو الجواب الصريح، والصحيح، والقاطع.
لقد علمت من خلال المعايشة أن الولد ليس الوالد، وأن زمنه ليس زمن الوالد، وأن التساؤلات المطروحة عنده، ليست هي التساؤلات المطروحة عند جيل الوالد، فالزمن يقطع المسافات بقوة، ويتدخل في إبعاد الأجيال بعضهم عن بعض، ولهذا نجد أنفسنا، ونحن نبقى في الزمن الماضي، ونريد أن نجرّ الولد نحو الماضي، بينما الولد يحاول أن يجرَ الوالد نحو المستقبل، فالصراع بين الأجيال موجود في البيوت، ولكن بصمت القبور، لا أحد يعرف ما في عقول الأولاد، وتغيرت الأحوال بعد ظهور النت والتواصل الاجتماعي بشكل مذهل، فكل واحد من الناس يعيش في عالمه، بل يحاول هذا العالم الافتراضي صناعة الغباء والتجهيل، ولهذا، يجب أن لا نعيش بعيدا عن عالم الولد، وحينها قررت أن أقرأ، وأعرف ما الذي يقرأ ولدي؟ ومن هم نجومه الفكريين؟ من هناك بدأ النقاش، وهو لا يدرى، واليوم هو يرى بشكل غير عادي أن والده من أفضل النجوم في عالم الأفكار، وتم ذلك بعد رحلة عميقة وطويلة من النقاشات الفكرية.
كنت سابقا حين أناقش أرفع صوتي بلا سقف، لأنني كنت خطيبا، ومن صفات الخطيب الناجح قوة الصوت، ولكن بعد زمن ليس بالقصير عرفت أن القوة ليست في رفع الصوت، ولا حتى في تجميل الصوت، ولكن القوة في الدليل والحجة، والنقاش أسلوب دعوي وفكري فريد، وهو من أساليب الإقناع، والنقاش يتطلب من المناقش احترام الآخر، والآخر ذات محترمة حتى ولو كان ولدك، ومن هنا، غيرت ذاك الأسلوب كليا، فلا أرفع صوتي على الناس، وأكره من يفعل ذلك، واستفدت من مقولة البنا رحمه الله في الوصايا العشر لجماعته: لا ترفع صوتك أكثر مما يحتاج إليه السامع، فإنه رعونة وإيذاء، وهذا كلام رائع تربويا، فاليوم يتحدثون عن خطورة الضجيج الصوتي على الأذن، بل ومن التحضر أن تتوجه لكلامك إلى من تخاطب، وليس إلى الآخرين.
لا أجمل، ولا أفضل من النقاش، والنقاش ليس كلاما فقط يقال ويرتجل في كل مكان، وعند كل زمان، بل النقاش يجب أن يكون في مكان هادئ، وفي زمن مختار، وفي ظروف مقبولة، وليس هناك من هو أفضل من أن تناقش ولدك، وتمنح له أهم الأوقات، فالمال ليس مهما إلى درجة النسيان في حق الأولاد، فاعط كل ذي حق حقه، ومن أهم الظروف، السفر مع الولد، والاختلاء به، والعيش معه بعيدا عن الضجيج، ومع هذا، فليس كل ولد يقتنع، بل هناك من يرفض، ولا يقتنع، وذاك وجه من وجوه الحرية، فقد رفض ابن نوح عليه السلام دعوته، وحال بينهما الموج، ولكن هناك مساحة من النقاش لا تنتهي أبدا بينك وبين ولدك.
عش مع الولد فتاة، أو فتى في حياتك، ناقش معهم كيف يفكرون؟ وكيف يخططون؟ وماذا يريدون؟ وكيف يحملون رسالة الدعوة؟ وكيف يجعلون فكرتك باقية من عقبك؟ ولكن لا تفكر في فرض القناعات عليهم، ولا تجعل الحياة معك صعبة، امنح مساحة كبيرة للحرية، وناقش معهم في هذا المناخ، حينها تبدأ معهم الطريق نحو الله والدار الآخرة، والسعادة في الدنيا والآخرة