د. عبد الرحمن بشير يكتب: معضلة السودان
معضلة السودان بين الفشل الداخلي، والتعثر الإقليمي، والمآل السياسي
في هذا اليوم ينهى الصراع المسلح في السودان شهره الثالث، ليدخل الشهر الرابع، ولا يظهر في الأفق أملا للمواطن السوداني الكريم، والذي أطاح النظام السابق آملًا في إقامة دولة ديمقراطية ومدنية، وهو أهل لذلك، ولكن كعادة الثورات في ذلك البلد، تم سرقة ثورته من قبل الجيش الذي انحاز نحو الثورة، وأطاح برئيس الجيش، ولكن تم ملاحظة بأن المحيط ساعد الجيش في إنجاح المهمة.
عاش السودان في عقود متتالية في حالة رخوة سياسية حيث تعرض النظام السابق هزات سياسية كبيرة بدأت في الخلاف السياسي الذي جرى بين مفكر النظام، والمهندس التنظيمي للحركة الإسلامية، الدكتور حسن الترابي رحمه الله، وبين الرئيس عمر البشير والمجموعة المتنفذة الذي انحازت إليه بحكم القوة التي يملكها، ولكن كان هذا الخلاف سهما قاتلا للنظام، وخاصة أنه قسّم الإسلاميين المنتمين إلى المؤتمر الوطني (الحركة الإسلامية) سابقا، ولكن صار هذا الانقسام سنة جارية فيما بعد، فكلما طال عهد النظام على الحكم، بدأ كثير من الإسلاميين التململ منه، وفي داخله، وخرج منه في وقت متأخر الدكتور غازي صلاح الدين، أحد القيادات الإسلامية المعروفة، وهو من أصحاب المذكرة العشرة، والذين كانوا وراء الانقلاب الداخلي الذي أطاح بالدكتور حسن الترابي، وقد خرج هو الآخر من النظام، وأعلن تشكيل حزبه (الإصلاح الآن)، وقد خاف كذلك السيد عمر البشير أن ينقلب عليه رفقاء الأمس، ولهذا أسس مليشيا (الدعم السريع) بقيادة حميدتي، راعي الإبل سابقا، ومنحها قوة وشرعية، وكان يقول دوما: حميدتي حمايتي، وهذا يعنى أنه كان يلعب في النار، ولم يكن ينظر إلى المستقبل السياسي للشعب السوداني، ولا للوطن السوداني.
لقد عاش رأس النظام كابوسا في الزمن الأخير حيث تعرض للملاحقة الدولية، وقد أصدرت المحكمة الدولية في حقه مذكرة اعتقال من النيابة، لأنه كان مدانا من قبلها في جرائم حرب، وفي ما يسمى بالإبادة العرقية في ولاية (دارفور)، ومن هنا، عاش النظام، وخاصة بعض المؤثرين فيه في حالة هيستريا، ولهذا صارت الدولة المكان الوحيد الذي يمنح الرئيس حالة من المعافاة، ومن السكن الروحي والنفسي، ومن هنا، قرر أن لا يسلّم الحكم، بل يجب أن يبقى حتى يجد متنفسا سياسيا، ولهذا لاحظنا في المرحلة الأخيرة من حكمه تخبطا سياسيا وخارجيا، فقد ذهب إلى سوريا لفتح الحوار مع النظام القاتل للشعب، والتقى مع بشار الأسد، وتحدثت وسائل إعلامية غربية بأن النظام يخطط في إقامة علاقات مع إسرائيل، وواجه النظام حالات اقتصادية صعبة مما جعل نظامه مرتهنا للأنظمة الخليجية التي تمنحه بعض الأموال التي لا تسمن ولا تغنى من جوع مقابل الحصول منه بعض الخدمات العسكرية والأمنية، ولهذا كان مع الدول التي حاصرت (قطر)، بل كان الجيش السوداني، وكان أغلبه من (الدعم السريع) هو الذي كان من التخطيط أن ينفذ الانقلاب على الإنسان الحاكم في قطر، وكل ذلك دليل واضح على أن النظام في السودان قبل سقوطه عاش مرحلة ما قبل الموت (الموت السريري).
لقد أعدّ النظام السابق برئاسة السيد عمر البشير المناخ السياسي لموت (الدولة)، فقد أقام نظاما سياسيا بوليسيا، كما أنشأ في الداخل جيوبا عسكرية في خارج الجيش المحترف، وأوجد نظاما أمنيًا خطيرا قد يفوق شطارة وذكاء على النظام الأمني الرسمي، واستفاد من خبرة الحركة الإسلامية، ومن تراكم تلك الخبرة، ولكنه استغل ذلك لحكمه فقط، وخلط ما بين الدولة كفكرة عامة، وما بين الحركة كمؤسسة سياسية خاصة في داخل الدولة، ومن هنا، رأينا التخبط السياسي في إدارة الدولة في المراحل الأخيرة، وكان هذا واضحا في تعامل عمر البشير مع السيد(عبد الله محمد قوش) رئيس الجهاز الأمني، والذي كان السبب الرئيسي في التخلص من الدكتور حسن الترابي، لأنه كان مقربا من الأخير، ولديه معرفة بالغة الأهمية في خطط الترابي، ولكن عمر البشير لم يكن لديه ثقة به، لأن الرجل يتحرك وفق خطط أمنية، ولهذا أقال، وسجن، وأعاد، وكل ذلك دليل على التخبط السياسي للنظام في هذه المرحلة.
عاش السودانيون في المراحل الأخيرة حالات اقتصادية خانقة، وأتقن النظام السياسي كيفية التعامل مع المكونات المدنية والسياسية، فكان يلعب بالحبال بشكل جيد، ومن الأدوات التى تم استخدامها، إيجاد الخلافات السياسية ما بين المكونات في الداخل، والاستفادة من خبرة التفاوض مع الجنوب، فكان يفاوض مع الجبهات في الداخل والخارج، ويحسن التنازل الشكلي، ويجذب بعض القيادات، ويمنحهم بعض الوزارات الخدماتية، وهذا بدوره يؤدى إلى خلافات داخلية ما بين المناضلين السياسيين في داخل تشكيلاتهم السياسية والعسكرية، فظن النظام السابق بأن هذه اللعبة قد تفيد معه في كل المحطات، وعند كل الأزمات، لأنها نجحت في صناعة سودان جديدة، وتخطت الثقافة السودانية السياسية، ومن هنا حسب النظام السوداني البائد بأن الخصم السياسي الداخلي ضعيف للغاية، ولكنه لم يكن يعلم أن التغيير لا يأتي من المعلوم فقط، بل التغيير السياسي المجتمعي يحصل مفاجأة، ومن دون إعداد سابق، ويأتي من حيث لا تحتسب الأنظمة، وكان الأمر كذلك.
سقط النظام السوداني الذي بقي في الحكم ثلاثة عقود، وهو الأطول في تاريخ الحكم السياسي في السودان في العصر الحديث، وقد تعرض لهزات سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكنه كان يخرج من كل ذلك في كل محطة، ولكنه كان يحفر في عمق الدولة حفريات عميقة تؤسس لمرحلة (الفناء) السياسي للدولة السودانية الحديثة، والفناء السياسي الذى تتعرض له الدولة في هذه المرحلة قد تؤدى إلى غياب الدولة الحديثة وتتشكل من وراءها دويلات جديدة، أو قد يدخل الوطن مرحلة تشبه مرحلة الصومال (السقوط بلا بديل)، وقد يستمر الصراع السياسي، ويتحول إلى حروب أهلية، وكل ذلك يتم تحت أعين الدول المجاورة، والتى تتنافس فيما بينها الدخول إلى الصراع السياسي والعسكري من العمق.
ماذا بعد؟
لقد قرر الاتحاد الأفريقي تجميد عضوية السودان فيه، وذلك سنة أفريقية، ولكنها ليست محايدة وموضوعية في أخذ هذه القرارات، يفعل ذلك مؤقتا كما فعل مع النظام المصري الحالي حين انقلب على الشرعية المدنية، وكذلك فعل مع حالة تشاد، وغيرهما، ولكن ذلك يتم تجاوزه سياسيا بعد قليل، ونحن نطرح السؤال المحوري، ما الذي جرى في السودان، وما زال يجرى؟
يعتبر هذا السؤال هو المفتاح، هل ما جرى في السودان تعتبر ثورة شعبية؟ أم كانت فورة شعبية تم استغلالها من قبل بعض القوى المدنية (الفاشلة) سياسيا، والقوى العسكرية المسنودة من الخارج؟
لم تكن ثورة عامة، وكبيرة، ومؤثرة، ولكنها كانت فورة شعبية قوية، وتم استغلالها بشكل حرفي من قبل بعض القوى الخارجية، والتي كانت لها تأثيرا داخليا مثل الإمارات العربية، والسعودية، وكذلك مصر، وتم التفاهمات الداخلية والخارجية في إطاحة رأس النظام، ومن يليه من الإسلاميين، واستبعاد القوى السياسية المنتمية للحركات الإسلامية، ولهذا تم تشكيل ما سمّي (قوى الحرية والعدالة)، وهو يمثل (المكون المدني)، كما تم تشكيل (المكون العسكري)، والذي يمثل الجيش بقيادة البرهاني، والدعم السريع بقيادة حميدتي، ومن هنا بدأ الخلاف السياسي العميق بين المكونين،واختلفا في كل شيء، ولكنهما كان يظهران للناس الاتفاق الشكلي والصوري، ومع هذا، فقد اتفق المكونان على أمر أساسي في السياسة الداخلية (تطهير الإسلاميين) من السياسة، وهو أمر غامض، ماذا يعنون من تطهير الإسلاميين من السياسة؟
لقد أقاموا مؤسسات سياسية مهمة من أعمالها الكبيرة (إزالة التمكين) وبهذا شكّلوا لجانا لهذه المهمة، لجان قانونية، وأخرى إدارية، وثالثة أمنية، ورابعة تربوية، ولكن ماذا يعنى إزالة التمكين؟
يعنى عند البعض من المكون المدني: إزالة الدين من الحياة السياسية، أو إزالة المفاهيم السياسية للدين، أو إزالة الأعراف الدينية المرتبطة بالحالات القانونية والتربوية، ويعنى عند البعض الآخر: إزالة الإسلاميين من الوجود دون تفرقة ما بين الإسلاميين الذي كانوا مع النظام السابق، ومن كان ضده، بل وكان يمثل خصما سياسيا عنيفا، ولهذا جمعوا كل السياسيين من التيار الإسلامي في السجون، وهذا صنع مؤخرا إيجاد ما يسمى بالتيار (الإسلامي العريض)، بل وخرج الإسلاميون من الكهوف من جديد ليعلنوا بأنهم لن يكونوا حطبا لهذا الحسد الأيديولوجي من قبل التيار العلماني الإقصائي، والاستئصالي، ولا يمكن لهذا الفريق النجاح في هذا المضمار، لأن التيار الإسلامي ليس فصيلا سياسيا بقدر ما هو تيار فكري، والأفكار لا تموت بموت أهلها، بل هي تبقى ما دام في الحياة من يؤمن بأحقيتها في السيادة والقيادة، وفي السودان كما هو في العالم الإسلامي ملايين من البشر لديهم اعتقاد أيديولوجي عميق بهذا.
تخطط الدول المنتمية (للإيغاد) بأن تصبح السودان كالصومال، وتذهب جيوشها المرتزقة في الصومال إلى السودان أيضا، واستعدّت لذلك، بل وقررت بعض الدول لهذا، ومن هنا كان الرد القاطع من قبل الحكومة الحالية في السودان بأن البلد ليس مستعدا للاحتلال، وأعلن ذلك بوضوح نائب رئيس الحكومة السيد مالك عقار، ومن قبل، خططت السعودية والولايات المتحدة الأمريكية أن السودان لا يجب أن تخرج من التيه السياسي، ولهذا تشتغل السعودية مع الحليف الاستراتيجي لها، الولايات المتحدة صناعة (الهدن)، وليس عن انتهاء الصراع العسكري، واليوم بدأت مصر في الدخول في الصراع من نافذة (الاجتماعات)، لقد طرحت مفهوما جديدا للحوار (دول الجوار)، وبهذا، تحاول تجاوز السعودية والإمارات، وتغفل عن دور دول (الايغاد) المهم إقليميًا، وبهذا لم يتم إرسال دعوة للأمين العام لمنظمة الايغاد، كما تمت إرسال الدعوات للأمين العام للاتحاد الإفريقي، والأمين العام للجامعة العربية، وهذا يدل على منافسة الدول في التدخل للشأن الداخلي.
إن بعض الدول تنحاز بشكل قوي للدعم السريع (الإمارات، وروسيا) نموذجا، وبعض الدول الاخرى تنحاز للجيش (مصر) نموذجا، كما أن بعض الدول لا تنحاز إلى أي جهة، ولكنها تبحث عن مصالحها في هذا الصراع (إثيوبيا) نموذجا، وهناك من يبحث في الأزمة السودانية مصالحة ذاتية (كينيا، وجنوب السودان، وجيبوتي)، وكل ذلك يتم في غياب الرؤية الداخلية في السودان، كما يجب ملاحظة غياب الكبار من الداخل السوداني، والذي يؤدى بدوره إلى هذا التدخل، وخاصة غياب الإمام الصادق المهدي، السياسي المحنك، والدكتور حسن الترابي، الزعيم الإسلامي المبدع في طرح الأفكار والرؤى في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان الحديث.