د. عبد الرحمن بشير يكتب: نعيش لنضيف.. وليس لأجل العيش
إليكم نماذج من تاريخ صناع التاريخ، ومن رجال عاشوا في التاريخ، ولكنهم صنعوا تأثيرا، وأوجدوا إضافة نوعية في لحظات فاصلة من حياتهم:
أولا: تحرك موسى عليه السلام نحو خارج وطنه وهو يبحث عن الحرية لنفسه، فوجدها في مدين، ولكنه قدّم هناك عملا إنسانيا، وهو غريب، ولاجئ، ولا يعرف مصيره، فوجد في طريقه سيدتين تذودان عن السقيا، فقدم لهما المعونة دون أجر، ثم جلس تحت ظل شجرة، فنظر إلى السماء منتظرا منها الخير المطلق (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) فوجد الإيواء والزوجة والتربية والصناعة ليحمل رسالة التوحيد والتحرير بعد ذلك.
ثانيا: يدخل يوسف عليه السلام السجن بعيدا عن أهله، وفى غربة تامة، ويعيش هناك وحيدا، وليس معه أحد من أهله، ولا من أتباعه، فهو ليس من أهل الوطن، وليس كذلك من أهل الملك والحكم، وفي هذا المكان، يجد نفسه بين الناس، فبدأ يصلح، ويدعو ولكن عن طريق الإحسان إلى الناس، وليس فقط عن طريق تقديم الطقوسات، فأبهر الناس من خلال تقديم الأفكار وتصحيح العقائد (يَٰصَىٰحِبَىِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَٰحِدُ ٱلْقَهَّارُ) فيخرج يوسف من السجن حاكما، وليس مواطنا صالحا فقط، ولكنه بقي محسنا في الحياة كلها.
ثالثا: دخل البنا رحمه الله في المسجد ليصلي بالناس صلاة التراويح، فقامت معركة بين السلف والخلف، فقال ممثل السلف: نصلي ثمانية، ثم نتبعها ثلاثة، فهذه هي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتكلم ممثل الخلف قائلا: وصلنا من السلف أنهم صلوا عشرين ركعة، وما زال الناس يصلون في الحرمين والقدس، وفي العواصم الكبري للأمة ثلاثا وعشرين ركعة، وكادت المعركة تقوم، وهنا ندخل البنا رحمه الله بحكمته فسألهم بلا مقدمات طويلة: ما حكم إقامة التراويح؟ قالوا جميعا: سنة، وما حكم وحدة الأمة؟ قالوا جميعا: فريضة، فقال: صلوا صلاة العشاء، فاذهبوا إلي البيوت، وصلوا كما تريدون، ولكن لا تقتلوا الفرض لأجل السنة.
رابعا: قال الجنرال الإيطالي لعمر المختار: متى تنهي النضال، وتوقف الحرب؟ قال عمر المختار رحمه الله: نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت، إنها كلمة تحمل معنى لا يفهمها الأغبياء من علماء السلاطين، ومن سماسرة الاستعمار، فحركة الشعوب نحو التحرير لا تتوقف حتى تتحرر الشعوب والبلدان، ومن هنا نجد أن الشعوب العظيمة تقدم الأثمان الباهظة لأجل المستقبل، نحن لا نستسلم، نموت لأجل القضية وهذا نصر، أو ننتصر لأجل القضية، وهذا نصر كذلك.
خامسا: قرّر مالك بن نبي رحمه الله القاعدة العظيمة بين المستعمر بكسر الميم، والمستعمر بفتح الميم، وهي (القابلية للاستعمار) فلا يمكن أن يعيش الاحتلال بدون مقاومة إلا أذا كانت الشعوب مهيئة للاستعمار، وقبل الاستعمار حالة أعمق وهي وجود (الاستغفال)، ولا عيش لهذه الحالة إلا إذا كان الوعي مغيبا، أو مزيفا، أو مشوها، وهي التي سماها علي شريعتي (الاستحمار)، وهذه الحالة هي التي تؤدي إلى القابلية للاستبداد ما بعد رحيل الاستعمار، أو القابلية للاستعمار ما قبل الاحتلال، وأثناء الاحتلال.
سادسا: يقول ابن خلدون: الظلم مؤذن بخراب العمران، فهذه قاعدة استقاها من التاريخ، واستنبطها من الكتاب العزيز، ولكنه كتب هكذا، وبهذه الدقة العالية، فلا خلود للظلم، ولا ولكن الناس يتأقلمون من الظلم، ويجعلونه قاعدة عامة، والسبب هو أن ابن خلدون ذكر ذلك في قاعدة أخرى: الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، وبين الظلم والقهر علاقة، كما أن الأخلاق السيئة وخراب العمران علاقة عضوية، فالنهاية لهذه الشعوب واحدة.
سابعا: قال موسى دايان: العرب لا يقرؤون، ولكنى وجدتهم يسمعون كثيرا، ويصدقون الأخبار المزيفة بسرعة، وجاء بعده من يقول: وإذا قرأوا لا يفهمون، ولكنى وجدتهم يفهمون بيد أن الفهم يكون معلولا، وهذا أخطر، فقرر بعد ذلك أحد العلماء فقال: وإذا فهموا لا يعملون، ولكنى عرفت مؤخرا، أنهم يعملون بقوة، ولكن المشكلة ليست في العمل، بل في الفهم، وإذا أردنا تعديل السلوك، فلا مناص من تصحيح العقل بالفهم السليم.
أما بعد: ماذا يجب علينا في هذه اللحظة؟
لا بد من تحسين القراءة، ومن تجديد الفهم، وتصويب المسارات، وكل ذلك يتطلب من الاستفادة من القراءات المختلفة للكتب النوعية، وخاصة تلك التي تحمل أفكارا عظيمة، وليس فقط صفحات كثيرة، فالنوعية مطلوبة في هذا الزمن، وليست فقط الكثرة، فالقراءة إضافة نوعية، وليست فقط إضافة كمية، وليس مهما كم قرأت؟ ولكن الأهم منها، ماذا قرأت؟ وماذا استفدت؟ وما الذي تغير في سلوكك؟ وفى مسارك؟ وما الجديد في حياتك؟
إن الحياة تمضي نحو المستقبل، ولكن لدينا من يمضي نحو الوراء، فلا تقدم من يعيش في الزمن الماضي بلا إضافة، وشكرا للمتابعة.