السبت مايو 18, 2024
بحوث ودراسات

د. علي الصلابي يكتب: الحالة الدينية للعرب في الجاهلية

ابتليت الأمَّة العربيَّة بتخلُّفٍ دينـيٍّ شديـدٍ، ووثنيَّـةٍ سخيفـةٍ لا مثيل لهـا، وانحرافاتٍ خلقيَّةٍ، واجتماعيَّةٍ، وفوضى سياسية، وتشريعيَّـةٍ، وَمِنْ ثَمَّ قلَّ شأنهم، وصاروا يعيشون على هامش التَّـاريخ، ولا يتعدَّون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدَّولة الفارسيَّة أو الرُّومانيَّـة، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء، والأجداد، واتِّباع ما كانوا عليه، مهما يكن فيه من الزَّيغ، والانحراف، والضَّلال، ومن ثَمَّ عبدوا الأصنام، فكان لكلِّ قبيلةٍ صنمٌ، فكان لهُذَيل بن مُدْرِكة: سواع، ولكلب: وَدُّ، ولمذحج: يَغوث، ولخيوان: يَعوق، ولحمير: نَسْر، وكانت خزاعة، وقريش تعبدان إسافاً، ونائلة، وكانت مناةُ على ساحل البحر، تعظِّمها العرب كافَّـةً، والأوس، والخزرج خاصَّـةً، وكانت الَّلات في ثقيف، وكانت العُزَّى فوق ذات عِرْقٍ، وكانت أعظم الأصنام عند قريش.

وإلى جانب هذه الأصنام الرَّئيسة، يوجد عددٌ لا يحصى كثرةً من الأصنام الصَّغيرة، والَّتي يسهل نقلها في أسفارهم، ووضعها في بيوتهم.

روى البخاريُّ في صحيحه عن أبي رجاء العُطَارِديِّ قال: «كُنَّا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير منه ألقيناه، وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً؛ جمعنا جُثْوَةً من ترابٍ، ثمَّ جئنا بالشَّاة، فحلبناه عليه، ثم طفنا به!!!» [البخاري (4376)].

وقد حالت هذه الوثنية السَّخيفة بين العرب ومعرفة الله تعالى، وتعظيمه، وتوقيره، والإيمان به، وباليوم الآخر، وإن زعموا أنَّها لا تعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله. وقد هيمنت هذه اآلهة المزعومة على قلوبهم، وأعمالهم، وتصرُّفاتهم، وجميع جوانب حياتهم، وضَعُف توقيرُ الله في نفوسهم، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [الأنعام: 36].

أمَّا البقيَّة الباقية من دين إبراهيم عليه السلام فقد أصابها التَّحريف، والتَّغيير، والتَّبديل، فصار الحجُّ موسماً للمفاخرة والمنافرة، والمباهاة، وانحرفت بقايا المعتقدات الحنيفيَّة عن حقيقتها، وألصق بها من الخرافات، والأساطير الشَّيء الكثير.

وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء، الَّذين يرفضون عبادة الأصنام وما يتعلَّق بها من الأحكام، والنَّحائر، وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة، والدَّم، وكان يقول:

أربَّاً واحداً أم ألفَ ربٍّ؟

أدينٌ إذا تُقُسِّمتِ الأُمُورُ؟

عَزَلْتُ الَّلاتَ والْعزَّى جميعاً

كذلكَ يفعلُ الجلْدُ الصَّبورُ

فلا عُزَّى أدينُ ولا ابْنَتَيْها

ولا صَنَمي بني عَمْرٍو أزُورُ

ولا غنماً أدينُ وكان رباًلنا

في الدَّهر، إذْ حُلْمي يسيرُ

ولكنْ أعبدُ الرَّحْمنَ ربِّي

ليَغْفِرَ ذَنْبي الرَّبُّ الغَفُور

وممَّن كان يدين بشريعة إبراهيم، وإسماعيل – عليهما الصَّلاة والسَّلام – قَسُّ بن ساعدة الإياديُّ: فقد كان خطيباً، حكيماً، عاقلاً، له نباهةٌ، وفضلٌ، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بَشَّر بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقد روى أبو نُعَيْمٍ في دلائل النُّبوَّة [(1/104 – 105 برقم 55)] عن ابن عباسٍ قال: «إنَّ قسَّ بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عُكَاظ) فقال في خطبته: سَيُعلَمُ حَقٌّ من هذا الوجه – وأشار بيده إلى مكَّة – قالوا: وما هذا الحقُّ؟ قال: رجلٌ من ولد لؤيِّ بن غالبٍ يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيمٍ لا ينفد، فإن دعاكم؛ فأجيبوه، ولو علمتُ أنِّي أعيش إلى مبعثه؛ لكنتُ أوَّلَ من يسعى إليه»، وقد أدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، ومات قبل البعثة.

وممَّا كان ينشده من شعره:

في الذَّاهبينَ الأوَّليــنَ

مِنَ الْقُرونِ لنا بصائرْ

لـمَّا رأيتُ موارداً

لِلْمَوْتِ ليس لها مَصَادِرْ

ورأيتُ قومي نحوَها

يمضي الأصَاغرُ والأكابِرْ

لا يَرْجِعُ الماضي إلــيَّ

وَلا مِنَ الباقينَ غابِرْ

أيقنتُ أنِّي لا محالةَ

حيثُ صارَ القومُ صائرْ

كان بعضُ العرب قد تنصَّر، وبعضهم دخل في اليهوديَّة، أمَّا الأغلبيَّة؛ فكانت تعبد الأوثان، والأصنام.

المراجع:

– علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 25-27.

– سلمان العودة، الغرباء الأوَّلون، ص 60.

– ابن كثير، السِّيرة النَّبويَّة، ص (1/163).

– أبو شهبة محمد بن سويلم، السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القران والسُّنَّة؛ ص (1/80).

Please follow and like us:
د. علي الصلابي
مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب