قلتَ: إنما الأرضُ المقدسةُ لمن سقاها بدماءٍ طاهرة، لا يعرف الخنوع، ولا يهابُ الموتَ، فخضعنا لك، وكان لكلامك في قلوبنا وقْعُ الوحي، يهزُّ الجوارح، ويبعث في الأرواح جذوةً لا تنطفئ.
وقلتَ، وقد ملأتنا بوهج الإيمان وشوق الفداء: لا يرضيني إلا أن أراكم تصلّون تحت ظلال السيوف، حيث لا أمانَ إلا بترس الإيمان، ولا سترَ إلا بدرع اليقين، فقلنا: لبيك وسعديك، فرضاك آثر إلينا من أرواحنا، وأعزّ علينا من كل ما في الدنيا من غال ونفيس.
لِتشهد السماواتُ السبعُ، ولتشهد الأرضون وما بينهن، أنا أقمنا على عهدك، ثابتين كالجذوع في وجه الريح، وخصمنا الموتَ بجباهٍ سجدت لك وحدك، والصواريخ تمطر فوق رؤوسنا، لا نفرّ، ولا نرتدّ، نرتّل القرآن تحت لهيب النار كما يُرتَّل تحت ظلّ السكينة، رُكّعاً سُجّداً كأنّما خُلقنا للصلاة على أرضٍ تنزف، ومساجدُنا تُنسف، وبيوتُنا تتهاوى فوق أعناقنا، لا نعرف الانكسار، فما عاهدناك إلا على الصبر، وما ركبنا دربك إلا ونحن نعلم أن الجنة في نهاية الطريق، وأن الشهادة وعد الصادقين.
وقلتَ، وأنت من أيقظت فينا ضمائرَ العزم، وغرست في أرواحنا أشجارَ الثبات: تريد أن ترى صمودنا، ونحن لك صائمون، لا نفطر على رغد الحياة، بل على مرارة الابتلاء، ولا نتسحر إلا من طهر ذكرك، ولا نرتوي إلا من معين التوكل عليك، فشهد الخلق أجمعون، وارتعدت أمامهم صفحات التاريخ، أنَّا صمنا لك لا عن شهوةٍ أو طعامٍ فقط، بل عن الشكّ والتراجع، وعن كل ما يُغضب وجهك الكريم، تسحرنا على نور أسمائك، نردّدها في ظلمات الحصار، ونفطر حين تغرب شمس الصبر، على اسمك وحدك، رغم جوع البطون وظمأ الأرواح، فما كان لنا في الإفطار إلا نَفَس يخرج بالحمد، ودمعة تُكفّن في أكفّ الدعاء، وقد مُنع عنّا الطعام، لا من قِلّة رزقك، بل من جور أعدائك، وحُرمنا الماء، لا لأن السماء بخلت، بل لأن الأرض اشتدّ فيها الظلم، وانطفأ فيها نور الرحمة، تُرفع جنائزنا عند كل مغيب شمس، كأنّ الإفطار موعد لقاء معك، وكأنّ الموت صار بابًا آخر من أبواب الصيام، نخرج من دنيانا كما دخلناها طاهرين، جياعًا إلا إليك، عطاشى إلا لرضاك، وما وهنت عزائمنا، ولا خارت أرواحنا، بل ازددنا يقينًا بأنك ترانا، وتُحصي خطانا، وتعدّ أنفاسنا عند كل زفرة، وتستقبل شهداءنا كما يُستقبل العائد من سفرٍ طويل، صمنا، لا في القصور ووراء ستار الجدران، بل تحت القنابل والنيران، لا على موائد مزخرفة، بل على تراب الأرض الجريحة، نصلي والدم من حولنا يسيل، ونكبر والرجع في السماء يشهد أننا صبرنا، واحتسبنا، وثبتنا.
قلتَ: إن أرضي المقدسة ظمأى، عطشى لا يرويها الغيث، ولا تُطفئ غلتها الأنهار، وإنما دماؤكم الطاهرة وحدها هي الماء، وهي البلسم، وهي عهد الوفاء، فقلنا: سمعًا وطاعةً يا من ناديْت فارتجّت القلوب، وأشرتَ فانتفضت الأرواح، فسقيناها بدمائنا، لا ترددًا ولا جزعًا، بل إيمانًا بأنّ الأرض لا تروى إلا بزكاة الدم، وأنّ الحرية لا تُولد إلا من رحم الألم.
فاسأل مخيمات خان يونس وقد حفظت أسماء الشهداء كما تحفظ الأم أسماء أولادها، واسأل الشاطئ، وجحر الديك، ودير البلح، وبيت لاهيا، وبيت حانون، ورفح التي تنام على جراحها وتصحو على زغاريد الأمهات المفجوعات، واسأل الشوارع التي بلّطناها بدمائنا، والمستشفيات التي غصّت بأجسادنا، والمدارس التي درّسنا فيها معنى الفداء، والجوامع التي صدحت بالتكبير ونحن نودّع الدنيا سجودًا، سل هذه وتلك، وسل أعداءك وأعداءنا… هل كذبنا العهد؟ هل تقاعسنا وتباطأنا؟ هل بخلنا بأنفسنا؟
وسل الطغاة المستكبرين… سيجيبونك أننا بذلنا المهج والنفوس، ومضينا إلى المقابر كما تمضي العرائس إلى أفراحها، تلطخت وجوهنا بالدماء، نعم، إنها دماء العزّ والكرامة، دماء لا تعرف الذلّ، ولا تجري إلا إلى السماء.
لسنا على الأعقاب مدبرين، ولا على ظهورنا تُدمى كلومنا، بل جراحنا في النحور والصدور، في مواطن الشرف التي لا ينالها إلا من باع دنياه وربح الآخرة، هذا طريقنا… فلا تسأل عنّا إلا الأرض التي ارتوت، فهي أصدق شهادة من ألف لسان.
قلتَ: ألستم أولى الناس بإبراهيم؟ قلنا: بلى، نحن أولى به، وأحقّ بملّته، ونحن له متبعون، وعلى خطاه سائرون، قلتَ: ألم يبلغكم أنّي ابتليت الخليل بكلماتٍ فأتمهن؟ قلنا: بلى، وقد علمنا أنه صدق الوعد، وأوفي بالعهد، فكان للبلاء أهلًا، وللرب خالصًا، قلتَ: ألم يُسلِم أبواكم أنفسهما لنا؟ قلنا: بلى، قلتَ: هل طلعت الشمس قط على مشهدٍ أدهى وأشد هولًا من شيخٍ يرفع السكين ليذبح وحيده، الغلام اليافع، ثم يُسلم ويُسلم؟ قلنا: لا والله، ما رأينا أعظم من ذاك البلاء، وإن إبراهيم لَإمامٌ قانتٌ مطيع، صدّيقٌ أوّاه، لا يُدانيه أحد في تسليمه، إلا من سار على دربه في اليقين.
قلت: نريد منكم ما أردنا من إبراهيم، فما توانينا، وما تلكّأنا، بل تسابق شبابنا كما تسابق الخليل، بعزائم لو وُضعت على الجبال لأذابت صخورها، فمضوا إلى الشهادة، راضين، ثابتين، وما بدّلوا تبديلا.
ثم استزدتنا، فهبّ شيوخنا، تكسو وجوههم سكينة الإيمان، وتتلألأ في عيونهم أنوار الفداء، فتقدّموا في صرامةٍ أذهلت العدو، وأربكت صفوف الطغاة.
ثم استزدتنا، فما توانت نساؤنا، بل أهدين لك مهجًا نقيّة، واحتسبن أبناءهن، وأزواجهن، وآباؤهن، وما ارتدت العزائم، بل ازدادت رسوخًا.
ثم استزدتنا، ففتح لك أطفالُنا صدورَهم الصغيرة، وتقدّموا إليك بأرواحٍ طاهرة لم تعرف ذنبًا، ولا دنّسها لهو، وقالوا بعيونٍ لم تخطئ البراءة: ها نحن، فاقبلنا.
كلّما زدتنا نداءً، زدناك وفاءً، وكلّما دعوتنا وجدْتنا كما وجدت إبراهيم، أمةً تتقلب في البلاء كما يتقلب العاشق في حنينه، لا يثنينا الموت، ولا تُطفئ النار جذوة الولاء في صدورنا.
قلتَ: فاذكروني أذكركم، فما ضعفنا، ولا غفلنا، بل ملأنا الدنيا بذكرك، تنضح به مساجدنا، وتخفق به راياتنا، وتلهج به ألسنتنا في السراء والضراء، في الركوع والسجود، في السكون والصخب، حتى صار ذكرك أنفاسنا، ودثارنا، وميراثنا في الأرض.
وقلتَ: أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم، فنظرنا في أنفسنا، فما وجدنا أغلى من العهد، ولا أصدق من الوعد، فوفّينا، وثبّتنا الأقدام، وربطنا على القلوب، وهِمْنا في دربك لا نطلب جزاءً ولا شكورًا، بل رضاك وحدك، هو الغاية والمبتغى.
وهيهات… هيهات أن نقول لك: أوفِ بعهدك إن كنت وفياً، فمن أوفي من الله عهداً؟ ومن أصدق من رب العالمين ميثاقاً؟ ومن أكرم من مالك الملك إذا وعد فأوفي، وإذا عاهد فما نكث؟ إنّا نعرفك، ونعلم أنك لا تُخلف الميعاد، وأنك لا تُضيّع عندك دمعة، ولا تتيه في رحابك أنّة مكروب.
أسلمنا لك طائعين، لا عن قهرٍ ولا جزع، بل عن محبةٍ وطمأنينة، وبسطنا لك القلوب قبل الأيدي، ورضينا بك رباً، لا نعبد سواك، ولا نرجو غيرك، ولا نتوجه إلا إليك في شدّة أو رخاء، ونتحنف إليك منيبين، ولك موالين، ولا نبتغي إلا وجهك الكريم.