يا ابن الملوّح! لقد عقمتْ نجد بعدك، فما عادت تنجب إلا الصمت والجفاء، وصارت صحاريها جرداء، لا تنبض إلا برياح الحزن العاتية، وبواديها مقفرة كأنها لم تعرف يومًا حنين الراحلين، ولا خطو العشّاق بين شعابها، وخيامها خاوية، لا تطرب لهُدى ناقةٍ، ولا تهتز لصوت حادٍ في السَّرى، وديارها جوفاء، كأنها ما آنست يومًا ضحكة فتانةٍ عامرية، ولا خفقت في جنباتها روحُ عاشقٍ مفتون، يهتف في وجده:
يا للرجالِ، لهم بات يَعروني
مستطرفٌ، وقديمٌ كاد يُبليني
فيا قيس! كيف سكنت الريحُ بعدك؟ وكيف أمسى الهوى حديثًا منسيًا، لا يسكن القلوب، ولا ترويه الربى؟ إنّ الحبّ موهبة من أكرم المواهب، ونفحة من نفحات الروح العلوية، لا تُوهَب إلا لصاحب قلبٍ طاهر، ونفسٍ أبية، ورجلٍ يملك من الحزم ما يعصمه، ومن العزم ما يرفعه فوق الدنايا.
وكيف يطمح إلى ما طمحتَ إليه، يا ابن الملوّح، من انكوى بنار الجُبن، وتزيّا بلباس الخنوع؟ ذاك الذي قال تهكمًا أو عجزًا:
مساكينُ أهلُ العشقِ، ما كنتُ أشتري
حياةَ جميعِ العاشقينَ بدرهمِ!
فما كان منّي، وقد هزئتْ كلماته بالعاطفة وازدرى طريق الهوى، إلا أن رددتُ عليه، لا بسهام الكلمات وحدها، بل بحكمة شاعر مجرِّب، ولسان الأحوص إذ قال:
إذا أنتَ لم تعشقْ ولم تدرِ ما الهوى
فكنْ حجرًا من يابسِ الصخرِ جَلمَدا
فالعشق امتحان الأرواح، لا يقوى عليه إلا من صفا جوهره، واشتدّ عوده، أما الضعفاء، فمكانهم في ظلّ التردد، لا في وهج المحبة، لقد قلتَ فأبدعت، وناجيت فأوجعت، ووالله ما خُلق الشعر إلا ليُقال في مثل هذا الشجن:
تشكى المحبونَ الصبابةَ، ليتني
تحملتُ ما يَلقَونَ من بينهم وحدي
وكانتْ لنفسي لذّةُ الحبِّ كلّها
فلم يَلقها قبلي محبٌّ ولا بعدي
فأيّ نفسٍ هذه التي توسّعت في العشق حتى ضاقت بها الدنيا؟ وأيُّ قلبٍ هذا الذي أراد أن يفدي العاشقين جميعًا، ليبقى الألم له وحده، والحنين له وحده، كأنّ الهوى خُلق فيه واكتمل به!
يا قيس! ما زال بنو الحريش بن كعب يتناسلون، ويُنجبون الحسان من الفتيات، طويلات الأعناق، عفيفات الأخلاق، ولكنّ أرحام نسائهم قد أعيت أن تلد ليلى أخرى، كأنّ رحم الزمان قد نضب عن مثلها، وكأنّ الأرض ضاقت أن تُعيد على الدنيا فتنتها وسحرها، فلم تُنجب بعدها من تسير بذكرها الركبان، وما أجود ما نُقل عن ليلى، وما أصدقه:
ألا ليت شعري، والخُطوبُ كثيرةٌ
متى رحلَ قيسٌ مستقلٌّ فرَاجِعُ؟
بنفسيَ من لا يستقلّ برحله،
ومن هوَ، إن لم يحفظِ اللهُ، ضائعُ
كأنها كانت تعلم أن العاشق لا يُركن إلى غير الله في غربته، وأنه إن غاب، فالخطب لا يُرد، ولا الرجاء يُجدي، وأنّ من مثل قيس، إن لم يكن له في السماء حارس، فهو في الأرض ضائع بين جنونه وحبّه، فيا لها من سطورٍ، ما خُطّت إلا بنَفَسِ الحنين، ولا قيلت إلا في زمنٍ ضاق بمن فيه، وفقد فيه الناس نُبل الهوى وصفاء العشق.
يا أخا بني تميم! لقد توالد بنو جعدة وتكاثروا، وكثرت فيهم الأفخاذ والبطون، غير أن المجد في الحب لا يُورَث كما تُورث الديار، ولا يُكتسب كما تُكتسب الإبل والمَغنم، فما نبغ فيهم فتى يجاريك في قافيتك، ولا نهض من بينهم قلب يخفق كقلبك، يهذي بالهوى، ويتكسّر في حنجرته الحرف كما تكسّر الوجد في نبراتك، إنّ البُهم ما تزال تسرح في أرض نجد، ترعاها الغلمان والبنات عند جبل التوباد، والريح تمرّ على مرابضهم كما مرّت على عهدك، لكنّها ما حملت لنا من هناك صوتًا يشبه أنينك، ولا همسة تداني قولك:
تعلّقتُ ليلى وهي ذاتُ ذُؤابةٍ
ولم يبدُ للأترابِ من ثديِها حجمُ
صغيرين نرعى البُهمَ، يا ليتَ أنّنا
إلى اليومِ لم نكبرْ ولم تكبرِ البُهمُ
فيا حسرة الشعر على من لا يحسنه! ويا ليتك ترى كيف صمتت الديار بعدك، وكيف انطفأت النار التي كنت تُوقدها في قلوب العاشقين! لقد كنتَ الفتى الذي علّق قلبه قبل أن يعي الهوى، فشبّ على نارٍ ما عرف لها خمودًا، فأيُّ قلبٍ يسكنك، يا قيس؟! وأيّ لسانٍ نطق به وجعك؟
مررتُ بالمجانين، أولئك الذين أكل الهوى عقولهم، فأُخذوا من صدور أهلهم وسُلسلوا بالسلاسل، وقيّدوا في قيظ الشمس وزمهرير الشتاء، فما وجدتُ في جنونهم صدق جنونك، يا قيس، ولا في أنينهم صدى لهتاف قلبك حين انفجر شجنًا وقلت:
أظنُّ هواها تاركي بمُضَلّةٍ
من الأرضِ لا مالٌ لديَّ ولا أهلُ
ولا أحدٌ أقضي إليه وصيّتي
ولا وارثٌ إلا المطيةُ والرّحلُ
مَحا حبُّها حبَّ الأُلى كنّ قبلها
وحلّتْ مكانًا لم يكنْ حلّ من قبلُ
فأيّ صدقٍ أبلغ من هذا؟ وأيّ فقرٍ أغنى من فقر المحب حين لا يرثه سوى راحلته؟ لقد شهدتَ على نفسك شهادة لا يُبطلها زمن، بأنك لم تُبقِ لحبٍّ قديم أثرًا، ولم تذر لأحدٍ في فؤادك موضعًا بعد ليلى، وكأنّ الهوى حين حلّ بها، سدّ كلّ المنافذ، وطمس كلّ أثر، فلم تعد ترى سواها، ولم يعد في قلبك متسعٌ إلا لذكراها.
يا قيس! لقد سُلبوا عقولهم، فصار جنونهم خبالاً، أما أنت، فقد وهبت عقلك حبًا، فصار جنونك حكمة، وصوتك، وإن خرج من فم المتيم، دخل مسامع الناس كأنّه وحي، جنّوا صراخًا، وجننتَ صمتًا، جنّوا هذيانًا، وجننتَ شعرًا، فلو كانوا من مدر الهوى، فأنت من جوهره.
لقد نزلتُ بحُرُجات الحيّ حيث رحلوا، ومررتُ بذي سَلَم، ومنعرج اللوى، أتتبّع الآثار البالية، وأستنطق الصخر والرمل عن قومٍ ما عادوا يُلبّون النداء، فما سمعتُ صوتًا يعلو على وجيب قلبي، ولا أنينًا يشبه الصدى الذي خلّفته كلماتك، حين قلتَ في لحظة تيه بين الصحو والوجد:
إنّي لأجلسُ في النادي أُحدّثهم
فأستفيقُ، وقد غالتني الغُولُ
يهوى بقلبي حديثُ النفس نحوكم
حتى يقولَ جليسي: أنتَ مخبولُ
فأيّ مجلسٍ ذاك الذي تَحضُره بجسدك، وقلبك في رحابٍ أخرى، يهيم في طيف ليلى، ويُسافر في بيداء الذكرى؟! حتى إذا رجعتَ إلى نفسك، وجدتَ الغُولَ قد غالتك، لا من غياهب الليل، بل من غياهب الشوق، ويا لروعة التصوير، إذ لم تَكُ الغُولُ كائنًا خرافيًّا يتربّص بك، بل استعارة لما يفعله الهوى في القلب، إذا هبّت عليه رياح الذكرى في غفلةٍ من العقل، فتخطفه من جلسته كما يُخطف الحلم من جفن ناعس.
ويكفي في جنونك أن تُتَّهَم به، لا لهذيانك، بل لصمتك المُحمَّل بالحنين، ولسهادك العميق في مجلس لا يدري من فيه ما تفعل الذكرى برجلٍ عاشق، فطوبى لك، يا قيس! فقد جننتَ عن وعي، وتاهت بك المحبة في بيداء المعنى، فما عاد يدركك إلا من اكتوى بنارك، أو سار في رَكب وجْدك.
حجّت بنو تميم، وأقاموا بمنى، ونحروا الهَدْي، ولبّوا بالأصوات الجَهيرة، لكنّهم، والله، ما أنشدوا كما أنشدت، ولا ناحوا كما نُحتَ، ولا رقّت قلوبهم عند الخيف كما رقّ قلبك، إذ امتزجت مشاعر المناسك بنداءات الذكرى، وارتجف في صدرك طائر الوجد رجفةً لا يعرفها إلا العاشق المفجوع، لقد هزّك النداء، لا لأنه نداء حج، بل لأنه مسّ وترًا دفينًا، وأيقظ فيك حبًا نائمًا لا يُنسى، فقلت قولك الخالد:
وداع دعا إذ نحنُ بالخيفِ من منًى
فهيّج أطرافَ الفؤادِ ولم يَدرِ
دعا باسمِ ليلى غيرَها، فكأنما
أطارَ بليلى طائرًا كان في صدري
فما أصدق هذا التصوير، وما أرقّه وأوجعه! لقد كان الطائر ساكنًا، كأنما ألفَ قفصه، حتى جاء ذاك الصوت، لا يدري ما يُثير، ولا بمن يُنادي، فأطاره من بين ضلوعك، وتركك خالي الجوف، كأنما انتُزع قلبك.
يا مجنونَ بني عامر! ما زال المجانين يجنّون، وما زال الشعراء يتغنّون، يطرقون أبواب الهوى، ويستعذبون لذعَ الهوى، لكنّك وحدك من جنّ بعقلٍ، فكان جنونك رشدًا، وهذيانك وحيًا، وشِعرك صلاةً في محراب الوجد، جعلتَ من الحبّ دينًا، ومن الجنون ملحمةً تُروى، لا تُنكر، ولا تُنسى، وما أرقَّ قولك، وما أصدقه حين قلت:
وقالوا لو تشاءُ سلوتَ عنها
فقلتُ لهم: فإنّي لا أشاءُ
وكيف وحبُّها عَلِقٌ بقلبي
كما عَلِقَتْ بأرْشِيَةٍ دلاءُ؟
لها حبٌّ تنشّأ في فؤادي
فليس له، وإن زُجِر، انتهاءُ
وعاذلةٌ تقطّعني ملامًا
وفي زجرِ العواذلِ لي بلاءُ