السبت أبريل 27, 2024
بحوث ودراسات

د. محمد جلال القصاص يكتب: البعد الغائب في الطرح المتطرف

ليس لك أن تمر على غرائب الأشياء دون أن تبحث عن تفسير لها، وقبل التفسير لابد أن تعيد النظر مرة بعد مرة حتى ترى بوضوح، فالوصف الجيد يساعد على إيجاد تفسير جيد!

حال دراسة ما قدمه عباس العقاد في إسلامياته شاهدتُ ظاهرةً غريبة، وهي أنه محل ثناءٍ من الأضداد، فنفر من أهل اليمين يثنون عليه، وعامة أهل الشِّمال يبالغون في الثناء عليه، كزكريا بطرس، وسيد القمني.

ووجدت ظاهرة أخرى أكثر غرابة عند الناشطين في مجال «التنصير» الإلكتروني والفضائي كزكريا بطرس ومرقص عزيز، وهي جموح وبذاءة الخطاب. وحين أعدت النظر مرة بعد مرة في حال زكريا بطرس تحديدًا، وجدت أنه كان واعظًا ذائع الصيت، يأتيه الناس من كل مكان ليسمعوا عظته، وطبعي أن العظة يغلب عليها التذكير بالله وما أعد للمتقين وما توعد به العاصين. فلماذا انقلب بطرس هكذا؟ من «الأدب» الجم في مرحلة الشباب والكهولة إلى البذاءة الشديدة بعد أن شاب رأسه وجاوز السبعين من عمره؟! ولماذا اختلف الناس في عباس العقاد إلى هذا الحد من التضاد؟!

التفسير في حالة عباس العقاد مختلف عن التفسير في حالة بطرس ومرقص وإخوانهم في البذاءة والتطرف الفكري. وكلا التفسيرين يكشف عن بعدٍ غائب في الأطروحات والمواقف المتطرفة. وإليك بيان بما يناسب مقال:

تواجَدَ عباسُ العقاد بين عُصبة (شلة) من الإعلاميين والسياسيين والمثقفين، وكان التناصر بينهم على مبدأ «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» ولم يكن على أساس التحقيق والتدقيق في الأقوال والمواقف، ولذا لم يعترضوا على دفاعه عن بولس (شاؤول الطرسوسي)، ودفاعه عن الكتاب «المقدس»، وعقيدة الصلب من أجل الفداء، ودفاعًا في وقتٍ كانت حملات التنصير تترا على مصر والأمة الإسلامية؛ ولم يعترضوا على دعمه لمصدر المعلومات العلماني (الآثار والوثائق المكتوبة)، وأنه ظلّ مستمسكًا بنظرية التطور العضوي والتطور المعرفي، وظلّ يردد القول بأن البيئة والعامل الوراثي هما المؤثر الأكبر في صياغة الشخصية، كأن كل شيء نبت من الأرض وتطور بعوامل أرضية مادية، وليس أن الله هدى البشرية وأصلح دنياهم وأخراهم بما أنزل على محمد، يقول الله تعالى:

(وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ)

(النحل:89).

وإكثاره في التأليف جعله يهيم في أوديةٍ كثيرة، فكتب عن رسول الله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وبعض أصحابه، وكتب عن عبد البقرة غاندي، وكتب عن الحلاج، وابن عربي، وابن سينا، وابن رشد، وسعد زغلول، ومحمد عبده. كان يهيم خلف كل مؤثر في حياة الناس بغض النظر عن دينه ومذهبه، فانتصر «للعبقرية» أيًا كان دين العبقري ومذهبه. وكتب ضد الاشتراكية وضد النازية، وانتصر للديمقراطية الغربية. هذا التيه في الدروب المختلفة جعل له من كل ضرب نصير، وجعل ذكره حاضرًا في المجالس «بخيرٍ» أو شر.

كما أن عباس العقاد، وخاصة في إسلامياته، وقف وسطًا بين الخير والشر الصريح، ففي الوقت الذي تنكر فيه طه حسين لإبراهيم، عليه السلام، وكان إنكار طه حسين للخليل إبراهيم إنكار للقرآن الكريم كمصدر للمعرفة.. كانت هذه هي القضية في الحقيقة، وكانت قضية ثائرة في الساحة الفكرية وقتها.. ولا زالت. أعني قضية مصدر المعرفة: هل تصلح الكتب السماوية مصدرًا للمعرفة؟!

 وجاء عباس العقاد لهذه القضية الثائرة.. جاء وسطًا، فمن ناحية أثبت وجود الخليل ومن ناحية أخرى اتكئ على مصادر المعلومات الغربية، ولم يأت منتصرًا لكلام الله. بمعنى أنه انطلق من ذات المنطقة (الوثائق والشواهد المادية/ الأثرية كمصدر للمعرفة) وكأن القضية هي وجود الخليل إبراهيم من عدمه!! فكان وسطًا بين طه حسين وبين ما أنزل الله على محمد، صلى الله عليه وسلم.

 وأنكر بعضهم رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، ووصفوه بأوصاف يعلمون هم قبل غيرهم كذبها، وجاء العقاد وتحدث عن محمدٍ، صلى الله عليه وسلم، كعبقري وعى عن الله بعبقريته، لا كرسول أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وبهذا وقف وسطًا، فامتدحه الضالون المكذبون لنزعه وصف الرسالة، أو تقليله من تأثير الرسالة فيما كتب الله من إصلاح على يد رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، وامتدحه بعض الطيبين لأنه عظم النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يتطاول عليه كما تطاول غيره من النصارى وغلاة الملحدين.

والنتيجة:

أن المواقف والأفكار المتطرفة (كطه حسين عن الخليل إبراهيم) أدت إلى تمرير الأفكار الأقل تطرفًا (أفكار عباس العقاد). كأن التطرف في الأفكار والمواقف يُصنع عمدًا من أجل تمرير الأقل تطرفًا. كأن طه حسين جاء محللًا، أو مبررًا، أو ممررًا، لانحرافات عباس العقاد ليس إلا.

ولكم تأملت في حال بطرس ومرقص وهما يتحدثان بحديث شديد الغرابة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والقرآن الكريم، والشعائر (كالحج) والناسخ والمنسوخ، وأقول: هل يصدقهما أحد؟ هل يظن أحدهما أن أحدًا يصدقه ويؤمن بما يقول؟!

وتبين لي أن هذا الطرح المتطرف لا يراد لذاته، وإنما يراد لتمرير الطرح الأقل تطرفًا كأطروحة عباس العقاد التي تتحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كعبقري، وأطروح «جوزيف قزِّي» و«وول ديورانت» التي تتحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كمصلح اجتماعي.

وإن المتدبر في حال الصراعات الفكرية وما يحدث بعدها من تحولات وتغيرات يجد أن التغيير يأتي غالبًا من الوسط. يحتدم الصراع بين طرفين، وحين يطول الصراع يخرج ثالث وسطًا بين الطرفين، وعامة الناس يميلون لمن يتوسط المشهد في الغالب، ولذا يستقر الوسط، ويكأن المتطرف يعمل فقط من أجل تمرير المتوسط بين الحق والباطل.

وعلى سبيل المثال:

اشتد الخلاف في مسألة الإيمان بين التابعين من ناحية والجهم وشيخه الجعد بن درهم ومن وافقهم من ناحية أخرى فجاء المعتزلة وأهل الكلام، واستقر مذهبهم إلى اليوم. واشتد الخلاف بين أتباع المسيح -عليه السلام- والوثنيين فنبشوا عن (بولس) وأخرجوه من تحت ركام الأيام، واستقر بولس والمؤمنين ببولس.

فالساحة دائمًا ثلاثية: طرفان ووسط. وقبل (أيام المعتزلة وبولس) كانت هذه الثلاثية تتكون بشكل تلقائي، والآن تصنع هذه الثلاثية عمدًا.. يخرجون من يتبنى طرحًا متطرفًا من أجل تمرير الأقل تطرفًا.

ذو القعدة 1443هـ

يونيو 2022م

Please follow and like us:
د. محمد جلال القصاص
دكتوراة علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب