الصراع لا يبقى حتى ينتهي العدد والعتاد… سينهار جيش يهود!!
يقول الله تعالى (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) (الكهف: من الآية 18).
الطبيعي أنني أخاف ثم أفر، لا أنني أفر ثم أخاف. أليس كذلك؟
هذا ما نقوله نحن بعقولنا. وفي الآية الكريمة شيء آخر!
في الآية الكريمة يخبرنا العليم الخبير، سبحانه وتعالى، أنه حين يشتد الخوف.. حين يكون الأمر مخيفًا كأشد ما يكون… حين يرى الإنسان الموت فإنه يفر دون أن يدري، ولا يفيق إلا بعد أن يبتعد تمامًا عما يخيفه. ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾
وتكلم أهل الإعجاز العلمي في ذلك فقالوا: إنه في حالة الخوف الشديد فإن الإشارات الصادرة من العين تتجه- أولًا- نحو البؤرة المتحكمة في العضلات الهيكلية، وتعطيها إشارة للانقباض والتحرك سريعًا بعيدًا عن مصدر الخوف، ثم تتجه الإشارات إلى مركز التفكر فيفهم الإنسان ما حدث.
نعم. رؤية الموت تذهب بعقل كل ذي عقل إلا أن يثبته الله، ولذا جاء في الآية الكريمة أن التثبيت بالشهادتين عند الموت من الله عز وجل ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ﴾ (إبراهيم: 27).
وإن تدبرت في الهزائم التي لحقت بالجيوش.. وإن تدبرت حال من قتلوا صبرًا بالسيف مقيدين أو على الأعواد مشنوقين، رأيت تأويل آيات ربك. ودعني أضرب الأمثال:
في يوم بدرٍ.. يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، حزب الرحمن وحزب الشيطان، وقف عدو الله أبو جهل يقسم أن لا يرجع حتى يَقْرن من حضر في الحِبال؛ وينادي في قومه: (لا ألفينَّ أحدًا منكم قتل منهم أحدًا: ولكن خذوهم أخذًا، نعرفهم بالذي صنعوا لمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان يعبد آباؤهم)!!
وما هي إلا ساعة أو ساعتان من القتال وقد فروا من المسلمين كالنساء.. فروا وهم ثلاثة أضعاف.. فروا وهم عند أنفسهم قادرين تمام القدرة.. فروا وهم يرون قلة المسلمين ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾.. فروا حين رأوا الموت!!
ومَرَّ عام وقريش تتجهز لأخذ ثأرها، ومحو عارها، وجاءت يوم أحد بقضها وقضيضها، تُجعجع فرسانهم، وتضرب بالدف نساؤهم، وينادي بالثارات جميعهم، وما هي إلا ساعة أو ساعتان حتى فروا وتركوا النساء.
فرّ هؤلاء وتركوا نساءهم لعدوهم، وقد كانوا لا يعدلون بالشرف شيئًا، وقد كان الفرار أشد من الموت على الرجال.. فروا وهم فرسان العرب وشجعانهم.. ذهب عقلهم ومروءتهم حين رأوا الموت.
وجيش الفرس يوم القادسية، وكان أشد جيش على وجه الأرض يومها، كثير العدد، حسن التسليح، جنده نخبة أبطال يقاتلون في أرضهم.
صبيحة أول أيام القتال ركب رستم فرسه وهو يقول: اليوم ندكهم دكًا، فناداه أحد خدمه: قل إن شاء الله. فقال: وإن لم يشأ!!
ولما تراء الجمعان ضحك وأصحابه من أصحاب محمد الله -صلى الله عليه وسلم- لما يرون من قلة عددهم وضعف سلاحهم، وما هو إلا يوم ويومان اشتد فيهم القتال إلا وقد فروا لا يلوون على شيء. وأمكن الله من رستم فذبح ذبح الخراف.
إنه الرعب يذهب بالعقل ويفقد الإنسان القدرة على السيطرة على مواقفه. وهو ما يفسر ما فعلته فرسان العرب ذووا النخوة والشجاعة حين فروا وتركوا نساءهم لعدوهم. رأوا الموت فذهب عنهم هاجس العدد والعتاد والغيرة على الأعراض والحرص على الشرف والمال، فطارت بهم سيقانهم، ولم تتوقف إلا هناك.. بعيدًا عن الموت.
وفي التاريخ وفرة من حال السابقين.. عظة لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد؛ ومثلًا:
حين رأى “الحلاجُ” الموتَ فزع، وصاح، واشتد صراخه، وراح يتوسل لجلاديه ليتركوه؛ كان هذا حاله حين رأى الموت، وقبل كان يمتلأ الدنيا حديثًا كاذبًا يدعي فيه أنه يمشي على جمر المخاطر حافيًا، وأنه الثائر الفرد الذي لا يناصيه غيره.. وأنه سيغير الجيل والأجيال من بعده، وحين رأى الموت فزع.. خذلته ذنوبه، وإلا فالموت قضاء لا يرد.
وفي واقعنا المعاصرة: “عبد الله أوجلان” الزعيم الكردي المتمرد حين أُخذ أسيرًا وسُلم للأتراك ورأى الموت من بعيد، لا من قريب، فزع وتنازل. وقد كان “مقاتلًا” يسكن الجبال، ويدعي أنه أسد يقود أسود!!
إن الموت لا يمكن التصنع أمامه. بل ما هو دون الموت حين يأتي الخوف على جماعة ـ مثلا في حادث سيارة ـ يغمى على بعضهم، ويرتجف بعضهم، ولا يتأثر نفر منهم. وحين يأتي الخوف على جماعة في مسكن فريقين، فريق على الحال التي وصف الله في سورة الأحزاب ﴿فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ (الأحزاب: 19)
تدور عينه وقد تصطك أسنانه وينادي في نفسه وربما بصوت عال أين المفر؟، وإن أُمسك به حاول الفكاك بكل ثمين، وأشد هذا رؤية جهنم. نعوذ بالله من جهنم. ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾ (المعارج:11-14).
وفريق يجد سكينة لم يكن يتوقعها. وحالة من الارتياح والهدوء ربما لم تمر به من قبل. إنه لطف الله يتدارك العبد أو يفارقه.
يُحكى أن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، (ابن عم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الشبه به في الهيئة، وشبيهًا للحمزة في القتال، وشاعر قريش الأول، وهو الذي بارزه حسان بالشعر، وأسلم بعد ذلك وحسن اسلامه وبلاؤه، وكان عوضًا للمسلمين عن الحمزة، وكان ممن ثبت يوم حنين بين يدي النبي، وكان عمر يتعجب من صلاح حاله)، وكذا عمرو بن عبد وُد وهو أبرز فرسان قريش يومها، كانا أول من فرَّ يوم بدر.. وصلا إلى مكة قبل غيرهما من الفارين، فلقيهما أبو لهب متعجبًا: أأفررتم يا أبا سفيان؟!!
ويجيب أبو سفيان: لقينا ما لا قبل لأحد به!!
وعلى الجانب الآخر: يثبت أبو بكر- رضي الله عنه- وهو نحيف أسيف، ويثبت بن مسعود وهو هو في ضعف بنيته.
ويفر نفر من السادة يوم أحد فيأتي القرآن معللًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾ (آل عمران: 155)
ولذا حين يرى يهود الموت.. حين يستيقنون من الموت فلن يقدموا عليه، بل لن يقفوا حيث الموت (غزة). ولا قريبًا منه. ولذا أبشر بانهيار جيشهم في القريب إن شاء الله. ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾.
ولذا لا يقبلون على جريء يضرب بما في يده دون توخي العواقب.. ولذا قلت مرارًا: أن الجرأة عليهم هي المتغير الأساسي في النصر عليهم، وبها نستبشر، وقد تجرأ الناس عليهم من نواحيها.
وهذه من المبشرات، وقريبًا يتمكن الرعب منهم فيرحلون بعيدًا كأسلافهم.
لا يبقى الصراع حتى يهزم الجميع… لا يبقى حتى ينتهي العدد والعتاد
إن الصراع يحتدم ساعة أو ساعتين حتى يستيقن فريق من الموت، فإن استيقن فرّ بعيدًا