د. محمد جلال القصاص يكتب: معركة الرموز: ماذا يحدث؟!

بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قبل سنوات قليلة لم يكن أحد يثني على شيخ الإسلام ابن تيمية إلا السلفيون، وفي السنوات القليلة الماضية أصبح شيخ الإسلام ابن تيمية محل ثناء العلمانيين والمتصوفة المعروفين برفضهم الشديد للتيار السلفي ورموزه وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية (مثل يوسف زيدان في مصر)؛ وكذلك أصبح شيخ الإسلام ابن تيمية محل ثناء مَن يتوسطون الساحة الفكرية كالدكتور محمد عمارة. هل آمن هؤلاء بما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية؟!، ماذا يحدث؟!
يتلخص الموضوع-كما يبدو لي- في ثلاثة مشاهد: مشهد صغير، ومشهد وسط، ومشهد كبير، ودعنا نبدأ بالصغير نعرضه ثم نصعد منه لما هو أكبر، ثم نعود للصغير ثانية وننزل منه لواقعنا المعاصر ونحن نلملم ما نثرناه من أفكارٍ في هذا المقال:
المشهد الصغير: إعادة بناء العقل الإسلامي!!
يتمثل هذا المشهد في موجة فكرية بدأت من أعوام قليلة تحت شعار: إعادة بناء العقل العربي، وبدأت- فيما أعلم- من المغرب، من د. محمد عابد الجابري. وفي هذا السياق تصاعد حديث مفاده أن المشاهير في تراثنا الإسلامي تم قراءتهم بطريقة خاطئة. يقولون: الخلل يكمن في المعاصرين الذين يدعون الانتساب للسلف ويعلنون الاحتفاء بالرموز التاريخية الشهيرة كابن تيمية والناصر صلاح الدين؛ يقولون: لم يكن هؤلاء الرموز على الحال التي يراها مَن يحفلون بالتراث من المعاصرين. ولا أريد هنا مناقشة القراءة التي قدموها، وكيف أنها ظهرت كرمي الصبية الصغار للقطار السريع بأحجارٍ ترتد عليهم ولا تؤذيه إلا قليلًا. فيوسف زيدان مثلًا يشكك في نسبة المجلدات الكبيرة الشهيرة لشيخ الإسلام مع أن نسبتها إليه منضبطة ومحققة بدقة عالية ومن علماء مختصين ومثبت ذلك في مقدمة كتبه، وقد عني الإسلاميون بعلم المخطوطات مثل غيرهم.
المشهد الوسط: السياسة والزمان:
يعكس هذا المشهد محاولة تأطير التراث الإسلامي بإطارين: سياسي وزماني. يدَّعون أن الفقهاء خضعوا للسلطان وتحدثوا بما يريد، مع أن الأئمة الأربعة كانوا أبعد ما يكون عن مولاة السلطان، فأبو حنيفة توفي في السجن، ومالك جلد وضرب لأنه لم يطاوع السلطان، والشافعي لم يقف بباب أحد، ومعارضة أحمد بن حنبل للسلطة تنير الأفق. وأشهر ما يتناقل عن الفقهاء هو البعد عن باب السلطان. وأشهر ما نفاخر به في نموذجنا الحضاري هو أن المجتمع كان مستقلًا بوظائفه ولا دخل للسلطان فيه فقد مكن الإسلام الناس من الأشياء كلية. واعترف بهذا أحد ألد أعداء الملة وهو برنارد لويس(في حوارٍ تلفزيوني منشور)، يقول: : أصغر ديكتاتور في الشرق الآن يتمتع بأضعاف أضعاف ما تمتع به أكبر خليفة في تاريخ المسلمين من سلطة.
وفكرة نسبة النص للزمن مضحكة، وذلك لأن النص كليات (نموذج معرفي/ مجموعة من القواعد الكلية المترابطة) تم صياغتها بناءً على فهم العالم المشاهد وما قبله وما بعده وما ينبغي فعله في الحياة. وهذه الكليات عندنا تشكلت بالوحي (القرآن والسنة)، وتشكلت عند غيرنا من تراكمات بشرية وتتطور لأن مصدرها بشري. ومن الكليات يتم استنباط الأحكام الفرعية، وهذه هي التي تتغير حسب الزمان والمكان. بمعنى تغير محدود. وهم يفعلون هذا في منظوراتهم السياسية والاجتماعية؛ فكل رموزهم ونظرياتهم-أو جلها- من الخلف.. من زمان غير الزمان ومكان غير المكان، فأرسطو وسقراط..؛ ونيتشه وديكارت وكانط.. ثم يطالبوننا بتطوير قواعدنا تبعًا لفروعهم!!
المشهد الكبير: تفعيل المنافقين:
بعد أن يئس النصارى من استعادة الشام وشمال أفريقيا من المسلمين، غيروا استراتيجية المواجهة، وكان مما فعلوا أنهم أعادوا قراءة ما يتعلق بالإسلام (التراث الإسلامي): الشريعة الإسلامية والتاريخ ابتداءً من الجاهلية إلى التاريخ المعاصر والفقه، وكل ما يتعلق بالإسلام. وقدموا قراءة مغلوطة للإسلام على مستوى القواعد (النص كتابًا وسنة وسيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، والراشدين) وعلى مستوى التطبيق (التاريخ والفقه). بدأ هذا الجهد من قرون طويلة ومستمر للآن.
وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأ تسريب نصوص هذه الكتابات والمفاهيم الكلية التي تحتويها قراءتهم إلى نفرٍ من المنتسبين للإسلام، فظهرت أفكار الكافرين على ألسنة مسلمين، ومن أمثلة ذلك: كتابي قاسم أمين (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة)، وكتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، وعامة كتابات طه حسين، وفكرة مدرسة الديوان والمدارس الأدبية التي جاءت بعدها كأبوللو، وفكرة العبقريات. كل ذلك كان قادمًا من النصارى العرب ومن المستشرقين بأشخاصهم أو كتاباتهم أو أفكارهم الرئيسية.
وفي مرحلة تالية عمد المستشرقون للنقل عن المتأثرين بهم من المسلمين. بمعنى يستدل الكافر ببضاعته هو التي نقلها عنه مسلمون، ويقدمها لعوام الكافرين في بلدانهم على أن هذا هو الإسلام بلسان المنتسبين إليه، ومن ثم استطاع أن يوصل لعوام الناس في بلدانهم أن الإسلام لا يخالف غيره من الأديان في شيء كبيرٍ، وبالتالي لا حاجة للانتقال من الكفر للإيمان، ثم في مرحلة تالية (نعيشها الآن) بدأ الحديث عن دين موحد للجميع!!
وثلاث ملاحظات تزيد هذا الاستنباط وضوحًا:
أولها: أن قضايانا بعد الاحتلال الغربي حادثة ومن جنس قضاياهم، فلم تناقش الأمة من قبل ما يعرف بـ (قضايا المرأة)، ولم يجادل أحد في (تحكيم الشريعة).. بل لم تظهر هذه القضايا أصلًا.
ثانيها: أننا لم نعد نؤثر في غير المسلمين، فالخطاب الذي ينقل للكافرين يسوي بين الكفر والإيمان في كثيرٍ من القضايا الرئيسية، كالموقف من الدولة القومية، والموقف مما يطلقون عليه (الحريات العامة).
ثالثها: أن أي باحثٍ في شأن إسلامي لا يستطيع أن يتم بحثه بشكل جيدٍ دون أن يستقي من مصادرهم.
إننا في ورطة حقيقية، ولا أجد نفسي مبالغًا حين أقول بأن تكوين الصحوة الإسلامية ذاتها علماني: ومن أمارات ذلك أنهم يطالبون الدولة القومية بتطبيق الشريعة!!، وأنهم لا يمتلكون مشروعًا إسلاميًا متكاملًا على مستوى النظريات الكلية (المنظورات) (المفاهيم الكلية).
وهكذا تبدو المشاهد الثلاثة: المشاهد الكبير (إعادة قراءة الشريعة كلها) يغذي الوسط (تأطير التراث بالسياسة والزمن)، وكلاهما يغذي الصغير الذي يستهدف إعادة قراءة الرموز والأحداث المعاصرة والتاريخية وصولًا لإعادة بناء العقل الإسلامي أو العربي كما يدعونه.
وأعود للمشهد الصغير لأشير إلى عدة أمور تشكل ميدانًا للصراع الفكري يستطيع أن يشارك فيه كثيرون:
- ما يفعله الملحدون من إعادة قراءة التاريخ الإسلامي وتقديم رموز الزندقة على أنهم أعلام، مثل: ابن الرواندي، وابن الطفيل، وابن سينا…
- ما يفعله الملحدون من إعادة قراءة رموز العلمانية وتقديمها للناس في قالبٍ يحبه عوام المثقفين، فالآن بيننا من يدافع عن المعتوه نيتشه، واسبنوزا، وديكارت، وكانط. إي والله، ويحسب أنه ممن يحسنون صنعا!!
- محاولة ساذجة بالسير في الاتجاه العكسي وذلك بإعادة قراءة رموز العلمانية والادعاء أنهم لم يكونوا علمانيين، مثل سعد زغلول وطه حسين..إلخ. وهذا الجهد ينتهي، في الغالب، بتلميع الرموز لا رفضهم. وهو تضييع للوقت والجهد، ومن شواهد التبعية في الأطر فخير منه عرض بضاعتنا (الوحي كتابًا وسنة) غضًا طريًا، يقو الله تعالى:﴿إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلۡبَلۡدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٩١ وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ٩٢﴾ (النمل: 91-92).
أردت أن أبين مدى عمق واتساع المشهد الفكري في واقعنا المعاصر وعلى مدى القرون الماضية التي تأخرنا فيها عن ريادة البشرية، وأننا في غربة حقيقية عن قيمنا وأفكارنا، وأنهم الآن بعد أن أعادو قراءة الشريعة الإسلامية وصدروا لنا قراءتهم هم بأدوات السلطة والمعرفة التي يتحكمون فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، يحاولون محو الذاكرة التاريخية لهذه الأمة، وأخيرًا أدخلونا في معركة حول خاصة رموزنا، يقولون: لم يكونوا على الحال التي تعرفونها، وهم كاذبون، وفي ذات الوقت يخرجون من تحت ركام الأيام رموز الإلحاد وينشرون سيرتها وكفرها على الناس، فنحن أمام ساحة واسعة للمنازلة الفكرية في مستويات مختلفة.