مقالات

د. محمد جلال القصاص يكتب: من حلاوة القرآن الكريم

شيء أحس به حال الاستماع للتلاوة وخاصة في الصلاة:

الغنّة= عصر للأعصاب.. كأن شيئًا ما يضغط على أعصابك بقوة

والمد=

رفع ثم سقوط على الهمز ﴿السَّمَاااااءِ﴾، ﴿الطَّااااااامَّةُ﴾

أو جَرٌ ثم اصطدام بالهمز ﴿سِيـــــــــــــــــــــــــــئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾

والإخفاء= رج.

وصفات الحروف (التفخيم والترقيق والتفشي، والقلقله، إلخ) شيء آخر تتذوقه ولا تستطيع وصفه)

وتظل حال القراءة بين عصر، ورفع، وسحب، ورجٍ، ويشتد الأمر حتى يقشعر الجلد وربما يتحرك من مكانه، وربما تبكي، وربما تنهار باكيًا، وخاصة إن تدبرت المعنى.

بهذا تصبح التلاوة (أو الاستماع لها) تنشيطًا للجسد من داخله، وخاصة القراءة في جوف الليل الآخر. وربما لهذا أمرنا بالترتيل في صلاة الليل ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (سورة المزمل: 2-4).

لا يحدث هذا الشعور مع كل من يقرأ، ولا يحدث مع من لا يقرأ بأحكام التجويد، وذلك أن ترك القراءة الصحيحة، أو التنغييم (زيادة حرف حال المد والغن، إلخ) يفسد هذا الإحساس جدًا.

وبعض القراء (كالمنشاوي تحديدًا) يزيد من هذا الشعور بالنغمة الحزينة التي يدخلها على التلاوة. فحين تصغي للمنشاوي، وخاصة حين يقرأ بهدووووء (مثال: من قول الله تعالى ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ إلى آخر السورة، ومن قوله تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ إلى آخر سورة آل عمران، ومن قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ إلى آخر السورة..)

والقراءة الهادئة (البطيئة) تعطيك شيئًا آخر، وهو تدبر المعنى، تُفجر المعاني بداخلك، فتنفجر أحاسيسك. ولا تطيق… تتحرك من مكانك. أو تتوقف. وقد تنفجر باكيًا حين تتمثل أمامك المشاهد الحية التي ترسمها الكلمات، والقرآن يعطيك مشاهد حيه كأنك تشاهد.

في رمضان الفائت (1444هـ) صليت التراويح في المسجد الكبير بمدين «قلين كفر الشيخ»، وإمام المسجد (الشيخ فتحي رجب) ممن تصب تلاوتُه فيك هذا الإحساس صبًا، وكان أمامي شاب منغولي يتواجد بشكل مستمر في المسجد، والشيخ يقرأ يتحرك هذا الشاب برأسه ويصدر صوتًا تفاعليًا كالنشوان من الطرب، وفجأة سكت الشيخ (ربما لحشرجة أو نحو ذلك).. سكت بره من الوقت، فصاح هذا الشاب… ها ها هاااا هااااااا وجعل يدور حوله. يبحث عن الطرب الذي كان فيه. ثم عاد لحالته بعد أن عادت التلاوة.

إنها حلاوة القرآن كما وصفها من سمعه من صناديد الكفر والصد عن سبيل الله؟

كم فكّرت في الذين كانوا يصرون على الإنصات للقرآن الكريم من صناديد الكفر، وهم لم يؤمنوا، وهم يعاندون بعد السماع، بل يحاربون. لم كان هؤلاء يأتون المرة بعد المرة للسماع. وظني والله أعلم أنهم تعرضوا لهذا الإحساس.. لهذا النوع الفريد من اللذة فجاءوا يطلبون المزيد.

وشاب كان جهده كله في دعوة الناس إلى الكفر بالله (التنصير).. كان متفرغًا.. يُنفق عليه فقط لهذا الغرض. وأسلم.. آمن بالله وما أرسل به محمدًا، صلى الله عليه وسلم. وجاء يحكي قصة إسلامه يقول: سمعت سورة الرحمن في الميكروباص.. يقول: ركبت الميكروباص وبدأت سورة الرحمن تُسكب في الآذان.. يقول: كنت انتفض.. أنتفض.. أنتفض.. وأصرخ بصوت مكتوم من شدة ما أجد. يقول: وبعد مدة اشتقت لسماع القرآن الكريم ثانية فعدت إليه مرة بعد مرة حتى أسلمت. لم تأت به المعاني بل جاءت به حلاوة القرآن. أصابه الطرب.  «الطرب القرآني».

وكم اشتقت أن أسمع القرآن الكريم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد قال من شرّفهم الله بسماعه أنه كان يقرأ متأنيًا (تستطيع أن تكتب وراءه)، ولم يكن حاد الصوت.. كان في صوته صحل كما وصفت أم معبد، أي بحة خفيفة. كيف كانت هذه القراءة المتأنية التي خرجت من كل الكمال وجملة الجمال صلى الله عليه وسلم؟!

 اللهم … اللهم … اللهم…

ومن خلال التفكير، مرة بعد مرة، في حال هؤلاء وحال هؤلاء ترسخ بداخلي أن كل منظومة فكرية (عقيدة) تحاول تحقيق الطرب لمن يؤمنون بها بطريقة ما، وأن الطرب عندنا بحلاوة القرآن هذه. وفوقها المعاني التي تأتيك حين تتدبر ما يُتلى، وتفيض عليك حين تتعلم التفسير وشيئًا من البلاغة، ولا ينالها إلا من دخل في ظلال القرآن الكريم.

 والعلمانية تحرك الغرائز الحيوانية (الجسدية) ويُسمي هذا طربًا. وهو طرب لمن ارتكس في وحل الشهوة.

والنموذجان متقابلان تمامًا، فلا يمكن أن تتلذذ بالقرآن والغناء في وقتٍ واحد. كل منهما يروي أرضًا لا يرويها الآخر. مَنْ يستقبل القرآن الكريم لا يستطيع أن يستقبل الغناء. قد تستقبل هذا حينًا وهذا حينًا حسب ما فيك من فسق أو إيمان. وكلنا يمر بهذه المرحلة، ولكن العاقل من يعرف أنه حال استقبال “قرآن الشيطان” أنه غريب في غير أرضه.. أنه يسقى بماء آسن، وعليه أن يعود، فيستعين بربه ليعود. اللهم ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.. أن يعرف أن ثمة لذة أخرى لا تضاهيها لذة (حلاوة القرآن الكريم) وعليه أن يسعى للوصول إليها.

جعلنا الله وإياكم، من أهل القرآن.. أهل الله وخاصته. ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ (فاطر: 32-35)

إضافة:

هذا المعنى كتبت عنه قبل عشر سنوات تقريبًا مختصرًا. وعدت الآن للكتابة عنه، وإن شاء الله أعود مرة أخرى لمزيد من التفصيل في فكرة «الطرب» وقد أتيتها من ناحية أخرى في مقال «العبوس المتغطرسة»، وهو من المقالات التي وجدت ترحيبًا.

د. محمد جلال القصاص

دكتوراة علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى