يقول الله تعالى: (واذكر عبدَنا أيّوب إذ نادى ربَّه أني مسَّنيَ الشيطانُ بنُصبٍ وعذاب 41 اركضْ برِجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشرابٌ 42 ووهَبنا له أهلَه ومثلَهم معهم رحمةً منا وذكرى لأولي الألباب 43 وخُذ بيدِك ضِغثًا فاضربْ به ولا تَحنَث إنا وجدناه صابرًا نِعمَ العبدُ إنه أوَّابٌ) (سورة ص 41: 44).
هل حلف أيُّوبُ عليه السلام أنْ يضرب زوجته؟
– وهل أمر الله تعالى أيُّوبَ عليه السلام بأنْ يضرب زوجته مرَّة واحدة بضغث فيه مائة عود مجتمعة؟
إنّ سياق الآيات لا يحتمل هذه المعاني مطلقًا للأسباب الآتية:
أولاً: الروايات التي تتحدث عن توعُّد أيوب عليه السلام لزوجته بضربها أو جلدها مائة جلدة لأنها أطاعت الشيطان، أو لأنها باعت شعرها لتُنفق على بيتها كما يزعمون، كلها روايات واهية لا أصل لها، أو إسرائيليات وقصص ملفقة، لا نأخذ بها في تفسير القرآن الكريم.
ثانياً: يقول الله تعالى: (إنا وجدناه صابرًا نِعمَ العبدُ إنه أوَّابٌ) {ص: 44}، وفي الآية مدحٌ من الله تعالى لأيوب عليه السلام، فهو نبيٌّ صابرٌ محتسبٌ أوّاب، صبر على ابتلاء الله تعالى له من غير جزع، ولو كان حَلَف أنْ يجلد أو يضرب امرأته عندما يبْرأ من مرضه كما تقول الروايات التي لا أصل لها، فهو إذن لا يكون صابرًا.
وهو عليه السلام أوّابٌ كثير الرجوع والإنابة إلى الله تعالى، ما يجعله يحتسب مرضه وفقره وغياب أهله عند الله تعالى، لا أنْ يتوعد امرأته التي ما تخلّت عنه بالضرب والجلد.
والناس في حياتهم اليومية لا يمدحون الرجل الذي يضرب زوجته، ولا يصفون من يتوعّد زوجته بالضرب والجلد بأنه صابر، فضلًا عن قيامه بالجلد أو الضرب فعلاً.
ثالثاً: من خلال استقراء الآيات السابقة يتبين لنا أنّ أيوب عليه السلام تعرض لثلاثة ابتلاءات كبيرة هي:
1- مرض عضال أصابه لمدة طويلة بلغت ثماني عشرة سنة كما في الحديث الصحيح، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة…) السلسلة الصحيحة الألباني 17.
2- غياب أهله عنه في وقت مرضه، بسبب سَبْيِهم أو أَسْرِهم في حرب أو غارة من الأعداء، أو غير ذلك من الأسباب.
3- فقدانه للمال، وافتقاره وحاجته، وهو ما تدل عليه الأحاديث الصحيحة كما سيأتي.
وقد صبر أيوب عليه السلام على كل هذه الابتلاءات من غير جزع، إلى أنْ شاء الله تعالى أنْ يرفع عنه ما حلّ به: (رحمة منا وذكرى لأولي الألباب)
وقد بينت الآيات السابقة هذه الرحمة بوضوح على النحو التالي:
1- شفاؤه من المرض:
حيث قال الله تعالى لأيوب عليه السلام دالاّ له على طريقة شفائه: (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب).
2- عودة أهل أيوب له بعد غياب وفراق:
حيث يقول الله تعالى: (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم)، حيث أعاد الله تعالى لأيوب عليه السلام أهله الغائبين، والذين نظنّ أنهم كانوا في سَبْي وأسْر، فَرَدَّهم الله تعالى له، بل ومثلهم معهم، ويمكن أنْ يكونوا قد غابوا عنه وفارقوه لأسباب أخرى، فردّهم الله تعالى له وهم أكثر عددًا لتقرّ عينه بهم.
3- الإغناء بعد الفقر والحاجة:
وفي هذا يقول الله تعالى لأيوب عليه السلام: (وخُذ بيدِك ضِغثًا فاضربْ به ولا تَحنَث).
وحتى تتبين لنا الصورة فإنه يَحسُن بنا أنْ نقف عند ثلاث مفردات في الآية ومناقشتها:
1- (ضغثًا):
الضِّغث: هو الأشياء المختلطة والمُجَمَّعة، وهو كما في قول الله تعالى: (قالوا أضغاث أحلام)، فهي أحلامٌ ومشاهدُ مختلفة تجمَّعتْ واختلطتْ في نومٍ واحد.
والضِّغث: كلُّ ما جُمِع وقُبِض عليه بجُمع الكفّ.
ونقول أيضًا: ضَغَث الرجل الشيء: أي لمسه وجسَّه بيده ليختبره ويتيقَّنه.
والضّغاثة: النفاية من المال ونحوه.
ومن خلال الدلالات اللغوية السابقة لكلمة: (الضِّغث)، فإنّنا يمكننا أنْ نفهم ماذا حدث مع أيوب عليه السلام، فقد أراد الله تعالى أنْ يكرمه ويكافئه على صبره واحتسابه بعد هذه الابتلاءات العسيرة التي استمرت معه طويلًا، فأمره بأنْ يركض برجله ليَخرج الماءُ من الأرض، فيكون له مغتسلًا باردًا وشرابًا، فيشفَى ويبرأ بإذن الله تعالى ممّا كان يجد من المرض والنَّصب والأسقام.
وفي هذه اللحظات التي كان فيها أيوب عليه السلام عُريانًا في مغتسله، وقد شفاه الله وأبرأه، أنزل عليه جرادًا أو فراشًا من الذَّهَب، وأمَرَه بأنْ يأخذ بيده ضغثًا من هذا الذهب الكثير بقدر ما تحمل يده فيضرب به ولا يحنث، وهو ما نجده واضحًا في هذا الحديث الصحيح:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لمّا عافى الله أيوب عليه السلام أَمطر عليه جرادًا من ذَهَبٍ، فجعل يأخذ بيده، ويجعل في ثوبه، قال: فقيل له: يا أيوب، أما تشبع؟ قال: ومَن يشبع من رحمتك؟) البداية والنهاية لابن كثير 209/1، وهو على شرط الصحيح.
وقد ورد الحديث بروايات أخرى كلها تدل على ذات المعاني، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أيوبُ يغتسل عُريانًا، فخَرَّ عليه جرادٌ من ذهَبٍ، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتُك عمّا ترى؟ قال: بلى وعزتِك، ولكنْ لا غنى بي عن بركتك) صحيح البخاري 279.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه قال: (أُمطر _ أو تساقط _ على أيوب فراشٌ من ذهب، فجعل يلتقط، فأوحى
الله إليه: يا أيوب، أفلم أُوسِّع عليك؟ قال: بلى، ولكنْ لا غنى بي عن فضلك) تخريج المسند 8569، قال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
ومن خلال تأمّل الأحاديث السابقة يتبين أنّ المُراد بـكلمة: (ضغثًا) في قوله تعالى: (وخُذ بيدِك ضِغثًا فاضربْ به ولا تَحنَث)، هو ضِغث من الذهب الذي تساقط على أيوب عليه السلام جرادًا وفراشًا منتشرًا.
2- (فاضرب به):
وهنا لم تَذكر الآية مفعولًا به للفعل: (اضربْ)، ولا نستطيع تخمين ذلك بغير دليل أو قرينة، ولا يمكننا الأخذ بالإسرائيليات التي تقول بأنّ أيوب عليه السلام حَلَف أنْ يضرب زوجته، خاصة أنّه ليس من عادة الأنبياء ضربُ زوجاتهم، ولمْ تذكر الآيات أنّ زوجة أيوب عليه السلام قد أتت بشيء، أو بحَدٍّ يستوجب جلدها مائة جلدة كما تذكر الإسرائيليات والقصص والروايات الواهية التي لا أصل لها، ثم إنَّ الأنبياء بطبعهم أوفياء لمَن يعاشرونهم، ويعيشون معهم في نفس المجتمع، فكيف بأيوب عليه السلام الصابر الأوّاب الذي رأى صبر زوجته عليه ووقوفها معه في ابتلاءاته؟!
فهل نتصور أنه عليه السلام يتنكّر لها ويحلف أنْ يضربها؟!
هل هكذا يفعل الأنبياء؟!
لذا فإنني أذهب إلى أنّ معنى: (فاضرب به) هو:
أنْ يأخذ أيوب عليه السلام بيده الضِّغث الذي أمره الله تعالى أنْ يأخذه من الذهب الذي تساقط عليه كالجراد والفراش، ثم يسعى بهذا الضغث في الأرض بين الناس، فيمضي يسدّ ديونه إنْ وُجدت، ويُوفي بنَذره إنْ كان عليه نَذر، ويتصدّق على الفقراء، ويقضي حاجته، ويسعى في الأرض يبيع ويشتري، ويبتغي من فضل الله تعالى، وهذا المعنى هو نفس المعنى الذي نجده في الآية الكريمة: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) (المزمل 20)، حيث جاء الضرب بمعنى السعي والسير في الأرض، ولا مسوِّغ في السياق لأنْ نفهم الفعل: (فاضرب به) أنه بمعنى الجلد وإيقاع العقوبة، فليس في الآيات أيّة إشارة لأشخاص يستحقون العقوبة فيقع عليهم الضرب أو الجلد.
ويمكن أنْ يكون المُراد بالضرب في قوله تعالى: (فاضرب به) هو المضاربة التجارية، والمُساهمة، والمشاركة، كما في الحديث الصحيح: (… واضربوا لي بسهم) صحيح البخاري 5007، بحيث يقوم أيوب عليه السلام بالمساهمة والمضاربة بماله في عمليات تجارية.
3- (ولا تحنث):
الحِنْث: هو الذنب، والإثم، والشرك، والمعصية، والندم، والحِنْث: إخلاف الوعد، أو نقضه.
نقول: حَنَث في يمينه، أي تراجع فيها، ولم يبرّ بقسمه وأَثِم.
وحَنَث الرجل: إذا أذنب ومال من حق إلى باطل.
والحِنْث في النَّذر: أي عدم الوفاء به، ولا تحنث: أي لا تنكث.
والمعنى: إنّ الله تعالى يقول لنبيه أيوب عليه السلام بعد أنْ شفاه وأبرأه من المرض، وبعد أنْ رزقه من الذهب، وخلّصه من الافتقار وقلة المال: يا أيوب، لا تُخلِف وعدك، ولا تَنكُث عهدك مع أحد، وفي هذا إشارة إلى أنّ أيوب عليه السلام ربما كان قد اقترض من غيره بعض الأموال في مرضه، ووَعَد أصحابها بسدادها عندما يستطيع، وربما كان قد نَذَر نَذْرًا إنْ شفاه الله تعالى، أو إنْ أعاد له أهلَه الغائبين، أو إنْ أذهب عنه الفقر، أنْ يتقرب إليه بقربان، وها هو قد شفاه الله تعالى، ووهب له أهله ومثلهم معهم، وخلَّصه من الفقر وهمومه، فينهاه الله تعالى عن أنْ يحنث في نَذْر، أو دَين، أو صدَقة، أو كَرَم، أو ما شابه، فيقول له: (ولا تحنث).
د. نصر فحجان – غزة