الأثنين مايو 20, 2024
بحوث ودراسات

د. وليد عبد الحي يكتب: التغلغل الأمريكي في البنية العربية

كثيرا ما يتساءل البعض بل ويبدي استغرابه بخصوص طبيعة رد فعل بعض الأنظمة السياسية العربية على تطورات العلاقات الدولية في المنطقة، ونسمع تساؤلات في الشارع والإعلام والمسجد وفي الحوارات المنزلية عن رد الفعل من الأنظمة العربية على الزلازل السياسية التي تضرب المنطقة تباعا، ولعل طوفان الأقصى فتح المجال لطرح هذا السؤال بحدة أكبر واستهجان أشد.

في تقديري أن الأنظمة السياسية العربية في معظمها هي أنظمة «أسيرة» لدى القوى المركزية في النظام الدولي من ناحية، وهي أنظمة تعلو لديها مصلحة «البقاء على كرسي السلطة» على مصلحة الدولة والمجتمع من ناحية أخرى. وتتحكم القوى الدولية بخاصة الولايات المتحدة في سلوك وردات فعل هذا الأنظمة من خلال التغلغل في مفاصل هذه الدول، ويصبح النظام أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن يتمرد على القرار الأمريكي ويفقد سلطته، أو أن يطيع القرار الأمريكي غير آبه بأوجاع شعبه من تبعات خضوعه.

ويكفي أن أشير إلى أن المقارنة بين الأقاليم السياسية العشر في العالم من حيث درجة تغلغل القوى الدولية فيها والتحكم في قراراتها الاستراتيجية والتي عقدها كارل براون (Carl Brown) عام 1984، والمقارنة الأخرى التي أجراها ريموند هينبتش (Raymond Hinnebusch) عام 2003 وغيرها من الدراسات تكشف بأن الأقاليم العربي هو المُخترَق الأول بين كل أقاليم العالم.

ويتوزع الاختراق من الدول الكبرى للدول الصغرى على ثلاثة مستويات:

1- اختراق السلطة (أي أن أشخاصا مرتبطين بالقوى الكبرى يساهمون بشكل كبير في صياغة قرارات الدولة، وقد يكون هؤلاء مرتبطين بالقوة الكبرى كمستشارين للسلطة ويحملون جنسية القوة الكبرى أو عملاء بالمعنى الدقيق أو منتفعين من الدولة الكبرى.

2- اختراق المجتمع: سواء اختراق ثقافي أو اختراق قوى سياسية في الدولة كالأحزاب وجماعات الضغط والنقابات.

3- اختراق النخبة: والمتمثل في قادة الرأي والجامعات والاعلام والفنون…الخ.

مقومات الاختراق: لماذا نحن مخترقون؟

أولا: التهديد المتبادل بين الدول العربية:

أي أن دولة عربية تقوم بتهديد دولة عربية أخرى صغيرة أو ضعيفة، وهو ما يدفع الدول الضعيفة إلى الاستنجاد بالخارج الذي ينتظر مثل هذه الفرصة، ويبدأ بوضع شروطه على المستنجد، وهو ما يؤسس للاختراق، ففي الفترة بين 1947 إلى الآن تبادلت الدول العربية التهديدات ضد بعضها أو الدخول في مواجهات 81 مرة، وهو ما ترتب عليه تكرار المواجهات -على مستويات مختلفة- بين الدول العربية، ونشوب 51 حربا أهلية عربية.. ولعل ذلك يوفر فرصة ذهبية للقوى الكبرى لتضع شروطها لنجدة الضعيف، ومن هنا يتأسس الاختراق والتحكم في القرار.

ثانيا- طول مدة الصراعات البينية العربية:

تشير الدراسات المتخصصة أن طول مدة النزاعات يوفر الفرصة للقوى الكبرى لمزيد من التغلغل، ويكفي أن نشير إلى أن مدد الصراع البيني في الإقليم العربي كان على النحو التالي:

أ‌- هناك 30 صراعا بينيا عربيا استمر كل منها لأكثر من 30 سنة (مثل الصحراء الغربية بين الجزائر والمغرب، الصراع بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي، الصراع بين شمال السودان وجنوبه.. الخ)

ب‌- هناك 8 صراعات استمرت لأكثر من عشرين سنة

ج‌- هناك 11 صراعًا بينيًا عربيًا استمر لأكثر من عشر سنوات

د‌- هناك 6 صراعات استمرت خمس سنوات أو أكثر.

هـ‌- هناك 26 صراعًا استمر لأكثر من سنة.

وما تشير له الأرقام السابقة هو تسارع عدد الصراعات القصيرة وهو ما يعزز عدم الاستقرار الإقليمي وبالتالي إتاحة الفرصة لاقتناص هذه الفرص لاستثمار هذه الصراعات مقابل شروط معينة تجعل من الدولة الكبرى تتغلغل في أوصال عملية صنع القرار، ولعل ما جرى خلال فترة ما اصطلح على تسميته الربيع العربي لا يحتاج للشرح.

ثالثا: التنافس على الدولة الاقليمية المركز:

تتنافس الدول العربية على من تكون المركز هل هي مصر أو العراق أو الجزائر أو المغرب أو السعودية، وتتضح هذه المسالة لو قسمنا الوطن العربي لأقاليم فرعية (الخليج، الهلال الخصيب، شمال أفريقيا.. الخ) حيث سنجد صراعا بين السعودية واليمن والعراق على هذا المركز في الخليج، وبين سوريا والعراق في الإقليم الفرعي الثاني وبين المغرب والجزائر في الإقليم الثالث)، وهذا الصراع على المركز يوفر فرصة للقوى الكبرى لعرض المساعدة في تحقيق الدولة المركز لمن يطلبه، ولكن مقابل امتيازات للدولة الكبرى وهو ما يؤسس ثانية لاختراق عميق مرة أخرى.

رابعا: الإرث الاستعماري:

لو نظرنا في «معظم» تجارة أي دولة عربية سنجد أن المغرب العربي معظم تجارته مع فرنسا وإيطاليا (المستعمر السابق)، وفي الخليج والأردن مع بريطانيا وأمريكا، وهذه التجارة تفتح المجال للشركات الأجنبية المرتبطة بالقوى الكبرى للتغلغل أكثر، وقد عرضت صحيفة الفايننشال تايمز تقريرا حول دور الشركات الأجنبية في تكريس وتعميق الفساد في الدول العربية وهو ما يجعلها بمساندة الدولة الكبرى التي تنتمي لها في موضع التأثير على قرارات الدولة.

خامسا: الغواية المالية:

أي من خلال تقديم القروض أو كفالة الدولة للحصول على قروض أو امتيازات من البنك الدولي أو صندوق النقد أو من الدول الكبرى مقابل شروط اقتصادية (أحيانا تتدخل الدول الكبرى في صياغة التخطيط الاقتصادي للدولة وتساهم في تعيين اشخاص في المواقع المالية الحساسة مثل البنك المركزي أو وزارات التجارة أو الاقتصاد…الخ)، وقد يتم الأمر بالإعفاء من القروض، فالدول العربية التي طبعت مع اسرائيل (مصر والأردن والمغرب) تم إعفاؤها من نسبة من ديونها، والبعض تعهدت له الولايات المتحدة بالحماية الأمنية مثل دول الخليج، سواء كانت الحماية لها من الخارج أو من بعضها البعض، وهو ما يفسر وجود 29 قاعدة عسكرية أمريكية حاليا في الدول العربية.

سادسا: التغلغل في النخب العربية:

ويتم ربط هذه النخب عبر الرباط اللغوي (مثل الفرانكو فونية أو غيرها) أو الرباط التجاري (الكومبرادور) وهو ما يدفع هذه النخب إلى تذويت (Internalize) توجهاتها باتجاه النمط المطلوب من القوة الكبرى، وفي مجال الإعلام تشير دراسة أكاديمية إلى أن 750 فضائية عربية تشكل برامجها المستوردة 60% من مادتها الإعلامية.

سابعا: الاختراق الخشن: وهو الاختراق الذي يأخذ طابعا أمنيا، ويتمثل في:

أ‌- التنسيق الأمني بين أجهزة الأمن المحلية والدولية.

ب‌- السماح لشركات الأمن الخاصة بالعمل داخل الدول العربية (وبعضها له مواقع وسجون وهيئات تحقيق داخل الدول العربية)، وهناك 55 شركة أمنية خاصة تعمل الآن في الدول العربية، وهناك تسعة سجون لهذه الشركات تعمل في دول عربية.

ج- الفساد والرشى بخاصة في صفقات السلاح، ولعل كتاب أنتوني سامبسون عن سوق الأسلحة (Arms Bazaar) خير مرجع لمدى تغلغل شركات انتاج الأسلحة بين الأمراء وكبار الضباط من خلال العمولات والتأثير على القرارات في مجال تحديد جهة شراء السلاح.

ثامنا: التغلغل في المجتمع من خلال:

أ‌- إنشاء مراكز دراسات لإنتاج بحوث موجهة لصالح الدولة الكبرى أو لإجراء استطلاعات رأي لمعرفة توجهات المجتمع وكيفية التلاعب بتوجهات المجتمع، عبر إنتاج دراسات تضلل المجتمع باتجاه تبني منظومات قيمة وفكرية تخدم الدولة الكبرى.

ب‌- التغلغل في بعض هيئات المجتمع المدني وإنشاء جمعيات ذات أهداف مضللة على غرار الترويج هذه الأيام للترابط «الإبراهيمي» وحوار الأديان وغيره أو لإنتاج فنون ذات هدف يخدم توجهات الدولة الكبرى وهو ما يسمى «التسميم السياسي».

أظن أن أية دولة تكون مخترقة في الأبعاد الثمانية السابقة أو أغلبها لن تكون قادرة على الاستجابة لاستغاثة من غزة أو من غيرها، فالمقعد لا يمكنه ان يشارك في سباق المارثون، وهذه الأبعاد الثمانية لا يجري المساس بها لأن هي ركيزة البقاء في السلطة وهو الهدف الذي يعلو على أي هدف آخر..

فهل انتهى العجب والاستهجان لماذا لا تتحرك الانظمة العربية لنصرة غزة؟

ربما.

Please follow and like us:
د. وليد عبد الحي
أستاذ علوم سياسية، الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب