الأحد مايو 19, 2024
بحوث ودراسات

د. وليد عبد الحي يكتب: علم النفس السياسي والرئيس المصري

استنادا لدور الزعيم في التاريخ العربي، يتم اختزال الظاهرة السياسية في توجهات الزعيم وشخصيته، ونظرا لضعف التراث الديمقراطي وسيادة ثقافة القطيع، يصبح المسرح خاليا إلا من الزعيم -بطل المسرحية-، وما أن يجلس هذا الزعيم على كرسي السلطة حتى يتحلق المفكرون والفنانون والاعلاميون حوله إما طمعا في ذهب المعز أو خوفا من سيفه.. لكن ذلك لا ينفي مركزية الزعيم في صنع القرار واتخاذه.

وتتمثل في مصر قيمتان الدولة الزعيم أو المركز (core state) وزعيم دولة المركز (السيسي حاليا)،

وسأتوقف عند الزعيم الذي تبدو ملامح شخصيته في وجهين أحدهما ظاهر والاخر متواري بقصد او دون قصد على النحو التالي:

أولا: طفولته ونشأته الأسرية:

ولد السيسي عام 1954 في قرية كمشوش (المنوفية)، وعاش في حي الجمالية (حي نجيب محفوظ الذي يحبه السيسي، والحي الذي فيه الأزهر، والحي الذي عاش فيه عبد الناصر فترة مع خاله، وخرج منه السيسي وعمره 13 سنة في مظاهرات تأييد لعبد الناصر بعد خطاب التنحي)، كان والده يعمل في مجال الأرابيسك (وهو عمل يشترك فيه كل آل السيسي، ولهم العديد من محلات الأرابيسك في خان الخليلي)، وينتمي لأسرة متوسطة الحال، لكن عبد الفتاح كان الأقل «مرحا» والأقل «حديثا» قياسا لوالده أو بقية إخوته الثمانية، ويبدو من أقوال أخيه أحمد أن العائلة ذات نزعة سلطوية، فأحمد يقول «نحن من عائلة تقود ولا تقاد»، وتشير بعض المراجع أن السيسي كان وهو في المدرسة الابتدائية يطلق أهل بيته وبعض جيرانه عليه لقب «الزعيم» وأنه كان يلصق صورة عبد الناصر على حقيبته المدرسية، وهو ما يعني أن نزعة السلطوية فيه ستدفعه نحو السلطة (كما فعل مع مرسي) وتجعله يتشبث بها مهما كانت الظروف ويقبل أي شيء يطيل عمر رئاسته.

ويبدو أن حرفة الأب التي تحتاج لـ«طول البال» زرعت في عبد الفتاح صفة «الصبر» وعدم «الثرثرة» وعدم الكشف عن ما يدور في ذهنه (فوالده لم يكن يكشف عن طبيعة الشكل النهائي لقطعة الأرابيسك التي يعمل على تصميمها حتى لعماله الذين يعملون معه، وحتى إذا سأله ابنه).

لكن الأهم أن سعيد (اسمه الأصلي حسن) السيسي (والد عبد الفتاح) له زوجتان وله منهما 6 (ولدان وأربع بنات).. أما عبد الفتاح السيسي متزوج من ابنة خالته انتصار، والملفت أن أبناء عبد الفتاح الذكور لهم صلات قوية بالجيش، فابنه محمود رائد في المخابرات الحربية، ومصطفي تخرج في الكلية الحربية ويعمل في الرقابة الإدارية، أما ابنه حسن فمتزوج من ابنة مدير المخابرات الحربية أما ابنته الوحيدة فتخرجت في الكلية البحرية.

وانتقل السيسي من حي الجمالية إلى مدينة نصر بعد أن أصبح ضابطا (3 نجوم) ثم إلى التجمع الخامس بعد أن أصبح مدير المخابرات الحربية.

هناك إجماع على أن السيسي «قليل النشاط الاجتماعي ومحدود الأصدقاء» وارتبط بأمه ارتباطا شديدا، غير مدخن، لا يشرب الشاي أو القهوة نهائيا، يصر على إجراء الفحوص الطبية بشكل دوري.

 ويبدو أن أغلب التقارير المتوفرة حول البعد الاخلاقي له تركز على عدة أبعاد: تدينه مستدلة على ذلك من نواح عدة:

أ‌- مواظبته على أداء الشعائر الدينية (أجبر ابن أخته على صلاة الفجر في المسجد وهو عريس)

ب‌- أن زوجته وابنته الوحيدة وأخواته الخمسة محجبات، وله أيضا ثلاثة أبناء ذكور، وزوجته رفضت خلع الحجاب عندما رشح زوجها للعمل في الولايات المتحدة.

ج- أنه كثيرا ما يستخدم “نصوصا” دينية خلال أحاديثه العادية التلقائية.

د- أن بعض مراجعه في بحثه الوحيد المنشور في كلية الحرب الأمريكية (بعنوان الديمقراطية في الشرق الأوسط) تشير بشكل واضح إلى قبوله بإمكانية التوفيق بين الديمقراطية والإسلام، حيث يناقش فكرتي البيعة والشورى، وهو يرى ضرورة منح التيارات الاسلامية التي تفوز الفرصة وإلا سيفقد شعب المنطقة الثقة بالغرب.

أما البعد الثاني فيتمثل في أن التقارير المنشورة حول «الفساد» في المؤسسة العسكرية لا تأتي على ذكره بأي شكل من الأشكال تلميحا أو تصريحا (خلافا لطنطاوي مثلا).

ويبدو لي أن هذه السمات الدينية والأخلاقية هي التي «أغرت» مرسي لاختياره والاطمئنان له (وهو وصف قاله مرسي حرفيا).

ثانيا: خلفيته الفكرية:

درس السيسي في كليات عسكرية مصرية، وبريطانية، وأمريكية، وكتب بحثا وحيدا هو: الديمقراطية في الشرق الأوسط (democracy in the M.E) وأشرف عليه الكولونيل الأمريكي ستيفن جيراس، وقدمه لكلية الحرب الأمريكية في بينسلفانيا- سنة الدراسة 2006، وأبرز ما في هذا البحث (وهو ورقة بحثية قصيرة تضم 17 صفحة وأغلب مراجعه عربية وأسلامية) ما يلي:

أ‌- أنه يرى أن الديمقراطية في الشرق الأوسط يجب أن تراعي خصوصية ثقافة المنطقة، وتتمثل هذه الثقافة في الثقافة الدينية.

ب‌- يرى أن الثقافة الدينية يتجاذبها تياران أحدهما متطرف والآخر معتدل، وهو يرى أن التيار المعتدل يجب السماح له بالحكم على أساس التوفيق بين ضرورات العصر والدين.

ج- يرى أن الديمقراطية لكي تتحقق في الشرق الأوسط لا بد من:

1- تسوية النزاعات السياسية في المنطقة

2- نشر التعليم وعدالة توزيع الدخل وفسح المجال للاستثمارات الخارجية لا سيما الغربية منها.

 د- وحول دور المؤسسة العسكرية يرى أنها يجب أن تنحاز «للأمة لا للحزب الحاكم».

 هـ- وحول الولايات المتحدة يقول إنه لضمان مصالحها «دعمت أنظمة غير ديمقراطية ودعمت أنظمة ليست بالضرورة تحظى باحترام في الشرق الأوسط» مثل أنظمة «دول الخليج، السعودية، نظام صدام، المغرب، الجزائر»، والديمقراطية لن تنجح في الخليج إذا كانت دوافعها خدمة المصالح الأمريكية، وهناك من يرى أن الحرب على الإرهاب هي قناع لإقامة ديمقراطية على النمط الغربي.

 و- يقول السيسي في بحثه أن التاريخ يشير إلى ان العشر سنوات الأولى في الديمقراطية الجديدة سيغلب عليها الصراع. وان على القيادات الدينية أن تخلق قناعة لدى الشعوب بان لا تناقض بين الديمقراطية والدين. ويحذر من خطورة الاسراع في تحقيق الديمقراطية دون مراعاة التغيير في الثقافة والتعليم والوضع الاقتصادي.

 ز- يتوقع في بحثه أن يسود في المنطقة ثلاثة أنماط:

1- نظم دينية متطرفة (مثل المقاومة الإسلامية في غزة).

2- نظم دينية معتدلة مثل مصر.

3- نظم على الطريقة الغربية.

والذي سيرجح أحد هذه الانماط حسب دراسة السيسي هو مدى نجاح النموذج العراقي (الذي تبنته الولايات المتحدة)، ثم مستوى التعليم ودور وسائل الاعلام..

ويدعو بشكل عام إلى السير على خطى تقود إلى ما يشبه نموذج الاتحاد الأوروبي

ثالثا: حياته العملية:

كل حياته قضاها في المؤسسة العسكرية، عمل ملحقا عسكريا في السفارة المصرية في الرياض، وشارك في حرب الخليج الثانية.

ما الذي نخلص إليه من تحليل ظاهر وباطنه الرجل؟:

1- أن الرجل متدين معتدل.. لكنه ضعيف أمام إغراء المنصب، ويبدو أن هذا الضعف جاء من مصدرين: زواج والده على أمه جعله أقل ميلا للاطمئنان لغوائل الدهر، فأمه كانت مخلصة جدا لزوجها لكنه خدعها، وأن عزلته الاجتماعية كانت نتيجة حالة من «الاكتئاب الناتج عن زواج والده على أمه» وبخاصة أن أمه كانت حنونة كثيرًا حتى على أبناء «ضرتها»، فبدت أمه في لا وعيه أنها لا تستحق الزواج عليها.. وشكل ذلك فقدانه الثقة بأي شخص.

وعندما بدأ الإعلاميون في حشد التأييد له، وتزايدت صوره في الشوارع، دغدغت هذه الشعبية عقدة العزلة الاجتماعية له، لكنه لم يقبل عليها باندفاع طائش بل بالروية التي تشربها من والده في صناعة الارابيسك التي تحتاج لمهارة في «النحت» والصبر الطويل وعدم الكشف عن خبايا ما ينحته

2- أن الرجل يقول غير ما يفعل: ففي بحثه الذي أشرت له يقول إنه «لا بد من منح الحركات الدينية المعتدلة الفرصة للحكم.. وأن العشر سنوات الأولى في أي تحول ديمقراطي تتسم بالتنازع»، لكنه قام بعكس ذلك تماما..

وهو ما يعني أن البعد المتواري في شخصيته مركب من قلق الخديعة (ترسبت فيه من تجربة والدته التي لم تسعفها طيبتها) وعدم كشف نواياه (من صناعة الارابيسك) ونزعة الاستبداد (من نمط الحياة العسكرية وبخاصة الجانب السري في عمله في المخابرات الحربية).

3- يصف النظام السعودي ودول الخليج في بحثه انهم دول «غير ديمقراطية ومستبدة»، لكنه أثني عليهم بمجرد تقديم المساعدات لمصر، وهو ما يعني أولوية الكسب على القيم.

ماذا يعني ذلك:

أ- أن الواقع السياسي أعقد كثيرًا من التصور النظري العابر، وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه «الإخوان المسلمون» في مصر، {إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت}..

أعتقد أن السيسي سيواجه عددا هائلا من المشكلات القديمة على المدى المتوسط (الفقر والفساد والدولة العميقة.. الخ)

ب- لمصر صورة مهيبة ومتعالية في ذهن أبنائها ومنهم الرئيس، لكن الواقع المحلي والإقليمي والدولي ينهش في هذه الصورة، ويجد السيسي صعوبة في العودة بمصر لمكانتها الإقليمية، كما أنه حاصر نفسه بتقديمه في فترة كخليفة لعبد الناصر (فالظروف مختلفة تماما)، لكني أعتقد أن الرجل مطمئن إلى استمرار تأييد العسكر له وهذا ما يهمه.. فالرجل معني بـ«مركزه السلطوي بأية طريقة» ثم بمركز مصر وليس العكس.

Please follow and like us:
د. وليد عبد الحي
أستاذ علوم سياسية، الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب