مراجعة العلاقات العربية البينية خلال الفترة من 1967-2025 (أي منذ هزيمة مصر والأردن وسوريا والعراق)، تكشف عن “عقدة” في فهم العقل العربي، فالخطر الخارجي – حتى لدى كل مكونات المملكة الحيوانية – يدفع الكائن إلى اليقظة والتحفز، ثم التعلم من الخبرة التاريخية التي مر بها، ثم تحديد آليات التكيف مع التغيرات التي تجري من حوله. وإذا كان تشارلز داروين بنى نظريته على أساس “البقاء للأصلح”، فإن العرب لا يستحقون البقاء لأنهم ليسوا الأصلح، فكل هزيمة تدفعهم نحو تعظيم أخطائهم وتكرارها، وتتكاتف ثقافة مجتمعية بالية مع نخب من المرتزقة يتحلقون حول حكام جاء معظمهم بحكم الحيوان المنوي أو التزوير الانتخابي.
كانت هزيمة 1967 هزيمة قاسية جداً، فبدلاً من الاعتراف بقسوتها أسميناها “نكسة”، كالمريض المصاب بالسرطان فيصف مرضه “بالوعكة”، وبدلاً من أن نبحث في بناء الصف الواحد رحنا نتآمر على بعضنا، وعادت الذهنية القبلية وبرعونة أكبر. ويكفي أن نتأمل المشاهد التالية خلال الفترة من 1967-2025: (وهذه المشاهد هي جزء من دراسة اقتربت من استكمالها ونشرها قريباً):
أولاً: قطع العلاقات الدبلوماسية أو التجارية بين الدول العربية:
عرفت العلاقات الدبلوماسية العربية نمطين من قطع العلاقات، بعضها نتيجة خلاف بين بلدين (المغرب والجزائر على سبيل المثال)، وأحياناً نتيجة خلاف بين بلد واحد وعدد من الدول العربية (الخلاف مع مصر بعد كامب ديفيد، أو مع العراق بعد احتلال الكويت، أو مع سوريا خلال اضطرابات ما سمي بالربيع العربي… إلخ). وعند تتبع كل هذه الحالات الفردية والجماعية خلال فترة الدراسة من 1967-2025 (أي 58 سنة)، تبين لنا أن عدد المرات التي تم فيها إعلان قطع العلاقات (الفردية أو الجماعية) هو 23 مرة، وهو ما يعني أنه في كل عامين ونصف هناك قطيعة دبلوماسية بين طرفين عربيين أو أكثر.
وعند حساب معدل عدد الدول في حالات القطع الجماعية (كما جرى مع مصر في كامب ديفيد أو مع قطر في أزمة 2017 أو مع العراق في حرب الكويت… إلخ)، فإن المعدل العام هو 5 دول، وهو ما يعني أن عدد المرات التي مارست فيها الدول العربية قطع العلاقات مع عضو معها في الجامعة العربية هو 115 مرة (23×5)، أي أن هناك بيانين بإعلان قطيعة دبلوماسية كل عام. فهل هذا يدل على وعي؟ بينما قتلت إسرائيل وجرحت ما يقارب ربع مليون فلسطيني ولم تجرؤ دولة من دول التطبيع على قطع العلاقة معها.
وعند تتبعي لوتيرة هذه المقاطعات، كان سبب القطيعة الأكبر هو المشكلات السياسية الكبرى مثل تداعيات حرب 1967، حيث كانت الأردن ومصر هما الأكثر تعرضاً للقطع في الفترة التالية لحرب 1967-1977. وفي الفترة التالية حتى عام 1989، وهي فترة كامب ديفيد، قاطعت 9 دول عربية مصر. وفي الفترة 1975-1990، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، جرى قطع العلاقات بين 3 دول. أما في الحرب العراقية الإيرانية فتم قطع العلاقات بين سوريا والعراق، واتسع النطاق خلال حرب العراق والكويت حيث أصاب قطع العلاقات 11 دولة (ممن ناصروا أحد الأطراف). أما الربيع العربي فحمل معه 11 حالة قطع علاقات بين دول عربية، ثم تبع ذلك الأزمة القطرية مع دول الخليج وقطعت العلاقات معها وانضمت مصر للقطع، كما أن العلاقات الجزائرية المغربية عرفت قطعاً متباعداً. فخلال الفترة 1967-1970 تم قطع العلاقات من قبل 5 دول عربية، وفي مرحلة 1977-1979 شمل القطع 7 دول عربية، ودولتان عام 1980، و11 دولة خلال الفترة 1990-2000، بينما بلغ العدد 12 دولة عربية خلال الفترة من 2010-2021، وهكذا دواليك.
ولا ينتهي الأمر هنا، فقد كان من بين أسباب قطع العلاقات 12 حالة لأسباب إعلامية أو رياضية أو حادث تافه (تصريح أو سخرية من مسؤول أو كاريكاتير أو سبب رياضي… إلخ)، وهو ما يعني أن حوالي 10% (تقريباً) من حالات القطع تكشف عن عمق التفاهة في هذه الأنظمة، واختصار العلاقات الدولية في نزق مسئول لا ينتمي للعصر بل قد يكون مريضاً نفسياً، لكنه يجر دولتين أو أكثر لعقده.
وعند انتقالي لتحديد الدول الأكثر عرضة لقطع العلاقات العربية معها، تبين – من حيث عدد المرات – أنها سوريا (7 مرات، قطع فردي أو جماعي) تليها مصر (6 مرات). ولكن لو حسبنا عدد الدول التي قاطعت في كل مرة يتبين أن مصر تقف في رأس القائمة التي قاطعها عدد أكبر من الدول العربية في فترات مختلفة ومتباعدة أحياناً، وهو ما يكشف أن الدولة “المركز” للإقليم العربي فاقدة مركزيتها، ولكنها تتصرف بوهم المركز، فهي مركز ليس له محيط.
ثانياً: الاشتباكات العسكرية على الحدود بين دول عربية:
وقد رصدت هذه الاشتباكات (بين الجيوش) التي دامت أكثر من يوم واحد، فكان العدد 13 مرة. (ولن أدخل في الحروب الأهلية داخل الدول العربية، فهذه لها حساب آخر).
ثالثاً: إغلاق الحدود بين دولتين أو أكثر عربية:
فقد وقع هذا الإغلاق خلال نفس فترة الدراسة 7 مرات.
رابعاً: التبادل التجاري:
تزداد الصورة قتامة بمؤشر آخر، وهو أن معدل التجارة البينية العربية تراوح في حدود 12%، مما يعني أن الروابط العضوية التي تلجم الروابط الآلية لا تشكل كابحاً للقطيعة الدبلوماسية أو إغلاق الحدود أو الاشتباك العسكري.
مقابل ذلك، دول الاتحاد الأوروبي وخلال نفس الفترة (رغم تباينهم العرقي واللغوي والمذهبي، ورغم الإحن التاريخية بينهم) لم يحدث أي قطع للعلاقات الدبلوماسية نهائياً، ولم تغلق الحدود ولا مرة واحدة، ولم يشتبكوا في أي مرة، وبلغت تجارتهم البينية حتى العام الماضي 61.7%… وإن نسبة التشارك في البحوث العلمية تزداد سنوياً بمعدل 3.8%، لتبلغ الآن حوالي 47% تقريباً. فإذا توافقت المصالح وتوافق العقل سارت القافلة، أما عندنا فلم يخطر ببالي إلا بيت الشاعر العراقي علي الشرقي:
قومي رؤوسٌ كُلُّهم – أرأيت مزرعةَ البصل..