رباب محمد تكتب: الملثمون أمراء الظل
يصرح كهلٌ من بين آثار الدَّمار في غزة متحدثاً عن مناضلي كتائب القسام: «هؤلاء تاج رأسي من يؤذون بثأر الشهداء، هؤلاء أسود العصر الحديث، كنا نقرأ في الكتب عن فرسان العصر القديم (فارس يقتل أسداً) ولآن عندنا فارس يحرق دبابة بما فيها من جنود، وفارس يتصدى لرتل من الدبابات الإسرائيلية، عندنا الآن فرسان وأبطال وأناس مؤمنين ومسلمين بقدر الله لم يشهد لهم التاريخ مثيلاً، وعلى كُتَّابِ وصحفيي هذا العصر أن يكتبوا للتاريخ عنهم، ونحن في غزة سنبقى صامدين، أشلاء أو كاملين، أحياء أو أموات، فوق الأرض أو تحتها، سنبقى صامدين ولا نملك إلا أن نصمد، هذه أرضنا وتعلمنا من تجربة ثمانية وأربعين ولن نعيد الكَرَّة مرة أخرى.
وها هم القساميون يكشفون كل يوم جديد عن مستوى أعلى من القتال المنظم المعد المحكم المذهل للصديق قبل العدو؛ يستخدمون تكتيكات الضرب والاختفاء السريعين، ليونة جسدية عالية، دقة في إصابة الهدف، خفة في التحرك، والضربات السياسية المتلاحقة على لسان الناطق الرسمي لكتائب عز الدين القسام «أبو عبيدة».
«أبو عبيدة» أصبح أيقونة للكتائب وقد لقي اهتماماً كبيراً واشتغل المحللون به بدأ من لثامه إلى صوته ولغته الفصحى وقوة عبارته وكثرة ذكره لعبارات تثبت عقيدته الراسخة، وذكائه الملفت للنظر.
لفهم كل هذه المعطيات يشرح المهندس «عبد الله البرغوثي» في كتابه «مهندس على الطريق وأمير الظل» أسرار كتائب القسام وكيف خط هذا المهندس الفذ اللبنات الأولى لهذه الكتائب لتكون على ما عليه الآن، والنقلة النوعية لجهاد الكتائب من الحجارة إلى العبوات الناسفة والأحزمة المتفجرة.
المهندس التحق في كوريا بمعهد لتعلم الإلكتروميكانيكيا، وعمل في الوقت ذاته على اختراق الشيفرات للمواقع الالكترونية فحصل على ما يريد من معلومات في تركيب العبوات المتفجرة من المواقع العسكرية السرية،وأجرى الكثير من التجارب في غابات كوريا في صنع العبوات المتفجرة، وهناك بعد ست سنوات كون ثروة جيدة وانتقل بها إلى الأردن.
ثم انتقل إلى فلسطين وهناك بدأ بالعمل.
استخدم ذكاءه لتشكيل نظام أمني معقد قائم على السرية التامة،اتخاذ العقاب القائم على التخطيط والإتقان وإصابة الهدف أساس للعمل ضدَّ المحتل بدلاً من الثأر المتهور أو الانتقام الأعمى.
اختيار المساعدين بحذر شديد، اللثام.. يمنع نزع اللثام عن الوجه فيما بينهم، عدم استخدام الأسماء الحقيقة مطلقاً، استخدام ألقاب بدلاً عنها، استخدام اللغة العربية الفصحى في التحدث، وكل هذا لحماية أعضاء التنظيم في حال سقوط أحدهم في الأسر. مراقبة كل عضو جديد لفترة طويلة قبل انخراطه في العمل، عدم الرحمة مع الخونة.
يحدثنا المهندس «عبد الله» في كتابه أنه تعامل مع قسامي لفترة طويلة،وكان يسأل كثيراً عن المهندس «عبد الله» فينهره ويقول: «ومن عبد الله؟! إنه مجرد مهندس لا أكثر، انتبه لعملك» والتقي به فيما بعد في السجن، ليعرف بعد ما يزيد عن عشر سنين أنه قريب له من الدرجة الثانية وقد تعامل معه لسنوات ولم يتعرف عليه من تحت اللثام.
وحدثنا عن الإعداد الطويل لقادة الكتائب حيث يُتَخَيَّرُ أفضل العناصر إعداداً بدنياً وعقائدياً ثم أذكاهم وأسرعهم تعلماً وأكثرهم انضباطاً، بعد تدريبهم على الحذر الأمني العالي ومراقبة الأهداف لفترات طويلة، والتخطيط المتقن والانضباط في تنفيذ الأوامر، تنقل لهؤلاء طريقة صنع المتفجرات والردارات الالكترونية اللازمة لتفجيرها، ثم توكل لهم مهمة إنشاء خلايا سرية.
وفي الكتاب أيضاً شرح طويل عن التجهيز للعمليات الاستشهادية، يراقب الاستشهادي زمناً قبل أن توكل له أي مهمة، ويراقب الهدف والطريق الموصلة إليه، وتحديد ساعة الذروة في المكان.
وكان المهندس «عبد الله» يحرص أن يقضي الاستشهادي ليلته الأخيرة بالقرب منه يتلو معه القرآن ويقوم الليل ثم يودعه ويسجل له وصيته لناس ولعائلته الخاصة.
كان يلاحظ عبارات الاستشهاديين وانشراح صدورهم واطمئنانهم والإضاءة على وجوههم، فإن وجد في الاستشهادي غير هذا أوقف عمليته وأوكلها لآخر.
وقع المهندس «عبد الله البرغوثي» ـ الاسم الثاني منتحل ـفي يد الصهاينة وتعرض للتعذيب لسنوات ولم يدلِ بأي معلومات عن أسرار الكتائب.
وبقي خلفه آلاف الملثمين المدربين جسدياً وعقائدياً وعسكرياً يطورون الأسلحة ويضعون الخطط وينفذونها، يضعون شروط الصفقة الجميع مقابل الجميع.
هؤلاء هم الأسود من بعده مهندسين على الطريق وأمراء الظلال.